الإسلام عدو العصبية

الشيخ عبد الوهاب حمودة

قال صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من دعا إلى عصبية).
الأصل اللغوي لكلمة (عصبية) هو (عصَب) والأعصاب: حبال المفاصل التي تلائم بينها وتشدها، ومنها جاءت كلمة (العصَبَة) وهم أقارب الإنسان مثل الآباء والأعمام والأبناء والإخوة، ومن النسب إليهم جاءت كلمة (العصبية)، ثم صار معناها نصر الإنسان بهم، والتعصب لهم بالحق وبالباطل.
فإن كان النصر والاستعانة في أمر لا يخالف الشرع كانت العصبية محمودة، وإلا كانت مذمومة، وهي التي قصدها الحديث.
 ومنها: التفاخر بالأحساب والأنساب قصد التعالي والتعاظم.
ثم توسع في العصبية وأصبحت تشمل كل تحزب طائفي وتعصب مذهبي.
كانت العصبية لازمة للبدو، يؤلفون بها القبائل، ويوفرون الأمن والعدالة، ولما جاء الإسلام نعى على هذه العصبية الجاهلية، وأحلَّ محلها الإخاء الديني، والجامعة الإسلامية والرابطة الإنسانية.
فإن الإسلام دين إنساني يهدف في كل تعاليمه إلى الوحدة العامة والرابطة الجامعة، لا فرق بين كبير وصغير، وغني وفقير، وعربي وعجمي، ولا بين الأسود والأبيض، ولا بين القريب والبعيد.
فالرسول صلوات الله عليه يقصد أن يقول في هذا الحديث:
ليس من أهل ديننا من يدعو قومه وحلفاءه أو أهل حزبه وطائفته لنصره بالباطل، وليس من ملتنا من ينصر قومه أو أقاربه بغير الحق، أو يتباهى بهم فيحقر غيرهم.
فقد كانت أفراد القبيلة الواحدة في الجاهلية تتناصر على الخير والشر، وتتحالف مع غيرها على التأييد في الحق وفي الباطل، وتتغنى بمدح قبيلتها وحدها.
وإذا استغاث أحدها كأن يقول: يا لبكر ويا لتغلب، أسرع لنجدته أهله وحلفاؤه، ينصرونه ويؤيِّدونه وإن كان ظالماً، من غير أن يتريَّثوا أو يتبيَّنوا أنه محق في دعوته أو مصيب في استغاثته.
روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتةً جاهلية، ومن قاتل تحت راية عُميّة ـ هي الأمر الأعمى لا يستبين وجهه ـ يغضب لغصبة أو يدعو إلى عصَبة أو ينصر عصبة فقتل فقتلةٌ جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي لذي عهد عهدّه فليس مني ولست منه).
فإغاثة الظالم ونصره تخرج المعين من دائرة الإسلام الكامل، فلا تجوز معاونة الباغي ولو كان أبا أو أخاً أو قريباً أو خليطاً.
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ] {النساء:135}.
ذلك لأن العصبية للون من ألوان الأمة، أو التحزب لطائفة من الطوائف أوشيعة من الشيع، فإنما تفرق الأمة شيعاً وأحزاباً يقاتل بعضهم بعضاً، وتوقع بينهم العداوة والبغضاء.
وما ضعف المسلمون، وتأخرت حالتهم وتقسمت دولتهم العظيمة أقساماً صغيرة مغلوبة إلا من جراء تلك العصبية البغيضة وأشباهها.
يقول الأستاذ الشيخ محمد عبده: ( لذلك رفع الإسلام كل امتياز بين الأجناس البشرية، وقرر لكل قطر شرف النسبة إلى الله في الخلقة، وشرف اندراجها في النوع الإنساني، وشرف استعدادها بذلك لبلوغ أعلى درجات الكمال الذي أعده الله لنوعها على خلاف ما زعمه المنتحلون من الاختصاص).
وقال تعالى:[يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ] {الحجرات:13}.
فالكرامة والافتخار لا يرتبط بالأنساب بل بالعمل، قال عليه الصلاة والسلام: الناس رجلان: بَر تقي كريم على الله، وفاجر شقي هيِّن على الله، الناس كلهم بنو آدم، وخلق الله آدم من تراب) ثم قرأ الآية:[يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ] {الحجرات:13}. )
وخطب صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال: (ألا إن ربكم واحد، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ألا هل بلغت؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: فليبلغ الشاهد منكم الغائب).
وعنه صلى الله عليه وسلم: ( لينتهين قوم يفخرون بآبائهم أو ليكونن أهونَ على الله من الجِعلان ـ جمع جُعل وهو دابة كالخنفساء ـ ).
فالإسلام  دين عام خالد، قد اعتبر المؤمنين جميعهم أمة واحدة،، واعتبرهم جسداً واحداً إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحُمَّى، وما كان يمكن أن تسير قبائل العرب وشعوب العجم تحت راية الإسلام تقاتل مخالفيه وتنشر تعاليمه، و تثبت قواعد التوحيد إذا استمرت القبائل تفخر على القبائل، والشعوب تفخر على الشعوب.
وما عرف أن أمة توحَّدت وفيها أجناس تشعر بالتفاوت والتغاير، ولابد لوحدة الأمة من أن تندمج جميع عناصرها وتنتظمها وحدة تكون هي الغاية التي يحافظ عليها ويقاتل من أجلها.
وهذه الوحدة التي اعتبرت رباطها الإيمان، فهو الجامع لجميع الأجناس، والموحد لجميع القبائل والشعوب، والهادم لكل عصبية، والقاضي على كل طائفية.
فإذا كانت الجامعة الموحدة للأمة هي مصدر حياتها، سواء أكانت مؤمنة أم كافرة، فلا شك أن المؤمنين أولى بالوحدة من غيرهم، لأنهم يعتقدون أن لهم إلهاً واحداً يرجعون في جميع شئونهم إلى حكمة الذي يعلو جميع الأهواء، ويحول دون التفرق والخلاف.
ولأن جميع تعاليم الإسلام تدعو إلى الوحدة والتفاف البشر تحت راية واحدة واتجاههم وجهة واحدة.
يتلو المرء سورة الفاتحة من القرآن الكريم وهو قائم للصلاة، وهي سورة جليلة القدر عند المسلمين وغيرهم، وأولى آياتها: [الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ] {الفاتحة:2}. تقرر أن ألوهية الإله تتصل بهدي البشر، وغاية القرآن الكريم الحقيقية رفع الجنس البشري وإعلاؤه إلى ذروة الرفعة، وترمي كلمتا ( رب العالمين ) إلى أن هذا الكتاب المقدس لم يوح به لأجل شعب معين أو قطر معين، فآية: [الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ].حجرُ الزاوية في التقدم الجمعي، وتتحد عند تلاوتها أفكار الإنسانية جمعاء في الخضوع لله تعالى، ويشعر الإنسان باتصاله العام بالجنس البشري، على الرغم من انتسابه إلى عائلته، وعنصره وأمته وبلاده، فهو يشعر بشعورهم، ويتمنى الهداية لجميعهم، وإذا حل الهدم والتخريب والموت بأفراد جنسه في أية بقعة من بقاع الأرض تغشى قلبه أسى وردد في غمرة هذا الألم [الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ].ودعا الله ضارعاً طالباً الخير لكل ذي حياة في هذا الوجود.
وتلك نفس الصرخة التي تخرج من قلوب الأنبياء والحكماء فتغدو بلسماً شافياً لأدواء الأمم.
ألا ترى إلى الحج وما فيه من الجوانب الروحية، والتقريب بين النفوس البشرية؟ فهو المجتمع العام الذي يؤمه المسلمون من بقاع الأرض النائية على اختلاف أجناسهم وألسنتهم وألوانهم، فيؤدون شعائرهم وهم في حالةٍ تصرفهم عن مباهج الدنيا ومفاتنها، وتزهِّد إليهم زخرفها وزينتها، وتلزمهم جميعاً أن يطرح المتميزون منهم امتيازهم، ويترك المترفون فيهم ترفهم ورفاهيتهم، في وقت معلوم، وأن يتجردوا من ثيابهم وأوسمتهم وشاراتهم، وأن يبرزوا محرمين في إزار ورداء، فلا يمتاز أمير عن سوقة، ولا غني عن فقير.
فإذا ما اجتمعت هذه الجموع ـ وهي في هذا التجرد من الزيّ ـ في مكان واحد ووقت واحد وهو عرفة، فأيّ معنى من المعاني الروحية السامية يلهمه هذا الموقف الرائع الخطير.
إله واحد يدعو البشر إلى دين واحد، وتفرض عليهم تعاليم هذا الدين أن يجتمع المستطيعون منهم في مكان واحد، وزمان واحد، ويلبي هؤلاء دعوة ربهم فيفدون من بقاع الأرض قاصيها ودانيها خاشعين، استجابة لدعوة خالقهم، وتلبية لنداء بارئهم، قبلتهم واحدة، ودعاؤهم واحد.
كل ذلك شرعه الإسلام ليقضي على سيطرة الأرستوقراطية، ويبتعد بالأنفس المؤمنة عن لوثة العصبية، وجنون الحزبية، وشطط الطائفية.
فالإيمان لا يستلزم العصبية، ولا يقتضي التعصب والتزمُّت إلا عند من صدئت قلوبهم، وأظلم الجهل عقولهم، وأكلت الإحن والأحقاد صدورهم.
وإذا نزل الإيمان السمح بالقلب السليم ملأه صفاء، وبدل ظلمته نوراً.
فالتعصب يلازم الإيمان في العصور التي يعتريها الركود العقلي، ويزايله حين يمحي الجمود باستنارة العقل، إذ تتسع جوانب النفس، وتصفو القلوب، ويجتمع في المؤمن وحي القلب ومنطق العقل.
فالتعصب إذا أيّدته سلطة، حمل أصحابه على جناح العنف البالغ إلى التنكيل بخصومهم في غير رفق ولا رحمة.
كان هذا أمر الكثيرين من المسيحيين مع الوثنيين في بدء عهودهم، فلما استقر نفوذهم وتهيأت لهم السلطة نزعوا إلى اضطهاد الوثنيين واليهود وغيرهم من الملحدين.
وكذلك مع البروتستانت مجدوا من شأن التسامح في بدء حياتهم مع أصحاب السلطة من الكاثوليك، فلما ظفروا بالسلطان نكلوا بخصومهم من الكاثوليك والملحدين شر تنكيل.
وكذلك كان الحال مع المسلمين في الأندلس، وكذلك الحال الآن في مؤتمراتهم السياسية ومجالسهم الاستعمارية ومناقشاتهم الطائفية.
فالعصبية هي سر شقاء الإنسان ومنبع الإجحاف والعدوان بالبشرية.
قال صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من دعا إلى عصبية).
روى الحافظ ابن عساكر عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن رضي الله عنه قال: جاء قيس بن مطاطية إلى حلقة فيها سلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي فقال: هذا الأوس والخزرج قد قاموا بنصرة هذا الرجل وهؤلاء؟ (يعني هذا المنافق بقوله: الرجل: النبي صلى الله عليه وسلم وأن الأوس والخزرج من قومه العرب ينصرونه لأنهم من قومه فما الذي يدعو الفارسي والرومي والحبشي إلى نصره؟!) فقام إليه معاذ بن  جبل رضي الله عنه فأخذ بتلابيبه ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بمقالته فقام النبي صلى الله عليه وسلم مغضباً يجر رداءه حتى أتى المسجد ثم نودي: الصلاة جامعة، وقال: (يأيها الناس: إن الرب واحد، والأب واحد، وإن الدين واحد ) فقام معاذ رضي الله عنه فقال: ما تأمرني بهذا المنافق يا رسول الله ؟ قال: دعه إلى الناس. فكان قيس ممن ارتد في الردة فقتل.
وهذه عاقبة كل من تردى في هاوية العصبية وانغمس في حمأة الطائفية.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر: مجلة لواء الإسلام العدد 3 السنة 8 ذو القعدة 1373

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين