المعين على تدبر الكتاب المبين سورة الحجرات - 2 -

ونزل في وفد بني تميم الذين جاؤوا وقت الظهيرة ، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم في منزله ، فنادَوه :أن اخرج إلينا ، يا محمد.
[إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ] {الحجرات:4} .
والمعنى : إنَّ الذين يدعونك باسمك ـ يا رسول الله ـ من خلف جدران حُجُراتك مكان استقرارك وراحتك بصوتٍ مُرتفع بغلظة وجفاء لبعض مسائلهم، أكثرهم موصوفون بالطيش والجهل والبعد عن الذوق والنظام، لا يعقلون عقلاً علمياً ما ينبغي لمقامك الرفيع من التوقير والإجلال، ولا يملكون إرادات قويّة حازمة تضبط نفوسهم، وتعقلها عن التَّسرُّع غير المحمود.وإنما قال سبحانه: ( أكثرهم) تلطفاً في إصلاحهم ؛ لأنَّ كل واحد يظن نفسه من القليل لا من الكثير المستحقِّ للذمّ، فيحسن حاله ، ولا يلجُّ به العناد فيرتفع منه الحياء فيهلك.
[وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] {الحجرات:5} .
ولو أنَّهم صبروا ولم يُسِيئوا الأدب، ويتعجَّلوا في خروجك من منزلك من تلقاء نفسك، لكان الصَّبْرُ خيراً لهم عند الله وأفضل من الاستعجال والصراخ، لما يكون في التريث من حفظ الأدب وتعظيم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، والله سبحانه كثير السَّتر للذنوب، عظيم الرحمة لمن تاب منهم عن الغلظة والجفاء في الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ونزل في الوليد بن عقبة ،وهو صحابي من فتيان قريش، أخو عثمان بن عفان لأمه ،أسلم يوم فتح مكة ، وقد بعثه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بني المصطلق جابياً للصدقات والزكاة ، فخافهم لعداوة وثأر كانت بينهم وبينه في الجاهلية ، فرجع وقال : إنهم منعوا الصدقة وهمُّوا بقتله .وقد بنى رأيه على الظن دون تثبت وتحقيق، فهمَّ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم بغزوهم، فجاؤوا مُنكرين ما قاله عنهم، فأرسل صلى الله عليه وآله وسلم إليهم بعد عودتهم خالداً، فلم يرَ فيهم إلا الطاعة والخير ، فأخبر النبيَّ بذلك.
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ] {الحجرات:6} .
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله، وعملوا بشريعته، إنْ أتاكم وحضر إليكم خارجٌ عن حدود شريعة الله بأيِّ خبر له خطر وشأن، فاطلبوا بيان الأمر وانكشاف الحقيقة،وتحققوا بالدليل القاطع ، ولا تعتمدوا على قول الفاسق المخلِّ بشرع الله؛ خشيةَ أن تخصُّوا وتنالوا بالقتل والسَّبْي جماعة من الناس، جاهلين حالَهم وحقيقةَ أمرهم، فتُصْبحوا على ما اكتسبتم وتحمَّلتم ـ من تلبسكم بالجهالة والتهور وترك التَّبيُّن ـ مُغْتمِّين غمَّاً لازماً، تتمنَّون أنَّ هذا الأمر لم يقع منكم.
[وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكُفْرَ وَالفُسُوقَ وَالعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ] {الحجرات:7} .
وتيقّنوا ـ أيُّها المؤمنون ـ ولا تنسوا أنَّ بينكم رسولَ الله، فاتَّقوا الله أن تقولوا باطلاً أو تكذبوا، فإنَّ الله يُخبره ويُعرِّفه بحالكم فتفتضحوا، لو تابَعَ طاعتكم في كثيرٍ ممَّا تخبرونه به، فيحكم برأيكم، ويعمل بما تشيرون به وتطلبون منه ، ويأتمر بما تبلغونه إيَّاه، لأَثِمْتُم ووقعتم فيما فيه مشقتكم وتلفكم وهلاككم .
 ولكنَّ الله حَبَّبَ إليكم الإيمان، تصديقا بالقلب ، وإقراراً بالقول ، وعملاً بالأمر والنهي، وحسَّنَه وقرَّبه منكم، وأدخله في قلوبكم حتى اخترتموه،فصرتم لا تتحولون عنه ، وبغَّض وقبّح إليكم التكذيب بالحق والجحود لنعم الله ، والخروج عن طاعته ممَّا يدخل في كبائر الإثم، والمعاصي التي لا تتجاوز حدود الصغائر، أولئك المؤمنون المُحَبَّب إليهم الإيمان، المُزيَّن في قلوبهم،المكرَّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان، هم الثابتون على دينهم ، المستقيمون على طريق الحق،المهتدون إلى مَحَاسن الأعمال، ومكارم الأخلاق.
[فَضْلًا مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] {الحجرات:8} .
وهذا الخير الذي حصل لكم فَضْلاً من عند الله، ونعمةً عليكم، واللَّهُ عليمٌ بكم وبما في قلوبكم، مبالغٌ بإحاطته بكلِّ شيءٍ قبل وجوده وبعده، حكيمٌ بكمال علمه وإحسانه في تدبير أمور خلقه.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين