الأمة الإسلامية - 3 –

 الشيخ مجد مكي

مقومات وخصائص الأمة المسلمة :
1 ـ أمة ربانية: لم تنشأ بمجرد المصادفة، ولم تنشأ بإرادة فرد أو حزب، أو طبقة إنما أنشأها الله لتؤدي رسالتها في الوجود:[ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا] {فاطر:32} . [هُوَ اجْتَبَاكُمْ] {الحج:78} . [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا] {البقرة:143} .فالله سبحانه هو الذي اصْطفاها واجْتباها، وجعلها كذلك لتقوم بدورها في الناس.
2 ـ أمة وسط : هي أمة وسط في كل شيء، في التصور والاعتقاد، والتعبُّد والتنسُّك، والقيم والأخلاق، والعمل والسلوك، والتشريع والتنظيم، وفي السياسة والاقتصاد ... لا تهمل المادة لحساب الروح، ولا الروح لحساب المادة، ولا يضخم الفرد فيطغى على المجتمع، ولا المجتمع فيطغى على الفرد، وإنما يعطي لكل جانب حقه.
3 ـ أمة شاهدة: وهي أمة ذات رسالة عالمية، ليست أمة إقليمية ولا قومية، بل وصفها الله في مقام الأستاذيَّة للبشريَّة كلها، والهداية للناس كافة... وهذا معنى قول الله تبارك وتعالى .[وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ] {البقرة:143} . [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ...] {آل عمران:110} .
فهذه الأمة أنبتها منبت، وأخرجها مخرج، هو الله سبحانه، لم يخرجها لتتقوقع على نفسها وتعيش في حدودها، ولمنافعها الماديَّة الخاصَّة، إنما أخرجها للناس كل الناس، فهي أمة مبعوثة للعالمين، كما أن كتابها أنزل ذكراً للعالمين، ونبيها أرسل رحمة للعالمين، و بعثة هذه الأمة بعثة رحمة ويسر، لا بعثة قسوة وعسر : (إنما بُعثتم ميسِّرين ولم تُبعثوا معسِّرين) أخرجه البخاري (220) من حديث أبي هريرة.
ولقد أدرك الصحابة أنهم مبعوثون لهداية أمم الأرض، فهذا ربعي بن عامر يحدِّد مهمة الأمة وهو يواجه رستم قائد الفرس: (إنَّ الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جَور الأديان إلى عَدل الإسلام).
4 ـ أمة خالدة: ومن خصائص هذه الأمة أنها أمة خالدة، بخلود رسالتها وكتابها فهي باقية ما بقي الليل والنهار، دائمة ما دام في الدنيا قرآن يتلى، وإذا كان القرآن محفوظاً بحفظ الله، فأمة القرآن باقية ببقاء القرآن.فهذه الأمة باقية لم تموت، ولن تموت، وهي حقيقة بمنطق الدين، والتاريخ، والواقع.
وقد تكفَّل الله تعالى لرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ألا يهلك أمته بما أهلك به أمماً سابقة بالعقوبات القدرية والنوازل الكونيَّة، كالطوفان، والخسف والمسخ والريح وتكفل له كذلك ألا يسلط عليها عدواً من غيرها يستأصل شأفتها، ويقتلعها من جذورها، إلا أن يهلك بعضها بعضاً، ويذوق بعضها باس بعض (أصل الحديث أخرجه مسلم 2889 من حديث ثوبان بن بجدد).
وكما تكفَّل الله لرسوله أن يحفظ أمته من الهلاك الحسي بعذاب الاستئصال تكفَّل الله بحفظها من الهلاك المعنوي بالاجتماع على الضلال، ففي الحديث : (...، سَأَلْتُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لَا يَجْمَعَ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ فَأَعْطَانِيهَا...، ) أخرجه أحمد (27224).
 وسرُّ ذلك أنها آخر الأمم، ونبيها آخر الأنبياء، وكتابتها آخر الكتب، فليس بعد محمد رسول، ولا بعد القرآن كتاب، ولا بعد الإسلام شريعة، ولا بعد أمة الإسلام أمة.
فإذا اجتمعت أمة من الأمم قبل الإسلام على الضلال لم يكن في ذلك خطر على البشريَّة، لأنها أمة محدودة الزمان والمكان، بخلاف الأمة الإسلامية فهي ممتدة في الزمان .
حتى تقوم الساعة، ممتدة في المكان حتى تعم الشرق والغرب، فلو ضلت كلها لضلت بها البشريَّة جمعاء، دون أمل في تغيير، إذ ليس معها ولا بعدها من يحمل للناس هداية الله .
وتظلُّ في هذه الأمة فئة تحيا على الحق وتموت عليه، وهي سفينة الإنقاذ، وفيها جاء قول الله تعالى :[وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ] {الأعراف:181} .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا تزال طائفة من أمتي قائمين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله و هم على ذلك) أخرجه البخاري (7311)، ومسلم (1923)، عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، وري عن غيره من الصحابة، بألفاظ مُتقاربة.
وهم : الغرباء، الذين يصلحون إذا فسد الناس، ويُصلحون ما أفسد الناس وهم : الفرقة الناجية، بين الهالكين، المهتدون بين السالكين، الذين يحيون ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم.
ومن دلائل الخلود لهذه الأمة : أن الكوارث والنكبات لا تحطمها ولا تقتلها، بل تبعث فيها روح المقاومة والتَّحدِّي، فتتغلب على عوامل الضعف بروح القوة المكنونة فيها.
1 ـ رأينا ذلك في فجر الإسلام في حروب الردة، وقتال المتمردين على دفع الزكاة.
2 ـ ورأيناه في عصور التمزق للدولة الإسلامية، في مقاومة غزوات التتار الوحشيَّة الذين أقبلوا من الشرق، كالريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم.
3 ـ وفي مقاومة الحروب الصليبية التي زحفت فيها أوروبا على الشرق الإسلامي بقضها وقضيضها وثالوثها وصليبها، فأحرقت وقتلت، وأفسدت ودمرت.
ولكن القوة الكامنة في أمة الإسلام لم تلبث أن  ظهرت في وقائع تاريخيَّة حاسمة، فحطَّمت أحلام الصليبيين في (حطين) ففتح بيت المقدس بعد أن بات أكثر من تسعين سنة أسيراً في يد الغزاة، وأسر لويس التاسع، ملك فرنسا، في دار ابن لقمان، بالمنصورة، وارتد جيش التتار مندحراً في عين جالوت .
وفي العصر الحديث رأينا الجهاد ضد الغزاة المستعمرين في ديار الإسلام، جهاد الشيخ عبد القادر الجزائري ضد الفرنسيين، والأمير عبد الكريم الخطابي ضد الأسبان، وعمر المختار ضد الطليان، والشيخ عز الدين القسام ضد الإنجليز واليهود.
واليوم نرى العملاق الإسلامي ينتفض بعد طول رقاد وركود، فإذا هو جهاد في أفغانستان، وقتال في أرتيريا والفلبين، وعمل فدائي في فلسطين، ويقظة في مصر وسوريا، وشباب مثقف يتَّجه إلى الإسلام بقوة ووعي في الشرق والغرب.وهذا ما رأيناه الآن في الربيع الإسلامي العربي، حيث انتفضت الشعوب على أنظمة الفساد والاستبداد، وكان المحرك لهذه الثورات : الشباب  الذي انطلق من بيوت الله، وتربى في مدرسة الإيمان، وتخرج في حلقات القرآن، وغيرهم من الشباب الذين أرادوا تخليص مجتمعاتهم من براثن الظلم والاضطهاد، وتسلط الأسر الجمهورية المهيمنة على رقاب العباد ومستقبل البلاد. 
وهذه الدلائل كلها من هنا وهناك وهنالك تعبر بوضوح عن خلود هذه الأمة وقوتها وأصالتها بالرغم مما يبدو على سحنتها من مَظَاهر الوهن والهزال.
نعم إن هذه الأمة قد تضعف، ولكنها لا تموت فقد ناط الله بها رسالة الخلود.
*   *   *

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين