الإمام العادل

بقلم: د.طه محمد فارس

العدل من أهم دعائم السعادة التي يسعى إليها الإنسان في حياته؛ وذلك ليكون مطمئناً على حقوقه؛ آمناً في مجتمعه، وقد أمر الله تعالى عباده بالعدل، فقال:[إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ] {النحل:90} .، وقال عزَّ من قائل:[إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ] {النساء:58}  ..
 ولم يكن أثرُ العدل مقتصراً على أفراد المجتمع المسلم فحسب، بل شمل الأعداء أيضاً، فقال تعالى:[ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] {المائدة:8} .
لقد أقام الله عزَّ وجل السموات والأرض بالعدل، وحكم به، فقال: [وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ] {الأنبياء:47} ،وحرَّم الظلم على نفسه، فقال تعالى:[ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ] {فصِّلت:46} ، وقال:[مَا يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ] {ق:29}، وحرَّمه على عباده، فقال:[ وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا] {الفرقان:19}،وفي الحديث القدسي عن رسول الله  صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يقول: « يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا» ـ أخرجه مسلم في البر والصلة والأدب برقم 2577 ـ .
بل إن الله تعالى إنما أرسل الرسل، وأنزل الشرائع والأحكام ليسود العدل بين الناس، ولِيُحكم به فيما بينهم، فقال تعالى:[لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسْطِ] {الحديد:25} .
والإمام العادل هو من أحبِّ الناس إلى الله تعالى وأسعدِهم برضاه، وأقربِهم من محل كرامته، وأرفعهم عند الله منزلةـ انظر: تحفة الأحوذي 4/466ـ ، كما أخبر بذلك رسول الله  صلى الله عليه وسلم فقال:« إِنَّ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَجْلِسًا: إِمَامٌ عَادِلٌ، وَأَبْغَضَ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ وَأَبْعَدَهُمْ مِنْهُ مَجْلِسًا إِمَامٌ جَائِرٌ» ـ أخرجه أحمد في مسنده 3/55؛ والترمذي في الأحكام برقم 1250 وقال: حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.ـ ، وقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا» ـ أخرجه مسلم في الإمارة برقم 1827؛ والنسائي في آداب القضاء برقم 5379 ـ .
وقد أعلن الله تعالى حبَّه للمقسطين فقـال:[ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ] {الحجرات:9} ، فهم أهل الكرامة يوم القيامة، بشَّرهم رسول الله  صلى الله عليه وسلم بكرامة الجنة، فقال  صلى الله عليه وسلم:« أَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ: ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ» ـ أخرجه مسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها برقم 2865 ـ
ـ ، وأخبر كذلك بأنهم ممن يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله فقال صلى الله عليه وسلم:« سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: الْإِمَامُ الْعَادِلُ....» ـ أخرجه البخاري برقم 629؛ ومسلم برقم 1031.ـ .
أما في الدنيا فيظهر أثر محبة الله تعالى للإمام العادل في أمور:
منها: أن الله لا يرد له دعوة، فقد قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم:« ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم...»ـ أخرجه أحمد في مسنده 2/304 وقال شعيب الأرنؤوط: صحيح بطرقه وشواهده؛ والترمذي في الدعوات برقم 3598 وحسنه؛ وابن ماجه في الصيام برقم 1752؛ وابن خزيمة في صحيحه3/199؛ وابن حبان في صحيحه8/214. ـ .
ومنها كذلك: أن الله يحرك قلوب الناس لمحبته والدعاء له، فقد قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم: « خِيَارُ أَئِمَّتِكُمْ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ، وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ....» ـ أخرجه مسلم في الإمارة برقم 1855.ـ .
بل إن يوماً من إمام عادل يقيم فيه حدود الله، ويعدل فيه بين الناس، أفضل عند الله تعالى من عبادة ستين سنة، ففي الحديث عن رسول الله  صلى الله عليه وسلم أنه قال: « يوم من إمام عادل أفضل من عبادة ستين سنة»ـ ذكره المنذري في الترغيب والترهيب 3/117 وقال: رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وإسناد الكبير حسن، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 5/357 وقال: رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه سعد أبو غيلان الشيباني، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات.ـ .
وقد دعا رسول الله  صلى الله عليه وسلم للإمام العادل الشفيق الرفيق برعيته، فقال صلى الله عليه وسلم:« اللهم .. من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به»ـ رواه مسلم في الإمارة عن عائشة رضي الله عنها برقم 1828.ـ ، وأخبر بأن تيسيرَ أمرِه، وقضاءَ حوائجِه، رهنٌ بقضاء حوائج المسلمين، فقال  صلى الله عليه وسلم:« من ولي شيئاً من أمور المسلمين لم ينظر الله في حاجته حتى ينظر في حوائجهم»ـ الترغيب والترهيب 3/123 وقال: رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح إلا حسين بن قيس، المعروف بحنش، وقد وثقه ابن نمير وحسن له والترمذي غير ما حديث، وصحح له الحاكم، ولا يضر في المتابعات.ـ .
أما إن احتجب عنهم، وأغلق بابه دونهم، ولم يسعَ لقضاء حوائجهم فإن الله تعالى يعامله بسوء فعاله، فلا يستجيب دعاءه، ولا يقضي حوائجه، وفي هذا يقول رَسُول اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم:« مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ فَاحْتَجَبَ دُونَ حَاجَتِهِمْ وَخَلَّتِهِمْ وَفَقْرِهِمْ، احْتَجَبَ اللَّهُ عَنْهُ دُونَ حَاجَتِهِ وَخَلَّتِهِ وَفَقْرِهِ»ـ أخرجه أبو داود في الخراج والإمارة والفيء برقم 2948 بهذا اللفظ، والترمذي في الأحكام برقم 1332.ـ ، ويقول  صلى الله عليه وسلم:« من ولي من أمر المسلمين ثم أغلق بابه دون المسكين والمظلوم وذوي الحاجة، أغلق الله تبارك وتعالى أبواب رحمته دون حاجته وفقره، أفقر ما يكون إليها» ـ ذكره المنذري في الترغيب والترهيب 3/ 124وقال: رواه أحمد وأبو يعلى وإسناد أحمد حسن.ـ .
والعدلُ، ليس إلا العدلُ هو الذي ينجي من وَليَ أمراً من أمور المسلمين، كما أخبر بذلك رسول الله  صلى الله عليه وسلم فقال:« ما من رجل يلي أمرَ عشرةٍ فما فوق ذلك إلا أتى اللهَ مغلولاً يوم القيامة، يده إلى عنقه، فكَّه برُّه أو أوثقه إثمهُ» ـ أخرجه أحمد في مسنده 5/267 وقال شعيب الأرنؤوط: صحيح لغيره؛ وذكره المنذري في الترغيب والترهيب 3/113 وقال: رواه أحمد ورواته ثقات إلا يزيد بن أبي مالك، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى بسند صحيح، بلفظ آخر.ـ ، وفي رواية: « ما من أمير عشرة إلا يُؤْتَى به يوم القيامة مغلولاً لا يفكه إلا العدل» ـ الترغيب والترهيب 3/121 وقال: رواه أحمد بإسناد جيد، رجاله رجال الصحيح. ـ .
وقد حذر النبي  صلى الله عليه وسلم كل من وليَ من أمر المسلمين شيئاً، صغيراً كان أم كبيراً، إن لم يعدل بينهم بأنه سيلقى جزاءه يوم القيامة في نار جهنم ، فقال  صلى الله عليه وسلم: « ما من أحد يكون على شيء من أمور هذه الأمة قلت أم كثرت فلا يعدل فيهم إلا كبه الله في النار»ـ أخرجه الحاكم في المستدرك 4/102 وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.ـ .
أما إن أضمر الإمام غِشَّاً لرعيته، فلم ينصح لها كما ينصح لنفسه، ولم يسعَ لقضاء حوائجها، كما يسعى في قضاء حوائجه، فإنه أبعدُ ما يكون من رائحة الجنة ونعيمها ، فقد قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم:«مَا مِنْ عَبْدٍ اسْتَرْعَاهُ اللَّهُ رَعِيَّةً فَلَمْ يَحُطْهَا بِنَصِيحَةٍ، إِلَّا لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ»ـ أخرجه البخاري في الأحكام برقم 6731؛ ومسلم في الإيمان برقم 142.ـ ، وفي رواية:« مَا مِنْ أَمِيرٍ يَلِي أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ لَا يَجْهَدُ لَهُمْ وَيَنْصَحُ، إِلَّا لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمْ الْجَنَّةَ»ـ أخرجه مسلم في الإيمان برقم 142.ـ ، وزاد الطبراني: «كنصحه وجهده لنفسه» ـ ذكره المنذري في الترغيب والترهيب 3/123. ـ .
ومن غِشِّ الإمام وخيانته لدينه وأمته أن يُوليَ على المناصب من يميل لهم ويحابيهم، مع علمه بوجود من هم أولى وأصلح ممَّن ولاهم، فقد قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم:« من استعمل رجلاً من عصابة، وفي تلك العصابة من هو أرضى لله منه، فقد خان الله، وخان رسوله، وخان المؤمنين»ـ أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين 4/104 وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.ـ ، وقال  صلى الله عليه وسلم:« من ولي من أمر المسلمين شيئاً فأمَّرَ عليهم أحداً محاباة فعليه لعنة الله، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً حتى يدخله جهنم» ـ أخرجه الحاكم في المستدرك 4/104 وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقد ذكره المنذري في الترغيب والترهيب بصيغة الجزم 3/125. ـ .
ولعل من المفيد هنا أن نذكر تلك الوصية الرائعة التي أرسل بها صاحب القلب التقي الزاهد الحسن البصري، إلى الأمير المبارك الصالح الراشد عمر بن عبد العزيز، عندما أرسل إليه يستنصحه، فكتب إليه في رسالة طويلة نذكر بعضها: « اعلم يا أمير المؤمنين، أن الله جعل الإمام العادل قِوَام كلِّ مائل، وقصد كل جائر، وصلاح كل فاسد، وقوة كل ضعيف، ونصفة ـ من الإنصاف. ـ كل مظلوم، ومفزع كل ملهوف.
والإمام العادل ـ يا أمير المؤمنين ـ كالراعي الشفيق على إبله، الرفيق بها، الذي يرتاد لها أطيب المراعي، ويذودها عن مراتع الهلكة، ويحميها من السباع، ويكنُّها من أذى الحر والقر.
والإمام العدل ـ يا أمير المؤمنين ـ كالأب الحاني على ولده، يسعى لهم صغاراً، ويعلمهم كباراً؛ يكتسب لهم في حياته، ويدخر لهم بعد مماته.
والإمام العدل ـ يا أمير المؤمنين ـ كالأم الشفيقة البرة الرفيقة بولدها، حملته كرها، ووضعته كرها، وربته طفلاً تسهر بسهره، وتسكن بسكونه، ترضعه تارة وتفطمه أخرى، وتفرح بعافيته، وتغتم بشكايته.
والإمام العادل ـ يا أمير المؤمنين ـ وصي اليتامى، وخازن المساكين، يربي صغيرهم، ويمون كبيرهم.
والإمام العدل ـ يا أمير المؤمنين ـ كالقلب بين الجوارح، تصلح الجوارح بصلاحه، وتفسد بفساده.
فلا تكن يا أمير المؤمنين فيما ملكك الله عز وجل كعبد ائتمنه سيده، واستحفظه ماله وعياله، فبدد المال وشرد العيال، فأفقر أهله، وفرَّق ماله...» ـ العقد الفريد لابن عبد ربه 1/12.ـ .
هكذا وصف الإمامُ العالم الزاهد الحسن البصري رحمه الله الإمامَ العادل في رسالته التي أرسلها إلى عمر بن العزيز رحمه الله عندما ولي الخلافة، ولله دره ما أدقّه من وصف، وما أبدعه من تشبيه.
أما إذا فُقِد العدل من المجتمع فإن ذلك سيحيل السعادة شقاء، والأمن اضطراباً، والحق باطلاً، والباطل حقاً، وستُسلب حقوق الضعفاء، ويتسلط الجبَّارون الأقوياء على الآمنين المسالمين الضعفاء، وتغتال حرية الناس، مما يؤدي إلى تقطع أوصال المجتمعات، وانتشار الجرائم والموبقات، وتثور أعاصير الفتن؛ لتعصف بكل أفراد المجتمع، فتضيع الحقوق، وينتشر العقوق، وتتولد الأحقاد والضغائن، التي لا تعود على المجتمع إلا بالشر والخسران.
 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين