بروق النِّعَم من دياجير الظُّلَم ( 15 ) من أسباب النصر

بقلم: ماجد الدرويش

غلب على ظن الناس أن النصر يكون بغلبة فئة على أخرى في ميادين القتال عن طريق التفوق العسكري، والحقيقة أن هذا ضربا من ضروب النصر التي تتعدد وتتنوع. وقد أخبرنا القرآن الكريم عن أساليبَ وأسبابٍ للنصر ليس فيها قتال ولا سلاح، منها:
الموت: كما حدَث مع فتى أصحاب الأخدود، حيث كان موته بالطريقة التي علمه إياها للملك سببا للنصر على عقيدة الباطل. فانتصرت عقيدة التوحيد على عقيدة الشرك بموت الداعي إلى التوحيد، في الوقت الذي ظن فيه القاتل أنه بقتله للداعي إلى التوحيد قد أنهى دعوته وانتصر عليه.
وهذا حديث أصحاب الأخدود بتمامه كما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه: عَنْ صُهَيْبٍ الروميِّ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ( كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ، فَلَمَّا كَبِرَ، قَالَ لِلْمَلِكِ: إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ، فَابْعَثْ إِلَيَّ غُلَامًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلَامًا يُعَلِّمُهُ، فَكَانَ فِي طَرِيقِهِ، إِذَا سَلَكَ، رَاهِبٌ فَقَعَدَ إِلَيْهِ وَسَمِعَ كَلَامَهُ، فَأَعْجَبَهُ فَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ بِالرَّاهِبِ وَقَعَدَ إِلَيْهِ، فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ، فَقَالَ: إِذَا خَشِيتَ السَّاحِرَ، فَقُلْ: حَبَسَنِي أَهْلِي، وَإِذَا خَشِيتَ أَهْلَكَ فَقُلْ: حَبَسَنِي السَّاحِرُ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتِ النَّاسَ، فَقَالَ: الْيَوْمَ أَعْلَمُ آلسَّاحِرُ أَفْضَلُ أَمِ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ؟ فَأَخَذَ حَجَرًا، فَقَالَ: اللهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ، حَتَّى يَمْضِيَ النَّاسُ، فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا، وَمَضَى النَّاسُ، فَأَتَى الرَّاهِبَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ: أَيْ بُنَيَّ أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي، قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى، وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى، فَإِنِ ابْتُلِيتَ فَلَا تَدُلَّ عَلَيَّ، وَكَانَ الْغُلَامُ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَيُدَاوِي النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الْأَدْوَاءِ، فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ كَانَ قَدْ عَمِيَ، فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ، فَقَالَ: مَا هَاهُنَا لَكَ أَجْمَعُ، إِنْ أَنْتَ شَفَيْتَنِي، فَقَالَ: إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِي اللهُ، فَإِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاللهِ دَعَوْتُ اللهَ فَشَفَاكَ، فَآمَنَ بِاللهِ فَشَفَاهُ اللهُ، فَأَتَى الْمَلِكَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ؟ قَالَ: رَبِّي، قَالَ: وَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي؟ قَالَ: رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ، فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلَامِ، فَجِيءَ بِالْغُلَامِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: أَيْ بُنَيَّ قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ، فَقَالَ: إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا، إِنَّمَا يَشْفِي اللهُ، فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ، فَجِيءَ بِالرَّاهِبِ، فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى، فَدَعَا بِالْمِئْشَارِ، فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَشَقَّهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، ثُمَّ جِيءَ بِجَلِيسِ الْمَلِكِ فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، ثُمَّ جِيءَ بِالْغُلَامِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا، فَاصْعَدُوا بِهِ الْجَبَلَ، فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ، وَإِلَّا فَاطْرَحُوهُ، فَذَهَبُوا بِهِ فَصَعِدُوا بِهِ الْجَبَلَ، فَقَالَ: اللهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ، فَرَجَفَ بِهِمِ الْجَبَلُ فَسَقَطُوا، وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟ قَالَ: كَفَانِيهِمُ اللهُ، فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ فِي قُرْقُورٍ، فَتَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فَاقْذِفُوهُ، فَذَهَبُوا بِهِ، فَقَالَ: اللهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ، فَانْكَفَأَتْ بِهِمِ السَّفِينَةُ فَغَرِقُوا، وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟ قَالَ: كَفَانِيهِمُ اللهُ، فَقَالَ لِلْمَلِكِ: إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ، قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي، ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قُلْ: بِاسْمِ اللهِ رَبِّ الْغُلَامِ، ثُمَّ ارْمِنِي، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي، فَجَمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِي كَبْدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قَالَ: بِاسْمِ اللهِ، رَبِّ الْغُلَامِ، ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صُدْغِهِ فِي مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ، فَقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، فَأُتِيَ الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ؟ قَدْ وَاللهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ، قَدْ آمَنَ النَّاسُ، فَأَمَرَ بِالْأُخْدُودِ فِي أَفْوَاهِ السِّكَكِ، فَخُدَّتْ وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ، وَقَالَ: مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَحْمُوهُ فِيهَا، أَوْ قِيلَ لَهُ: اقْتَحِمْ، فَفَعَلُوا حَتَّى جَاءَتِ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا، فَقَالَ لَهَا الْغُلَامُ: يَا أُمَّهْ اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ ).
فكان قتل الغلام سببا للانتصار على جبروت الطاغية، ذلك أن إرادة قتل الغلام الذي شعر الطاغية بأنه يشكل خطرا على سلطانه قد غلبت على عقله ولُبِّه لدرجة أنه ما عاد يرى ما وراء ذلك، وما عاد ينظر في العواقب، وهذا بداية الاستدراج من الله تعالى للظالمين، فكان موت الغلام بداية التحول في المجتمع، ودخل الناس في دين الله تعالى أفواجا، وعاشوا لذة الخروج من ظلام الخضوع لإرادة الطاغية إلى جمال الخضوع لطاعة الله سبحانه. إنه الشعور بلذة الحرية التي ما ذاقوها تحت سلطان المجرم الطاغية، ومع كل الإجرام وحرب الإبادة التي شنها ضدهم، مبتكرا ألوانا من القتل والعذاب استحقت أن يذكرها القرآن الكريم لهولها، لم يفلح ذلك في ثني الناس عن توقهم للحرية، فصمدوا صمودا أودى بدولة الظلم إلى الفناء، ودفع بدولة الحق والعدل والحرية نحو الاستمرار والبقاء، وأما قتلاهم فمضوا شهداء إلى رب كريم، وأما الظالم الطاغية فمضى مع أتباعه إلى جهنم وبئس المصير، وأما دعوة الحق فبقيت ما بقي حر يتطلع إلى المستقبل المشرق بإذن الله تعالى.
ومن أسباب النصر الظهور بالحجة: كما حدث مع رسول الله موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فهو لم تكن معه يوم المناظرة جيوش كالتي كانت تحت سلطان فرعون، ولكنه كان مؤيدا بنصر الله تعالى الذي لا يُغْلَب، والذي تجلى في الظهور بالحجة.
لم يكن يخالج فرعون أدنى شك بأنه هو الظاهر: فهو الحاكم للأرض، المالك لكل أسباب القوة المادية، بالإضافة إلى قوة أمهر السهرة المعروفين.
 كل هذه الأسباب جعلت فرعون واثقا من الغلبة، لذلك حاول أن يظهر أمام الناس بمظهر الإنسان المتحضر الذي يعطي الآخرين الفرصة للدفاع عن وجهة نظرهم، فكان ) يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى( هو الموعد الذي اختاره فرعون، بسبب اجتماع الناس في هذا اليوم الذي كان يتخذ عيدا عندهم، ليكون أدعى في بيان قوة فرعون وظهوره على دعوة سيدنا موسى عليه السلام.
ولكنَّ فرعون في خاصية نفسه كان على وَجَلٍ كبير من دعوة سيدنا موسى عليه السلام، ندرك ذلك من خلال هذا الحوار الذي دار بينه وبين حاشيته: ) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ (110) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (113) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) (.
 فلولا الوجل الكبير الذي غلب على عقل فرعون ولُبِّه لما أغرى السحرة بكل أنواع الأعطيات الممكنة فقط ليَظْهروا على سيدنا موسى عليه السلام في المناظرة.
إنها مواجهة لا تنفع فيها الجيوش، ولا تفلح فيها الأسلحة على تنوعها، إنها معركة الكلمة الصادقة، ولو كان صاحبها مستضعفا، في مواجهة الباطل والجبروت والعتو في الأرض، ولو كان الباطل بحجم فرعون وجنوده. والنصر فيها حليف الصدق مع الضعف: ) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ مَا كانُوا يَحْذَرُونَ (.
بل إن الاستضعاف هو الباب الذي سيلج منه أهل الحق للنصر المبين بإذن الله تعالى رب العالمين.
ومن أسباب النصر: إفشال مخططات الأعداء : كما فعل نبينا عليه الصلاة والسلام يوم حاولت قريش تأليب أهل المدينة عليه وعلى المهاجرين قبيل معركة بدر. وهو ما أخرجه الإمام أبو داود في سننه، في كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب: خبر بني النضير، من حديث عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ كَتَبُوا إِلَى ابْنِ أُبَيٍّ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ مَعَهُ الْأَوْثَانَ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ: إِنَّكُمْ آوَيْتُمْ صَاحِبَنَا، وَإِنَّا نُقْسِمُ بِاللَّهِ لَتُقَاتِلُنَّهُ، أَوْ لَتُخْرِجُنَّهُ أَوْ لَنَسِيرَنَّ إِلَيْكُمْ بِأَجْمَعِنَا حَتَّى نَقْتُلَ مُقَاتِلَتَكُمْ، وَنَسْتَبِيحَ نِسَاءَكُمْ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، اجْتَمَعُوا لِقِتَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيَهُمْ، فَقَالَ: (لَقَدْ بَلَغَ وَعِيدُ قُرَيْشٍ مِنْكُمُ الْمَبَالِغَ، مَا كَانَتْ تَكِيدُكُمْ بِأَكْثَرَ مِمَّا تُرِيدُونَ أَنْ تَكِيدُوا بِهِ أَنْفُسَكُمْ، تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا أَبْنَاءَكُمْ، وَإِخْوَانَكُمْ) فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَفَرَّقُوا. انتهى.
فابن أبي سلول لم يكن أظهر النفاق بعد، وكان قومه يعدون له العدة لتتويجه ملكا على المدينة، وعندما جمع من معه من عبدة الأوثان لإخراج المهاجرين وقف في وجهه الأنصار من أهل المدينة الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يمنعوه في بلدهم مما يمنعون منه أهليهم وأولادهم وأموالهم، وكان هذا الاختبار الأول لصدق البيعة، إلا أن هذا سيؤدي إلى انقسام أهل المدينة إلى قسمين، وستنشب حرب أهلية لا محالة، فما الفائدة التي ستعود على الدعوة من ذلك؟ وبخاصة أن المجتمع المديني لم يستكمل بعدُ عدَّته، ندرك ذلك من عبارة (وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ)، فإذا كان الاستعداد العسكري يوم بدر لم يكن على تمامه، فكيف قبل بدر؟ وماذا سيقول الناس: أول ما جاء محمد إلى المدينة قسَّم أهلها وأشعل فيها الحرب الأهلية ؟
 من هنا كان تحرك النبي صلى الله عليه وسلم لنزع فتيل الانفجار، مستخدما الخطاب القبلي الذي يهيِّج الحمية عند أي عربي يعتز برجولته: (لَقَدْ بَلَغَ وَعِيدُ قُرَيْشٍ مِنْكُمُ الْمَبَالِغ)، فالعربي تأبى نفسه أن يوسم بالجبن والخوف من أعدائه، فهدّأ الخطاب من نفوس القوم، فانتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الخطوة الثانية وهي بيان أن هذا لا يعدو كونه مكر من قريش بكم ليقتل بعضُكم بعضا، مستخدما الخطاب القبلي، والوطنيَّ بحسب عرفنا اليوم: (مَا كَانَتْ تَكِيدُكُمْ بِأَكْثَرَ مِمَّا تُرِيدُونَ أَنْ تَكِيدُوا بِهِ أَنْفُسَكُمْ، تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا أَبْنَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ)، وبالفعل فأهل المدينة إخوان وأبناء، تجمعهم علاقات النسب والبلد، أيُعقل أن تقدم مصلحة الأعداء على مصلحة الإخوة والأبناء!!.. فأثمر الخطاب الحكيم، وأبطل الله به مكر الماكرين، وعادت المدينة بأهلها موحدة على قلب رجل واحد...
هذه نماذج من أسباب النصر فيها من عمق الفقه السياسي ما تعجز عقول الجبابرة المتكبرين الذين يركنون إلى عسكرهم وقوتهم عن فهمه، لأنهم لا يرون في الوجود إلا أنفسهم، فيظنون أن آلة القتل والدمار كفيلة بإبادة العقل والحجة والمنطق والإرادة الحرة.
ولكن هيهات هيهات فإنَّ الله تعالى ) غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ( ، وما أجمل وقع آيات الله تعالى المبينة لرصد الله تعالى للكافرين المجرمين: ) وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ( وإن غدا لناظره لقريب.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين