المعين على تدبر الكتاب المبين سورة الحجرات - 3 –

الشيخ مجد مكي

[وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ] {الحجرات:9}
وإنْ جماعتان من المؤمنين قاتل بعضهم بعضاً، فاسْعَوا بالصلح بينهما ـ أيُّها المؤمنون ـ بالنُّصح وإزالة الشُّبهة وأسباب الخصام، وبالدعاء إلى حكم كتاب الله، والرِّضا بما فيه لهما وعليهما، فإنْ اعتدت واحدة من الطائفتَيْن المُتقاتلَتيْن على الثانية، متجاوزةً الحق ،وطلبت العلو بغير ما تستحق، وأبت الصُّلحَ والإجابة إلى حكم كتاب الله، فقاتلوا التي تَعَدَّت بغير حقّ، حتى ترجع عن بغيها وظلمها إلى كتاب الله الذي جعله الله حَكَماً بين خلقه، والذي يأمر بالعدل والاستقامة، فإنْ رَجَعت إلى الحقِّ،وقبلت تحكيم شرع الله، فأصلحوا بينهما بالعدل والإنصاف ولا تكتفوا بمجرد فضِّ النزاع بل لا بد من مجازاة المعتدي وتعويض المعتدى عليه حتى تأمنوا عدم رجوع العداوة ، واعدلوا في آثار الحكم وطرق تنفيذه ،وفي كلِّ أحوالكم وأقوالكم وأعمالكم لا في الحكم فقط ، إنَّ الله يُحبُّ العادلين، فيُجازيهم أحسن الجزاء، ويدخلهم جنَّات النعيم، لأنَّ من أحبَّه الله أكرمه، وأدخله في رحمته.
[إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] {الحجرات:10}
إنَّما المؤمنون إخوةٌ مشتركون في الالتقاء الفكري على عقيدة علميّة واحدة، وفي التقاء القلوب على عاطفة دينية وأهداف غائيَّة واحدة، والتقائهم على أحكام تشريعيَّة وقيادة واحدة، فأصلحوا بين أَخَوَيكم إذا اختلفا واقْتَتلا،وبالأوْلى بين إخوانكم الأكثر من اثنين ، واتَّقُوا الله وتجنّبوا غضبه فلا تعصوه، ولا تُخالفوا أمره؛ رجاء أن تنالوا رحمته سبحانه وعطفه بالإحسان إليكم لتقواكم .
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] {الحجرات:11}.
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ] يا أيُّها الذين صدَّقوا الله ورسوله، واتَّبعوا شريعته لا يستهزىء رجالٌ من رجالٍ، بتحقيرهم واسْتصغارهم، أو تحطيم مكانتهم، أو مقاومة أفكارهم وأعمالهم بالباطل، أو للتسلية أو الضحك، عسى أن يكون المُسْتَهزَىءُ بهم خيراً وأفضل من المُسْتهزِئين بكثير، في إيمانهم وطهارة قلوبهم، وتقواهُم؛ لأنَّ السخرية ظلمٌ قبيحٌ من الإنسان لأخيه الإنسان، وعدوانٌ على كرامته، وإيذاءٌ لنفسه، ومن آثارها: تقطيع الروابط الاجتماعيَّة، وبذْر بذور العداوة والبغضاء، وهي لا تخلو من اعتراضٍ على الخالق في ابتلائه لعباده، إذا كانت السخرية من أمرٍ لا يملك المسخور منه تعديله، أو لتغطية نقص الساخرين وغمط كمال أهل الكمال، إذا كانت السخرية من الناقصين للكاملين، [وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ] ولا يستهزىءُ نساءٌ مؤمنات؛ من نساء مؤمنات، عسى أن يَكُنَّ عند الله خيراً وأفْضَل من المسْتهزئات. [وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ] أي: ولا يَعِبْ الإنسان أخاه في وجهه بكلامٍ ولو خفيٍّ؛ لأنكم كالجسد الواحد، فمن آذى نفس أخيه المسلم فكأنما آذى نفسه، ومن يَلْمز غيره يُعرِّض نفسه للانتقام منه باللمز، فهو إذْ يلمز الناس يتسبَّب في أن يلمزوه، وَرُبَّ لَمْز خفيٍّ أشدُّ من طعن صريح، لأن فيه معنى استغباء الملموز واستغفاله، فكأنه لا يتنبَّه إلى الطعن المُوجَّه ضده في رمز الكلام وحركات الوجه. [وَلَا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ] أي: ولا تدعوا الإنسانَ بغير ما سُمِّي به ممَّا يكرهه المُنادَى به، أويفيد ذمَّاً له، أو تحقيراً وتنقيصاً، أو غضَّاً من كرامته، وخَفْضاً من مكانته.
[بِئْسَ الِاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ] أي:   بلغ الغاية في السوء والقبح والفساد أن يرتكب المؤمنون عملاً يطلق عليهم بسببه اسم الفسوق والخروج عن أحكام الشرع، بعد اتِّصافهم بالإيمان، وتحلِّيهم بهذا الاسم الذي هو أشرف الأسماء وأكملها.
[وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] أي:    ومن استمرَّ على فسقه ولم يَتُبْ من السُّخرية واللمز والنَّبْز، ويندم على ذنبه،ويتعهد بتركه، ويطلب العفو من الله ومن المتضررين، فأولئك البعداء عن رحمة الله هم المتجاوزون للحق الواضعون الشيء في غير موضعه ،الظالمون لأنفسهم بتعريضها للعذاب على ذنوبهم ومخالفتهم، والظالمون لغيرهم بإيذائهم وإهانتهم.


جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين