الفقه السياسي عند المسلمين ـ 1 ـ

الأستاذ :محمد الشافعي اللبان

اطلعت على بحث قيم عن أنظمة الحكم عند المسلمين لأستاذنا الكبير حضرة صاحب المعالي على عبد الرازق باشا قال فيه:  (من الملاحظ البيِّن في تاريخ الحركة العلمية عند المسلمين أن حظ العلوم السياسية فيهم كان بالنسبة لغيرها من العلوم الأخرى أسوأ حظا، وأن وجودها بينهم كان أضعف وجودا، فلسنا نعرف لهم مؤلفاً في السياسة ولا مترجماً، ولا نعرف لهم بحثاً في شيء من أنظمة الحكم، ولا أصول السياسة، اللهم إلا قليلا لا يقام له وزن إزاء حركتهم العلمية في غير السياسة من الفنون.  ذلك وقد توافرت عندهم الدواعي التي تدفعهم إلى البحث الدقيق في علوم السياسة، وتظاهرت لديهم الأسباب التي تُعدهم للتعمق فيها.  وأقل تلك الأسباب إنهم مع ذكائهم الفطري ونشاطهم العلمي كانوا مولعين بما عند اليونان من فلسفة وعلم، ولقد كانت كتب اليونان التي انكبوا على ترجمتها ودرسها كافية في أن تغريهم بعلم السياسة وتحببه إليهم فإن ذلك العلم قديم، وقد شغل كثيراً من قدماء الفلاسفة اليونانيين، وكان له في فلسفة اليونان، بل في حياتهم شأن خطير).
 
وفي بحث آخر عن الديمقراطية في الإسلام لصديقي الدكتور عبد الله العربي بك أستاذ القانون العام بكلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول سابقاً والأستاذ بكلية التجارة بتلك الجامعة حالا ما نصه:  (إن علماء الفقه حتى لم يخصوا هذه الأصول الديمقراطية بالعناية التي عرفت عنهم في أبحاثهم حتى إن المرء ليقلب نظره في كتبهم الحافلة بكل صغيرة وكبيرة في شيء وأن هذه الحياة والحياة الاخري فلا يجد فيها تدويناً متجانساً مجتمع الشمل للدستور حتى، بل يجد معها نبذاً متفرقة عارضة، وصفحات متباعدة مبعثرة هنا وهناك، منبثة في غير موضعها بحيث لا تبرز وهي على هذا الشتات صورة قوية كاملة للديمقراطية الإسلامية).
 
2 ـ وفي الحق إن هذا القول على علاته يحتاج إلى كثير من التعليق وهوإن صدق على المتأخرين من علماء المسلمين فإنه لا يصدق على المتقدمين منهم الذين عاشوا في عصور النهضة الأولى قبل أن ينتاب البلاد الإسلامية من عوامل الضعف والوهن والتفكك ما اضمحلت معه الحركة الفكرية وقلَّ به البحث والإنتاج العلمي.
 
لم يهمل المسلمون الأولون البحث في نظريات الحكم والسياسة، بل كانت لهم في هذا المضمار نظريات وآراء خطيرة الأثر أقاموها على أساس من مبادئ الحكم العامة التي جاء بها الكتاب، ودعت إليها السنة، وسار عليها الصحابة، وأصبحت مع الزمن تقاليد ثابتة في بناء الحكومات الإسلامية.
عنوا ببحث نظرية الإمامة والخلافة، وما يتفرع عنها من مبادئ سياسية على وجه فصَّلوا فيه هذه النظم وأصولها أوسع تفصيل، وكانوا في ذلك متقدمين على معاصريهم من كل شعوب العالم الذين عاشوا إذ ذاك تحت سلطان الحكم المطلق وأوضاع الحكومات المستبدة، وظل هذا السبق طويلاً حتى قامت النهضة الفكرية الحديثة في أوروبا، وظهرت معها في أواخر القرن السابع عشر وما تلاه النظريات السياسية الحديثة.
3 ـ تقررت أصول الحكم في الإسلام إجمالا على أساس سليم من الديمقراطية فقد جاء هذا الدين داعياً إلى نظام حكومي دعامته اختيار رئيس الدولة أو الخليفة، المبايعة، أو الانتخاب العام، ثم تقييد هذا الخليفة في تصريف شيء من الدولة بالشورى، وجاء في نفس الوقت مقرراً للحريات بكافة مظاهرها من حرية شخصية وحرية مسكن، وحرية عقيدة، وحرية رأي، وحرية ملك، وللمساواة بين الأفراد في التكاليف وأمام القضاء والقوانين، لا فرق في ذلك بين عربي وعجمي ولا بين أمير وصغير، وثم نسج على هذا الأصول والمبادئ ثوباً طهوراً من الأخلاق ليكون وقاية منيعة لهذا البنيان الديمقراطي الرفيع.
وإن المطَّلع على كتب الفقه حتى ليراها زاخرة بكثير من نظريات الحكم والسياسة بشكل تناول كل أوجه البحث والنظر، عرضوا لذلك عند تفسير الآيات وشرح الأحاديث الخاصة بنظم الحكم وحقوق الأفراد وواجب الوالي نحو الرعية وواجب الرعية نحو الوالي.  تلك الآيات والأحاديث التي أقامت المبادئ الأساسية للحريات العامة، ومبادئ المساواة وحكم الشورى، وهي المبادئ التي انفجر في سبيلها بركان الثورة الفرنسية بعد ثلاثة عشر قرناً من تقريرها عند المسلمين.
ظهرت كل هذه الأبحاث في كتب الفقه على وجه تناول الأصول الحكم عند المسلمين، ومصدر السلطات، وشكل الحكومة، وحقوق المسلمين وواجباتهم، وحقوق غير المسلمين، وما عليهم من تكاليف، وضمن الحريات، وأعلن المساواة وأمر بالعدل في الأحكام.
ومن مجموع هذه الدراسات والأحكام المجملة الأصول، تكونت نظرية كاملة عن الحكومة في الإسلام في حدود الأوضاع التي أسلفنا، وهي نظرية نالت عناية الفقهاء في كل العصور، حتى صارت أوضاعها بحق خير نظم الحكم في إجمالها.
4 ـ وكان من أثر هذه العناية أن أفرد بعض الفقهاء لهذه الأوضاع كتباً خاصة بها، فظهر أبو الحسن الماوردي المتوفى سنة 450 هجرية، يتحدث في كتابة الشهير (الأحكام السلطانية) عن الإمامة وشروطها، وعن الإمام وصفاته وما يخرج به عن الإمارة، وما يجب عليه نحو الأمة، وعلي الأمة نحوه، ثم عن الوزارة وأنواعها، والولاية وأقسامها، والقضاء وشروطه، والخراج والجزية والدواوين ونظامها، ويعرض لذلك كله من الناحية الفقهية في حدود مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه.  يقول أبو الحسن الماوردي في مقدمة كتابه عن الأسباب التي دعته إلى وضع مؤلفه: (لما كانت الأحكام بولاة الأمر أحق، وكان امتزاجها بجميع الأحكام يقطعهم عن تصفحها مع تشاغلهم بالسياسة والتدبير أفردت لها كتابا امتثلت فيه أمر من لزمت طاعته، ليعلم مذاهب الفقهاء فيما له منها فيستوفيه، وما عليه منها فيوفيه، توخياً للعدل في تنفيذه وقضائه، وتحرياً للنصفة في أخذه وعطائه).
وظهرت كذلك كتب أخري نذكر منها (آراء أهل المدينة الفاضلة) وفيه يتحدث صاحبه الفارابي عن الاجتماع والتعاون، وعن نشأة القرى والمدن، وعن الفرق بين أهل المجتمع الصالح وأهل المجتمع الضال، وعن خلال الحاكم وواجباته، وبعده ظهرت (رسائل إخوان الصفا) وفيها مباحث عن بعض الموضوعات السياسية كالحكمة من الملك، وكالإمامة وشروطها وأحكامها، وكالرياسات على الجماعات المختلفة وغير ذلك.
وفي كتاب (الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية) يتحدث مؤلفه الطقطقي عن واجبات الملك وعن حقوقه وعن أسباب ضعف الدول الإسلامية التي تقدمت عصره وسقوطها، وعن سياسة الملك نحو مختلف الطبقات، وعن خطر الانغماس في الشهوات.  وهو في أبحاثه يخرج عن النطاق الفقهي فيعتمد على الوقائع والحوادث التاريخية لتأييد آرائه وأفكاره.
وأخيراً جاء المؤرخ الكبير عبد الرحمن بن خلدون المغربي المتوفى في مصر في أوائل القرن التاسع الهجري ومهد لبحوثه التاريخية بتلك المقدمة الشهيرة التي ضمنها ما أدى إليه اجتهاده من دراسات هي في نظره علم مستقل بنفسه مستحدث الصنعة انتهى إليه بالبحث الخاص ولم يقف لأحد قبله على كلام فيه.  وهي في نظرنا أول كتاب عرض لعلم السياسة كعلم مستقل ذي كيان خاص.
تعرض ابن خلدون في مقدمته للعمران بصفة عامة وشرح طبيعة الاجتماع وضرورته، وكيفية تنوعه، وما يؤثر عليه، من العوامل وأثر الطبيعة في أخلاق البشر وألوانهم وأحوالهم وعن المجتمع البدوي وخواصه، وعن الحضر، وعن اختلاف الملك وأثر الغلبة في الأمم المغلوبة، وعن الدولة وقيامها بالقبيل والعصبية، وعن خواصها وصورها، وعن أعمارها وأسباب سقوطها وعن تحول الدول من عهد البداوة إلى عهد الحضارة، وعن الملك وأصنافه، وعن الإمامة والخلافة، ورسوم الخلافة من بيعة وولاية عهد، وعن القضاء، وعن الإدارة والوزارة والدواوين، وعن الشرطة والجيش، وعن الجزية والخراج، وعن الحروب ومذاهبها، وعن التجارة والصناعة والعلوم.  عرض ابن خلدون لهذه النظريات وعالجها جميعاً كما يقول الأستاذ محمد عبد الله عنان في كتابه عن ابن خلدون (معالجة دلت على فضله وعلو مكانته وكان فيها موفقاً غاية التوفيق) نظر ابن خلدون إلى موضوعه الاجتماعي من أفق واسع فجعل من المجتمع الإنساني وما يعرض له من الظواهر الطبيعية مادة لبحثه وموضوعاً لدراساته وكان لأبحاث علم السياسة محل كبير من عنايته فعالجها بإفاضة في سلك منتظم الروابط والشواهد، متخذاً من التاريخ عدته في تأييد أفكاره، ومن المنطق السليم طريقاً في توضيحها وجلائها، فكان بحق من أكبر واضعي علم السياسة وبناته.
5 ـ عالج فقهاء المسلمين هذه المسائل على أساس جديد خالفوا به من تقدمهم من فلاسفة الإغريق وغيرهم:  نظر فلاسفة اليونان إلى العلوم السياسية نظرة اجتماعية واسعة، ونظر إليها علماء المسلمين نظرة قانونية محضة، وعالجوا مباحثها مع ما عالجوا من أحكام الفقه حتى المختلفة، وهو طريق سليم واتجاه لا شك سديد أخذ به أخيراً كثير من علماء الدستور في العصر الحديث، وخاصة الألمانيين منهم الذين رأوا أن الدولة هي الشكل القانوني لحياة الجماعة، وأن مباحث الحكم وما يتصل به هي مباحث قانونية تتناول علاقة الدولة بالأفراد من ناحية القانون حتى لقد قالوا في بيان أن الإنسان مدني بالطبع محتاج إلى الاجتماع ببني جنسه ـ قالوا:  (إن الشعب في الدولة يتلقي أمراً قانونياً يلزمه بأن يعيش حياة الجماعة، [ كتاب "أساس القانون الألماني للدولة " تأليف جرير ] وقالوا في شأن الدولة:  (إنها شخص معنوي يستمد وجوده من القانون، وله حقوق وعليه التزامات قانونية، ـ نفس المرجع ـ) وقرروا في صدد علاقة الفرد بالدولة (أن مبناها ما بين الاثنين من روابط الصلة القانونية ـ نفس المرجع ـ).
ولعل في هذا الإيضاح ما يكفي للرد على ما تساءل عنه أستاذنا الكبير على عبد الرازق باشا حين قال في بحثه المشار إليه: (ما لهم أهملوا النظر في كتاب الجمهورية لأفلاطون، وكتاب السياسة لأرسطو، وهم الذين بلغ من إعجابهم بأرسطو أن لقبوه المعلم الأول ؟ وما لهم رضوا أن يتركوا المسلمين في جهالة مطبقة بمبادئ السياسة وأوضاع الحكومات عند اليونان ؟).
 
لم يترك علماؤنا الاهتمام بعلوم السياسة عند اليونان غفلة منهم عن تلك العلوم، ولكن لأن وجهة النظر في معالجتها قد اختلفت عندهم عنها عند الإغريق.
وقد أطلق مونتسيكيو، وبور لا ماكي، وجان جاك روسو وغيرهم من علماء علم السياسة على تلك العلوم اسم:  (القانون السياسي) وقد أسماها الدكتور محمد حسين هيكل باشا في كلمة له (الفقه السياسي) وذلك تسليماً منهم بالرابطة التي تجمع بين علوم السياسة والقانون.
 
6 ـ وإذا كانت النظرة الغالبة عند الغربيين إلى تلك العلوم السياسية قد ظلت إلى أواخر القرن التاسع عشر مبنية على أساس من السياسة والاجتماع والفلسفة، فإن هذه النظرة لم تلبث أخيراً ـ تحت تأثير النظريات الألمانية وقوة الحجج التي قامت عليها ـ أن تغيَّرت، وأصبحت علوم السياسة تدرس من ناحيتها السياسية والقانونية معاً، حتى لقد قال بعض العلماء الفرنسيين:  (إنه من المستحيل أن نجني أية ثمرة محسوسة من دراسة نظم الدولة إذا نحن لم نجمع بين السياسة وعلم القانون).
 
7 ـ والواقع أن اثر علماء المسلمين في الفقه السياسي أثر ملموس كبير القيمة عظيم الخطر، وأن الأساس الذي قامت عليه مباحثهم في هذا الشأن من الاتجاه صوب الفقه مع مراعاة مقتضيات الأحوال، والعدالة السياسية والاجتماعية، وحاجات الأمم، هو خير أساس عولجت به هذه الشؤون.
 
وإذا كانت المبادئ العامة التي وضعها علماء المسلمين لم تخرج إلى أوضاع ذات إجراءات مفصلة، ومراسيم مرتبة، وتقاليد راسخة، بل بقيت على حالتها الأولى من التعميم والإجمال، مما لم يجعل لها سلطانا كبيراً على عقلية جمهور المسلمين بحيث سهل صرفهم عنها بالخداع أو القوة، فإن ذلك راجع ـ كما يقول بحق صديقنا الدكتور عبد الله العربي بك ـ إلى (أن الأجيال التي أعقبت الصدر الأول من الإسلام غفلت أو تغافلت عن خطر هذه الأصول، وعن ضرورة استنباط القواعد التنفيذية والإجراءات العملية التي تكفل نفاذها في كل نواحي سياسة الدولة، إذ توالت الأجيال المتعاقبة، وهي ذاهلة عن واجبها في استخراج تلك الأوضاع والأساليب العملية التي تكفل التوفيق بين هذه الأصول العامة واحتىاجات كل عصر، فلم تلبث هذه الأصول الإسلامية لطول التَرْك أن اندثر أثرها في وجدان الشعب، ولحقها من تشويه المعنى وعبث التفسير ما جعلها مطية ذلولاً لبغي الطغاة وسحق الحريات، والمطّلع على تاريخ الشرع حتى لا يسعه إلا أن يقرر أن وزر هذا البلاء واقع على نفر من الخاصة استهانوا بالأصول الديمقراطية التي دعا الإسلام إلى إقامتها، وقلبوا منصب الخلافة إلى ملك أتوقراطي وهدموا مبدأ الشورى ومستلزماته).
 
8 ـ وإذا كان الكثير من مبادئ الفقه السياسي التي وضعها المسلمون قد جاء عاماً ومجملاً، فان لهذا التعميم والإجمال ميزته المقصودة، ذلك أن التعميم الذي لا ينزل إلى التفصيلات الجزئية لا يقيد الأجيال المقبلة بهذه التفصيلات والتطبيقات بل يتركها حرة تقتبس الوضع الحكومي الذي توافرت فيه الملائمة العملية لحاجات كل زمان ومكان مع التقيد بالفكرة الإسلامية بوجه عام.  وتلك هي المرونة اللازمة في المبادئ التي يراد لها الخلود، لتكون ملائمة لتطور احتىاجات البشر.
 
9 ـ لما عهد إليّ بتدريس القانونين الدستوري والإداري بالجامعة الأزهرية، وجدت من واجبي ـ وأنا أدرّس في جامعة تعتبر الحارس الأول على تراث المتقدمين من علماء المسلمين، والعامل على نشر آرائهم ومذاهبهم ـ وجدت من واجبي أن أعمد على قدر الإمكان إلى البحث المقارن لأضع أمام طلبتي نظريات السياسة الحديثة وبجانبها ما جاء به المسلمون المتقدمون من آراء في هذه الشؤون.
 
ولا أعدو الحق إذا قلت إني وجدت لكل حديث من تلك النظريات تقريباً بحثاً قديماً في نفس الفكرة مما يجوز معه القول بأن أوائلنا لم يتركوا في هذا المضمار للأواخر شيئاً يذكر، وأن حظ العلوم السياسية فيهم كان بالنسبة لغيرها من العلوم أكبر حظ، وأن وجودها بينهم كان أقوى وجود، مما سأتناوله بالتفصيل والإيضاح في مقالاتي المقبلة إن شاء الله إتماماً للبحث وخدمة للغرض الذي من أجله قدمت هذه الكلمة، والله الموفق وهو الهادي إلى خير سبيل.
 
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.  
المصدر رسالة الإسلام  السنة الأولي، جمادي الآخرة 1368 - العدد 2

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين