بُروقُ النِّعَم من دياجير الظُّلَم ( 14 )مِحَنٌ تُنْتِجُ مِنَحًا

بقلم: ماجد الدرويش

من نعم الله تعالى على هذه الأمة أنه قد تكفل بإبقائها إلى قيام الساعة، ذلك أنه سبحانه تكفل بحفظ كتابه، فقال عز وجل: ﴿ إنّا نحنُ نزَّلْنا الذِّكرَ وإنَّا له لحافظون ﴾، وقال تعالى: ﴿ لتكونوا شهداءَ على الناس ﴾، فلزم من ذلك بقاء هذه الأمة ما بقي الكتاب، وما بقي الناس.
وقد كان اعوجاج الأمم السابقة يُقَوَّمُ ببعثة الأنبياء والمرسلين، فلما ختمت النبوة بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، أناط الله تعالى مهمة تقويم اعوجاج الناس إلى ورثة الأنبياء: ألا وهم العلماء العاملون بخاصة، وهذه الأمة المباركة بعامة، كما قال تعالى: ﴿ وكذلك جعلناكم أُمَّةً وسطًا لتكونوا شهداءَ على النَّاسِ ويكونَ الرَّسولُ شهيدًا عليكم﴾، وقال تعالى: ﴿ ولتكن منكم أمَّةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف ويَنْهَوْنَ عن المنكر ويؤمنون بالله وأولئك هم المفلحون ﴾.
هذا،وقد يعتري وجودَ هذه الأمة ضعفٌ ما، أو وهَنٌ، في بعض مراحل التاريخ.كما أن الحاملين لراية الدعوة وتقويم الناس ليسوا بمعصومين، مما يعرضهم لإهمال في واجباتهم في بعض الأحايين، فيترتب على ذلك تراجع تاريخي يفسح المجال لغيرهم بالتقدم، وهذا الغير غالبا قوم لا خلاق لهم، فينتج عن ذلك شرور وفتنة في الأرض وفساد عريض، يكون للأمة المسلمة منه النصيب الأكبر.ثمتأتي أقدار الله تعالى الغالبة لتعيدها إلى قيادة البشرية وصناعة الأحداث، عندما ترجع لنفسها، وتلتزم ما شرطه الله تعالى عليها.
وقد أتى على أمتنا زمان من الوهن، وبخاصة على إثر سقوط الخلافة الإسلامية في القرن العشرين، قد لا يقل عن الوهن الذي أصابها زمن غزوات الفرنجة والتتار، إن لم يكن أشد. ولكن الله تعالى برحمته تكفل بألا يكون للكافرين على المؤمنين سبيلًا يستأصلون به الأمة، فإذا بأقدار الله تعالى الغالبة تهُبُّ في القرن الواحد والعشرين من حيث لم يحتسب أحد، من تونس الخضراء التي يئس من حالها البعيد قبل القريب، قائلة للعالم كله:﴿وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾.
وها هو الربيع العربي تتفتح براعمه في بلادنا، وتكثر أزهاره وتتنوع وتتلون في بلاد الشام بألوان الدم القاني، وكأني بتربة الشام تتوق للارتواء من دم أبنائها الشرفاء.
 هذه الأرض المباركة التي جعلها الله تعالى موئل المؤمنين عند الفتن: لأنها خيرة الله تعالى من أرضه، ولأنَّ ناسها من خيرة عباد الله تعالى، كما في حديث الذي أخرجه الإمام الطبراني في «معجمه الكبير»، عن وَاثِلَةَ بنِ الْأَسْقَعِ، رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يَقُولُ لحذَيْفَةَ بنِ الْيَمَانِ وَمُعَاذِ بنِ جَبَلٍ: وَهُمَا يَسْتَشِيرَانِهِ فِي الْمَنْزِلِ– أي في خير بقعة من بقاع الأرض ينزلون بها -فَأَوْمَى إِلَى الشَّامِ، ثُمَّ سَأَلَاهُفَأَوْمَى إِلَى الشَّامِ، ثُمَّ سَأَلَاهُ فَأَوْمَى إِلَى الشَّامِ، ثم قَالَ: ( عَلَيْكُمْ بِالشَّامِ، فَإِنَّهَا صَفْوَةُ بِلَادِ اللهِ يَسْكُنُهَا خِيرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ، فَمَنْ أَبَى فَلْيَلْحَقْ بِيَمَنِهِ، وَلْيَسْقِ مِنْ غُدُرِهِ، فَإِنَّ اللهَ تَكَفَّلَ لِي بِالشَّامِ وَأَهْلِهِ ).
وعليه: لما كان أهل الشام من خيرة خلق الله سبحانه، كان البلاء النازل فيهم على قدر هذه الخيرية، وإذا أَحَبَّ اللهُ عبدًا أَكْثَرَ غَمَّهُ، على ما أخرجه الحافظ أبو نُعَيْمٍ في «حِلْيَةِ الأَوْلياء» عن الفضيل بن عياض.
 وأخرج الإمام البيهقي في «شعب الإيمان»عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: " إذا أحب الله عبدا ابتلاه: فمِنْ حُبِّهِ إياه يَمَسُّهُ البَلاءُ حتى يَدْعُوهُ فيسمعَ دعاءَه ".
ففي ثنايا هذا البلاء والابتلاء المتراكم مثل الظلمات بعضِها فوق بعض، حتى تكادُ شِدَّةُ الظُّلْمَةِ أن تَسْتُرَ العقولِ وتَحْجُبَ عنها التوفيقَ والسداد، تَبْرُقُ نِعَمُ الله تعالى فتضيءُ للعقل والقلب صراط الله المستقيم، فإذا بالنفوس تهدأ، وإذا بالعقول تستنير، وإذا بالمحنة تنقلب منحة. وإذا بتباشير الخير تقول للمستضعفين: ﴿ ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ﴾.
اللهم إنَّ أهلَنا في بلاد الشام يشكون إليك ضَعفَ قوَّتِهم وقِلَّةَ حيلتهِم وهوانَهُم على الناس، يا أرحم الراحمين: أنت ربُّ المستضعفينَ وأنتَ ربُّهُم، إلى مَنْ تكلهم! إلى بعيدٍ يَتَجَهَّمُهُم، أم إلى قريبٍ ملَّكْتَهُ أمرهُمْ! إن لم يكن بك عليهم غضبٌ فلا يبالون، ولكنَّ عافيتَكَ هي أوسعُ لهم، يعوذون بنور وجهك الذي أشرقَتْ له الظلمات، وصَلَحَ عليه أمرُ الدنيا والآخرة، مِنْ أَنْ ينزِلَ بهم غضبُك، أو يَحُلَّ عليهم سخطُك، لك العُتْبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين