قصص القرآن

العلامة : محمد الغزالي

كان القصص الحسن من أبرز الأساليب القرآنية في شرح الإسلام وبيان رسالته، ومزج تعاليمه بالقلوب...
 
ولم يكن هذا القصص الواعي المحكم سرداً مجرداً لبعض الروايات القديمة يتلى بها السامعون ثم يغفلون عند حكايتها أو يتعظون، لا، أن هذا القصص كان تأريخاً لسير الدعوة الدينية في الحياة، وكيف خطت مجراها بين الناس منذ فجر الخليقة؟ وما هي العقبات التي اعترضتها؟.
 
وهل وقفت عندها أو تغلبت عليها؟ وماذا صنع الأنبياء بإزائها؟ وكيف قبلت الأمم المدعوة رسالات الله أو صدت عنها؟ وبم انتهى الصراع بين الغي والرشد؟؟.
 
والحكمة المنشودة من وراء هذا القصص المترسل المكرر تقرؤها في ختام سورة يوسف: [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] {يوسف:111}.
 
فالقرآن كتاب الدعوة وتاريخها، وفي تضاعيف السرد التاريخي لأخبار الأوَّلين يزداد عرض الدعوة وضوحاً ويستبين منهجها الذي تحدو البشر إليه، لا يختلف وإن اختلفت العصور وكرت الدهور...
 
الأنبياء من آدم ونوح، ثم من جاء بعدهم... إلى أن تُوِّجوا بخاتمهم محمد بن عبد الله... هؤلاء جميعاً شرحوا أصول العقيدة والخُلق والمعاملة شرحاً فياضاً بالصدق عامراً بالإخلاص.
 
وإنك لتسمع إليهم واحداً بعد الآخر - فيما سجل القرآن من وصاياهم ونصائحهم وإرشادهم لأممهم ـ فتجد كلاماً منسقاً وهدياً منسجماً، صدر عن مشكاة واحدة، وانساق إلى هدف واحد، يمهّد أوله لآخره، وتصدّق نهاياته بداياته، وكأنهم خطباء في حفل واحد، اجتمعوا في أمسية موعودة أو ليلة مشهودة، وليسوا رجالاً توزعتهم أكناف القرون المتطاولة فبين النبي والنبي أعصار وأعصار، وبين الأمة والأمة غبرت قرى وبادت أمصار...
 
وكما يدل هذا القصص الموصول على حقيقة الدين: ويحدّد تحديداً حاسماً الطريقة الوحيدة لمرضاة ربّ العالمين، كذلك يدل على طبائع الناس ووسائل علاجها وسنن الله في عقابها أو معافاتها...
 
فإن الإنسان هو الإنسان، من مائة قرن خلت إلى مائة قرن يلدها المستقبل المنظور ـ لو امتد أجل الحياة ـ لن تتغير طبيعته: ولن يتبدل جوهره...
 
وقد تتغير وسائل تعبيره عما ينوي، وقد تتبدل مظاهر أشباعه لما يريد، ولكنه هو هو، إذا استكبر فلم يجد إلا خبيئة خلقه تبختر فيها وخرج من كهفه مغروراً، وعندما يرتقي العلم وتتحول البيئة يلبس المسلم من نسج الآلات وينطلق في الميادين مزهواً...
 
وإنك لتتأمل في قوم نوح من قبل الطوفان، أي من قبل ازدهار العمران فتراهم يرفضون رسالة نوح رفضاً ينضح بما يعمل في قلوبهم من غيرة وحسد: [فَقَالَ المَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ] {المؤمنون:24}.
 
إن هذه الغريزة الرديئة الطافحة بالإثم لم تزد ولم تنقص من سبعين قرناً إلى هذه الأيام التي نحيا فيها الآن...
 
هي في قوم نوح صورة كاملة لما نراه في أنحاء الشرق والغرب، فإذا وعى القرآن قصص الأوَّلين مع أنبيائهم، وجدَّد على الناس ذكرها بعد ما طوت الليالي أصحابها فلكي يداوي عللاً متشابهة...
 
وقد كثرت القصص لتحصي جملة كبيرة من الأمراض الاجتماعية، وتستأصل جرثومتها بصنوف العبر وشتى النذر...
 
إن الحضارات المندثرة كجثث الموتى قد يشرحها مبضع الطبيب ليتعرف أسباب هلاكها، وليضيف بهذه المعرفة حصانة جديدة إلى علم الطب تتوقى بها الإنسانية ما تجهل من متاعب وآلام...
 
والمجتمعات التي طواها الماضي وهمدت تحت الثرى يجب إذا نضبت الحياة منها أن تتعرف كيف عاشت؟ وكيف تصادقت وتخاصمت؟ وهل تلاقت على جد أو مجون؟ واستجابت للحق أو للباطل؟..
 
إن هذه الأسئلة تعنينا نحن، وعلى ضوء إجابتها قد تستقيم خطانا من عوج، وقد نوفَّق للصواب بعد شرود...
 
والقرآن الكريم ـ وهو يحكي أنباء الأوَّلين ـ يحولها إلى دواء سائل عام، ثم يسكب من قطراته على نفوس المعاندين يبغي شفاءها دون نظر إلى تراخي القرون واختلاف المخاطبين...
 
ولذلك تراه يروي مثلاً لأهل مكة المكذبين بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم قصة نوح وقومه ويأخذ في سرد أحداثها وتتبع مراحلها...
 
وفي أثناء هذا السرد المستغرق تقرأ هذه الآيات [قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ(32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ(33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ(35) ]. {هود}..
 
إن تشابه الأحوال واستواء المواقف هو الذي سوَّغ هذه النقلة البعيدة، وجعل العبرة تتقذف من خلال هذا القصص المطَّرد، ثم ترجع حلقات الرواية لتتماسك من جديد وتقرع الأسماع بقصة نوح فتترك محمداً وقومه، وترجع القهقرى ألوف السنين... ثم تقرأ بعدها هذه الآيات:[وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ وَاصْنَعِ الفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ] {هود:37}. وتصل القصة إلى ختامها الرهيب، ويعود أمر الانتفاع بها مرة أخرى يصل الماضي بالحاضر فتسمع المولى جل جلاله يقول لنبيِّه:[تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ العَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ] {هود:49}.
 
إن القصص من أنجع الطرق التي اتبعها القرآن الكريم في تأديب النفوس، وسياسة الجماعات، والمحاورات النابضة التي أثبتها هي معالم خالدة لضبط الحقيقة، وتوليد العبرة منها...
 
ولا ريب أن ما يعقب هذه الأخبار المرويَّة من مَغَاز وتعليقات مثير حقاً.
ومع ذلك فإن الحوار نفسه قد يتضمَّن من المعاني ما يجتاز به نطاق قصته ليكون خطاباً يتردَّد صداه عبر الزمان والمكان...
انظر إلى موقف الرجل المؤمن في آل فرعون وتتبَّعه وهو يناشد قومه أن يثوبوا للرشاد، ويخضعوا للحق...
 
لقد كان هذا الرجل الكبير مثلاً في أناته وثباته، بدأ يتكلم وكأنه محايد لا يعنيه من الأطراف المتنازعة إلا أن يلزم الجادة ويدَع التطرف!!
فعندما رأى فرعون أن يقتل موسى قال:[ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ] {غافر:28}.
 
وهكذا استبعد بالمنطق الرزين أن يُقتل نبي كريم... غير أن الصراع بين الحق والباطل لابد أن يبلغ مرحلة ينزع معها ثوب الحياد، ولابد أن يجيء دور المصارحة التي لا تبالي بجهر أو تكشف...
 
وهنا يجأر الرجل بما في نفسه: [وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ(38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآَخِرَةَ هِيَ دَارُ القَرَارِ(39) ]. {غافر}.. ويمضي في نصحه إلى أن يختمه بهذه الكلمات الحارة: [فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالعِبَادِ] {غافر:44}.
 
هذه النصيحة الصادقة في أطواء قصة فرعون وبني إسرائيل ليست بنت زمنها وحده. لكأنها يوم نزل الوحي بها تناشد صناديد مكة وسائر أحزاب الكفر، ثم هي لا تزال تنساب إلى كل قلب في أرجاء الدنيا تغزوه بما يترقرق فيها من يقين وسلام وحب..
 
وتأليف الروايات شيء غير قص أحداث التاريخ...
هذا افتعال أمور وترك الخيال يسبكها، وذاك عرض أجزاء من واقع الحياة التي لا ريب فيها...
والروايات التي تؤلف تخضع لمشرب صاحبها وفهمه للأشخاص والأشياء وحكمه في القضايا الخاصة والعامة...
فهي أسلوب في التوجيه يتأثَّر بألوان الرغبات، وتتنفس فيه شتى الشهوات...
وكثيراً ما نجد مؤلف الرواية يسوق الأحداث التي يتخيَّلها بطريقة تسوغ الخطيئة، وتبرز الأسباب الدافعة إليها، وتهون الأسباب العاصمة منها حتى ليكون القارئ بعواطفه في صفِّ الجريمة ومرتكبها...
وكثيراً ما تكون الروايات حافلة بمسالك يشوبها الطيش، ولكن عناصر المخاطرة والمرح التي تحفُّ بها تجعل هذه المسالك كأنها نداء الطبيعة التي لابد منه...
ومن ثم استفحلت الأضرار النفسية والاجتماعية لهذا القصص المفترى، واعوجت أخلاق الشباب واحلولت السَّيْر الفاسدة في مذاقهم من طول إدمانهم لقراءتها.
وصلة هذا القصص المفترى بالقصص الحقيقي كصلة التمثال الحجري بأجساد الأحياء...
بل إنه لو أُحسن تأليفه وشَرُفت غايته ما بلغ في نتائجه مبلغ الاستقصاء الصحيح لأخبار الناس وسيرهم في هذه الحياة وتقلبهم في خيرها وشرها...
ذلك أن البون بعيد بين شطحات الخيال وبين الحق الثابت المستقر، بين قصة يبدو لمؤلفها أن يقتل البطل أو ينجيه حسب ما يعتريه من تصورات... وبين تتبُّع لقوانين الله في كونه وفي عباده...
تلك القوانين التي تدور بين الناس على أساس من الحِكَم البالغة والقدر العادل والإحصاء الدقيق لأحوال البشر، على اختلاف الليل والنهار.
والوعظ الناجع لا يكون بمخترعات الأخبار، وإنما يكون بما وقع فعلاً من حسنات وسيِّئات، وأفراح وأحزان، وهزائم وانتصارات...
ولذلك يقول الله لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: [وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ] {هود:120} .
ويقول: [تِلْكَ القُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الكَافِرِينَ] {الأعراف:101}.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر : منبر الإسلام السنة 15 ربيع الأول 1377هـ  العدد 3

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين