بين الصورة والحقيقة

للعلامة: أبي الحسن الندوي

إن كل شيء له صورة وحقيقة، وبينهما فرق كبير رغم الشبه العظيم . تميزون بينهما بسهولة في حياتكم، تعاملون الحقيقة بما لا تعاملون به الصورة، واضرب لذلك مثالين: هذا مثل للثمار المصنوعة من الخزف، تتراءى للناظر كأنها تفاح، ورمان، وبرتقال، وعنب، وموز، لونها وشكلها، ولكن أين الصورة من الحقيقة؟ وأين طعم هذه الثمار ورائحتها؟ إنها ليست إلا للزينة أو المال .
إنكم ترون في المتحف كل نوع من السباع والأنعام والطيور الجميلة، والعصافير الصغيرة، ففيها الأسد، والذئاب، والأفيال، والذباب، وفيها كل طائر جارح، وكل سبع مخيف، ولكنتها جثث هامدة لا حرك بها، والأجساد ميتة محشوة بالليف والقطن، ليس فيها رمق من حياة، وقوة تهجم بها وتصول، حتى لا تحس منها من أحد، ولا تسمع لها ركْزاً .
إن الصورة لا تستطيع أن تسد مكان الحقيقة وتنوب عنها، ولا يمكنها أن تمثل دور الحقيقة في الحياة، وتأتي بما تأتي به من عمل ونشاط، ولا يمكن أن تقاوم الحقيقة وتكافحها . فإذا وقع صراع بينهما انهارت الصورة، ولا يمكنها أن تحتمل عبء الحقيقة، فإذا وكل أحد إلى الصورة وأضيفت الحقيقة أو عول عليها في مهمة خانته الصورة، وخذلته أحوج ما يكون إليها .
والصورة لو كانت مهيبة هائلة تغلب عليها الحقيقة ولو كانت ضعيفة متواضعة لأن الحقيقة الحقيرة أقدر وأقوى من الصورة العظيمة المهيبة، وإن الولد يقدر أن يسقط الأسد الميت المحشو بالليف والقطن بيده الضعيفة الناحبة، لأن الولد يحمل الحقيقة، ولو حقيقة صغيرة، والأسد ليس إلا صورة، ولو كانت صورة مهيبة .
إن هذا العالم الذي نعيش فيه عالم الحقيقة والأمر الواقع، وقد خلق الله كل شيء على حقيقته، فللمال حقيقة، وحبّه فطري طبعي، ولأجل ذلك وردت عنه الأحكام، ووضع الله فيه التأثير والجذب . وللأولاد حقيقة، والحنان إليهم وحبهم فطري، ولأجل ذلك وردت الأحكام في الشرع عن تربيتهم وتعليمهم . وكذلك للحاجات الطبيعية، والميول الفطرية حقيقة لا تجحد، ولا تغلب تلك الحقائق إلا حقيقة أقوى ورغبة أعظم وأشد .
إننا نحتاج إلى حقيقة الإسلام والإيمان للظفر على الحقائق المبثوثة في العالم، أما صورة الإسلام فهي عاجزة عن أن تقهر هذه الحقائق وتنتصر على أيِّ حقيقة .
ولذلك نرى اليوم بأعيينا أنَّ صورة الإسلام أصبحت لا تغلب على الحقائق المادية الحقيرة، لأن الصورة ولو كان ظاهرها مقدساً رائعاً ليس لها سلطان وتأثير، وان صورة إسلامنا، وصورة كلمتنا، وصلاتنا اليوم لا تقدر أن تتغلب على عادتنا الحقيرة، وتقهر شهواتنا الخسيسة، أو تثبتنا على جادة الحق عند البلاء والامتحان .
إن الكلمة التي كانت من قبل ذات سلطان عجيب على القلوب والأرواح، وكانت تهون على الناس ترك المألوفات، وقهر الشهوات، والشهادة في سبيل الله وبذل الأرواح والأنفس لله واحتمال المكاره وتجرع المرائر في سبيل الله هي عاجزة عن أن تحمل الناس على ترك فرشهم بعد أن استغرقوا في النوم طول الليل ويقيموا لصلاة الفجر.
نعم، الكلمة التي كانت تغلب على شهوة الخلق، فتحول بين الناس وبين الكأس وهي على راحته، فيمتنع عن شربها، لأن الدين يمنع من ذلك، ولأن الكلمة تأبى عليه أن يشرب الحرام، ها هي الآن قد أصبحت لا تملك أمرا ولا نهياً
 سرِّح طرفك في تاريخ الإسلام، وتجوّل في فصوله وأوراقه، يظهر لك إن كلمة الإسلام التي كان الصحابة، وكان المسلمون في القرون الأولى يتلفظون بها، كانت ذات حقيقة ثابتة، وكانت كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، وكلمتنا نحن ألفاظ مجردة، ونطق فارغ، لأجل ذلك ترى عدم تأثيرها في الحياة والأمة، ثم إننا مع ذلك نحاول أن نطبق حياة أصحاب الرسول الله صلى الله عليه وسلمعلى حياتنا، ونرجو أن تؤتي هذه الكلمة أكلها وكل حين، وتحدث ما أحدثت في الماضي، حتى إذا لم يكن ذلك بطبيعة الحال تساءلنا، وقلنا: ألسنا مسلمين؟ ألسنا نصلي ونصوم؟ ألا نتلفظ بكلمة الإسلام ونرددها صباح مساء؟ ! فلماذا هذا الفرق الهائل بين عهدنا وعهد الخلفاء الراشدين؟ !
وإذا هذا البون الشاسع بين حظنا وحظهم؟ ! وأين ثمرات شجرة الإيمان؟ ! وأين نتائج الصلاة والصيام وأين ما وعد الله من النصر المبين والاستخلاف والتمكين؟ !
لا تخدعنا أنفسنا!! ولنعلم أنهم كانوا أصحاب جد وحقيقة في الدين . لقد كانت كلمتهم الحقيقة، ونحن مجرَّدون عن هذا الحقائق، فرجاء أن تثمر الصورة وما أثمرت الحقيقة، وتغني غناءها، إنما هو وهم وخيال، وضرب من المحال .
أما قرأتم في التاريخ أنَّ خبيباً رضي الله عنه رفعوه على الخشب، وتناولوه بالرمح والأسنَّة، حتى تمزق جسمه وهو قائم لا يشكوا ولا يئن، فقالوا له: (أتحب أن يكون محمد  صلى الله عليه وسلم - مكانك؟ (فيضطرب ويقول: والله لا أحب أن يفديني بشوكة يشوكها في قدمه)! .
يا أبناء الإسلام! إن الذي ثبته في هذا المكان، وألهمه أن ينطق بمثل هذه الكلمة العريقة في حب رسول الله صلى الله عليه وسلم هل هي صورة الإسلام؟ لا، بل هي الحقيقة التي مثلت بين عينيه الجنة، والرماح تنوشه وتعبث بجسمه، وناجته وقالت: صبراً يا خبيب، فما هي إلا لمحات وثوان، وها هي الجنة تنتظرك، ورحمة الله ترتقبك، فإذا احتملت آلام هذا الجسد الفاني والحياة الزائلة العابرة، نلت السعادة الدائمة، والحياة الباقية .
هذه هي اللذة الروحيَّة، وحقيقة الحب والإيمان التي أبت على خُبيب أن يطلق ويؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم بشوكه في قدمه، فهل تستطيع الصورة أن تحمل صاحبها على هذا الإخلاص والتفاني، والثبات على العقيدة والصبر على الموت؟ !
كلا الصورة لا تقاوم الشدائد والآلام، بل حتى الخيالات والأوهام . وقد بدا لنا ذلك في الاضطرابات الطائفية والماضية في الهند،فإن أناساً من المسلمين قد غيروا صورة الإسلام خوفاً مما مر بخاطرهم من الفزع، وخشية الموت، وما ثار في رؤوسهم من معارك خيالية حامية، واختاروا شعار الكفر، وذلك لأن هؤلاء الناس قد كانوامتحلين بالصورة، فارغين عن الحقيقة .
هاجر سيدنا صهيب رضي الله عنه، فلما كان في الطريق أعترضته جماعة من مشركي مكة، وقالوا له: أتينا صعلوكاً حقيراً، فكثر مالك عندما، ويبلغ الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك؟ والله لا يكون ذلك، وهناك قامت المعركة بين حقيقة الإسلام وحقيقة المال، ودارت بينهما رحى الحرب، فانتصر حقيقة الإسلام على ضدها، وقال لهم صهيب: (أريتم أن جعلت لكم مالي أتخلّون سبيلي؟ قالوا: نعم، قال: فإني قد جعلت لكم مالي . ]) وهكذا أطلق صهيب بيديه، متجرداً من ماله، فرحاً مسروراً، كأنه لم يفقد شيئاً ولم يخسر شيئاً .
وخرج سيدنا أبو سلمة بزوجته وابنه يريد المدينة، فلما رآه رجال من بني المغيرة قاموا إليه فقالوا : هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه، علام نتركك تسير بها في البلاد؟ ! ونزعوا خطام البعير من يده، وأخذوها منه، وأخذ بنو عبد الأسد سلمة ولده الصغير، هناك أصطدمت الحقيقة، الإسلام بحب الزوج والولد، فما لبث أن انتصرت عليه، وغادر أبو سلمة زوجه وولده تحت رعاية الله، وهاجر وحيداً، هل الصورة تستطيع ذلك؟ وهل يقدر أصحابها على ترك الزوجات والأولاد في سبيل العقيدة والدين؟ كلا ! بل سمعنا أن أناساً قد أرتدوا عن دينهم للمال، والأزواج، والأولاد، وغير ذلك من متاع الدنيا وزخرفها .
كان أبو طلحة مقبلاً على صلاته، فإذا طائر يدخل في بستانه، ثم لا يجد الطريق للخروج، ويميل إليه قلبُ أبي طلحة، فلما انصرف من صلاته تصدق بهذا البستان: لأنه لا يحب أن يشغله شيء عن حقيقة صلاته، وينازع قلبه ! .
إن للبستان حقيقة، ولثمره وأكله حقيقة، ولا تغلب هذه الحقائق إلى حقيقة الإسلام، وإن صلاتنا اليوم مجردة عن الحقيقة، ولذلك لا تقدر أن تقاوم أدنى الحقائق المادية .
لقد كان في حرب اليرموك بضعه آلاف من المسلمين ،وأما الروم فقد كان عددهم يبلغ مئتي ألف أو يزيدون، فإذا نصراني كان يقاتل تحت لواء المسلمين يقول: ما أكثر الروم وأقل المسلمين، فيقول خالد رضي الله عنه: والله لو وددت أن الأشقر برأ من توجعه، وإنهم أضعفوا في العدد .
بمَ كان خالد رضي الله عنه مطمئناً، ولِمَ لم يشغل خاطره هذه العدد الهائل؟ولِمَ لم تكبر في عيينه جنود الروم الكثيفة؟ ذلك لأنه كان مؤمناً بالله، واثقاً بنصره، ولأنه كان يعلم أنه على الحقيقة، وأن مقابله صورة فحسب، وإن الروم صورة فارغة عن الحقيقة، وكان يعتقد ان الصورة مهما كثرت، لا تقدر أن تقاوم حقيقة الإسلام .
لاشك أننا نتلفظ بكلمة الشهادة والتوحيد، ومنا من يعرف ما يقول، ولكن الصورة شيء والحقيقة شيء آخر. إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين الصادقين كانوا على حقيقة هذه الشهادة، فإذا قالوا: لا اله إلا الله اعتقدوا أنه لا إله غيره، ولا رب غيره، ولا رازق غيره، ولا نافع ولا ضار إلا هو، له الملك والحكم، والخلق والأمر، وبيده ملكوت كل شيء، يجير ولا يجار عليه، وأخلصوا له الحب، والخوف والسؤال والرجاء، والعبادة، والدعاء، وأصبحوا عباداً حنفاء، شجعاناً أقوياء، لا يهابون العدو، ولا يخافون الموت، ولا يبالون بلومة لائم .
نرجع إلى أنفسنا، ونفكر هل هذه هي الحقيقة متغلغلة في أحشائنا، ومتسربه في عروقنا وشراييننا، وهل غرس حياتنا يسقى بهذا الماء؟ معذرة وعفوا أيها السادة إنا نخاف أن لا يكون الأمر كذلك، وأن نصيب الصور في حياتنا أكثر من نصيب الحقيقة، وذلك موضع الضعف في حياتنا، وسر شقائنا ومصائبنا، إننا جميعاً نؤمن أن الآخرة حق، والجنة حق، والنار حق، والبعث بعد الموت حق، ولكن هل إننا حاملون لحقيقة الإيمان كأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان؟ وقد سمعنا أن احدهم سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :"قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض" فرمى بما معه من التمر، وقال:" لئن أنا حييت حتى آكل التمرات هذه، إنها لحياة طويلة" ، وقاتلهم حتى قتل، لأن الجنة كانت عنده حقيقة لا يشك فيها،فمن أيقن يقول كأنس بن النضر:" إني لأجد ريح الجنة من دون أحد ".
أتى رجل من المسلمين يوم اليرموك، وقال للأمير: إني قد تهيأت لأمري، فهل لك من حاجة إلى رسول صلى الله عليه وسلم؟  قال: نعم ! تقرئه عني السلام، وتقول :يا رسول الله إنا قد وجدنا ما وعدنا حقاً . أفيقول هذا إلا من يوقن انه مقتول في سبيل الله، وملاق رسول الله، ومجتمع به في الجنة، وأنه مكلمه ومحدِّثه، فإذا حصل للرجل مثل هذا اليقين فما الذي يمنعه؟ ! ومن الذي يحول بينه وبين الشهادة؟ ! إن أكبر انقلاب وقع في تاريخ هذه الأمة، هو أن الصورة احتلت مكان الحقيقة، واستولت على حياة الأمة،وذلك في عهد بعيد من التاريخ، والذين كانوا يرون الصورة من بعيد يعتقدون أنها الحقيقة، ولذلك يذعرون ويشفقون من قربها، فكانت هذه الصورة الإسلامية كجدار ينصبه الفلاح في حقله كيلا يحل فيه الطير والوحش ،ولا تزال الطيور تظن أنه إنسان، أو حارس، فلا تقربه حتى يتشجع الغراب الذكي، أو حيوان جرئ ، فيجد أنه ليس بشيء، وهنالك تدخل الطيور والوحش في هذا الحقل، وتعيث فيه، وتتلف زرعه، وقد وقع للمسلمين نفسه الحادث، لقد حرستهم صورة الإسلام مدة طويلة جداً، فلم تجترئ عليه أمم العالم، ولم يدر بخلد أحدا أن يمتحن هذا الشبح المخيف ويتحققه، ولكن حتى متى؟ أغار التتار على بغداد افتضح المسلمون وظهر إفلاسهم في الروح والقوى والمعنوية، من ذلك الحين أصبحت الصورة عاجزة عن أن تحافظ عليهم، وتذود عنهم المكروه، وتدفع عنهم غارات الأمم فإن الصورة لا تقوم إلا على الجهل والغرور ، فإذا انكشف الغطاء وزاح الستار تبين الصبح لذي عينين .
وإنما نرى ونقرأ في التاريخ الإسلامي في أخبار وانكسار المسلمين وهزيمتهم في ميادين القتال، إن كل ذلك أخبارانخذال الصورة وفضيحتها لا غير، وقد فضحت الصورة في كل معركة وحرب ومقاومة واصطدام، ولكن الذنب علينا حملنا الحقيقة على ظهر الصورة فلم تستطع حمله ولم تمسكه وعقدنا الآمال الكبار بالصورة الضعيفة فخيبت رجاءنا وكذبت أمانينا وخذلتنا في الميدان .
تكرر الصراع بين صورة الإسلام وشعوب العالم وجنودها وفي كل مرة تنخذل وتنهزم الصورة، ويعتقد الناس أنه هزيمة الإسلام وخذلانه وبذلك هان الإسلام في عيون الناس، زالت مهابته عن القلوب ولا يدري الناس أن حقيقة الإسلام لم تتقدم إلى ساحة الحرب منذ زمن طويل،ولم تتنازل أمم العالم، وأن الذي يبرز في الميدان هو صورة الإسلام لا حقيقته. وخليق بالصورة أن تنهزم وتضمحل أمام الواقع والأمر الجد.
 هاجمت بعض الدول الأوربية في الحرب الأولى تركيا الإسلامية، تركيا التي أرعبت أوربا كلها، وهزمت دولها مرة بعد مرة ،وكانت تركيا في هذه المرة حاملة لصورة شاحبة للإسلام وقد فقدت شيئا من حقيقة الإيمان ففشلت في المقاومة وفقدت كثيرا من ممتلكاتها واجتمع سبع دول عربية لمحاربة الصهيونية في فلسطين، وكانت هذه الدول العربية عليلة الروح، وقد أطفأت المادية الأوربية جمرة القلوب وشعلة الجهاد في سبيل الله، وحببت إليها الحياة والذات ،ثم إنها تتخلف تخلفا كبيرا في المعدات الحربية والتنظيمات العصرية فكانت الحرب بين العرب والمسلمين واليهود الصهيونيين صراعاً بين صورة الإسلام وحقيقة القوة والتنظيم والحماسة فكانت نتيجة هذه الحرب نتيجة كل صراع بين الصورة والقوة.
إن الصورة لها منزلة ومكانة عند الله تعالى لأنه قد عاشت فيها الحقيقة قرونا طويلة، ويحبها الله لأنها صورة أوليائه ومحبيه وكذلك نعرف لها الفضل لان الانتقال من صورة الإسلام إلى حقيقة الإيمان أسهل بكثير من الانتقال من حقيقة الكفر أو صورته إلى حقيقة الإيمان والإسلام فلنحافظ على هذه الصور ولنتمسك بها، ولكن لا ينبغي أن نقنع بها ونستهين بالحقيقة والروح .
يا أبناء الإسلام: إن وعد الله من النصرة والفتح في الدنيا والنجاة والغفران في الآخرة كل محصور في حقيقة الإسلام، وذلك قوله تعالى:[وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] {آل عمران:139}.
لا شك أن هذا الخطاب في هذه الآية للمسلمين، ومع ذلك اشترط الإيمان العزة في الأرض والعلو والشوكة وقال في موضع آخر: [إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ] {غافر:51}
وقال أيضاً:[وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ] {النور:55} .
ورغم أن جميع تلك الوعود كانت على أساس الإيمان والأعمال الصالحة اشترط أن يكون في المسلمين حقيقة الإيمان والتوحيد.
إن اكبر مهمة دينية في هذا العصر وأعظم خدمة وأجلها للأمة الإسلامية هي دعوة السواد الأعظم للأمة وأغلبيتها الساحقة إلى الانتقال من صورة الإسلام إلى حقيقة الإسلام فلمثل هذا فليعمل العاملون، ويبذلوا جهودهم ومساعيهم في بث روح الإسلام في جسم العالم الإسلامي،ولا يدّخروا في ذلك وسعاً فبذلك يتحول شأن هذه الأمة وفي نتيجة شأن العالم بأسره، فإن شأن العالم تبع لشأن هذه الأمة، وشأن الأمة تبع لحقيقة الإسلام ، فإذا زالت حقيقة الإسلام من الأمة المسلمة فمن يدعوا العالم إلى حقيقة الإسلام؟ ومن ينفخ فيه الروح؟ قال سيدنا عيسى عليه السلام لأصحابه : "أنتم ملح الأرض، فإذا زالت ملوحة الملح فماذا بملح الطعام "؟
وقد أصبحت حياتنا اليوم جسداً بلا روح، لأن السواد الأعظم للأمة مجرد عن الروح، فارغ عن الحقيقة، فكيف تعود الروح والحقيقة في الحياة الإنسانية مرة أخرى؟ !
إن في هذا العالم أمما لا تزال فارغة عن الحقيقة والروح منذ أقدم العصور إلى يومنا هذا، ولم يبقى فيها إلا عدة معتقدات مرسومة، وبعض الصور حقيرة مجردة عن الروح، وانتهت حياتنا الدينية والروحية الحقيقية، حتى إن إنشاء أمة بأسرها أيسر من إصلاح هذه الأمم، وتجديد حياتنا الدينية والخلقية، والذين نهضوا لإصلاحها، وبذلوا قصارى جهدهم في هذا السبيل، قد أخففوا ولم يفلحوا في مهمتهم، رغم الوسائل العظيمة الكثيرة التي حدثت في هذا العهد من الطبع والنشر، والتأليف والإذاعة، والتعليم والتربية، وطرق الدعايات والتأثير ، وذلك لأن عروة دينها قد انفصمت انفصاماً تاماً، وانقطعت علاقتها عن منبع الحياة الدينية، والخلقية والروحية .
أما الأمة الإسلامية  فلا تزال على علاتها وضعفها ـ مستمسكة استمساكا ما بعروة الدين، وهي الإيمان بالله والرسول واليقين بالدار الآخرة والحساب ولم تتركها البتة، ولم تنقطع عنها انقطاع الأمم الأخرى، بل إن إيمان كثير من عامة المسلمين ودهمائهم يزري بإيمان كثير من خواص الأمم الأخرى وعليتهم، ويفوقة متانة ورسوخاً وحماسة، ثم إن كتابها لا يزال في يدها لم يتناوله التحريف، ولم يبعث به الباعثون به كما فعلوا بالصحف الأولى ،ولا تزال سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأسوته الحسنة بمتناول يدها، فالدعوة إلى الدين ميسورة والتجديد ممكن، والقلوب متهيئة، وجمرة الإيمان سريعة الاتقاد والشقة بين الصورة والحقيقة قصيرة، والقنطرة بينهما الدعوة إلى تجديد الإيمان والرجوع إلى الدين، والتشبع بروحه والتحلي بحقيقته .
لست قانطا من ظهور حقيقة الإسلام في هذا العصر ولا نصدق ما يقال بأن الزمان قد تغير والمسلمين قد ابتعدوا جدا عن روح الإسلام فلا أمل في حقيقة الإسلام وغلبتها من جديد، وانظروا إلى ورائكم ترون جزر حقيقة الإسلام قائمة ومنتشرة في فجر التاريخ وإن الحقيقة لم تزل تطفو كلما رسبت، وتظهر كلما اختفت، وكلما ظهرت حقيقة الإسلام وتجلت في ناحية من نواحي العالم الإسلامي، أو عصر من عصور التاريخ الإسلامي، غلبت وانتصرت، وكذبت تجارب الناس وقياسهم وتقديرهم، وكادت الأحوال والأمور أن تعود إلى ما كانت عليه في الماضي السعيد، وهبت على قلوب الناس نفحات القرن الأول .
وان حقيقة الإسلام في هذا العصر إذا ظهرت وتمثلت في جماعة، تستطيع أن تذل كل عقبة، وتهزم كل قوة، وتأتي بعجائب وآيات من الإيمان والشجاعة والإيثار، ويعجز الناس تعليلها كما عجزوا من قبل عن تعليل حوادث فتح الإسلام، وأخبار القرن الأول .
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
المصدر : مجلة الأزهر السنة 50 رمضان 1398 الجزء الخامس.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين