إذا جاء نصر الله والفتح

الشهيد سيد قطب

في الأفق بشائر-في هذه الأيام- على الرغم من كل ما يكتنفه من سحب وظلام. في الأفق بشائر بالعودة إلى حمي الإسلام، تتجلّى في كل أنحاء الوطن الإسلامي. عودة الفلول الشاردة الممزقة، التي هدّها الكلال وهي تلهث وراء أعلام أجنبية عن روحها وتاريخا، أجنبية عن أهدافها ووجهتهما...
إنها تعود رويداَ رويداً في هذه الأيام إلى الحمى التي استبيحت حرماتها عندما فارقته، وإلى الراية التي أزيلت عزتها حينما تخلت عنها...إنها تعود إلى الإسلام تتنادي باسمه في‏ كل مكان، وتطلب عنده القوة والعزة والسلامة...وهذا هو موضع الرجاء في العالم الإسلامي‏ في هذه الأيام.
إن الدعاة اليوم إلى تكتيل العالم الإسلامي في جبهة، وإلى تحكيم الإسلام في هذه‏ الكتلة...ليسوا هم الدعاة الدينيين وحدهم، وليسوا هم «الإخوان المسلمين» وحدهم، وليسوا هم الأفراد الذين يوجّه الإسلام تفكيرهم وحدهم...إنهم ليسوا هؤلاء فحسب في هذه‏ الأيام، إنما هم كذلك جماعات وأحزاب وشخصيات ليست الدعوة الإسلامية طابعها البارز، أو وجهتها الأساسية...وهذا هو الدليل على أن الأمة الإسلامية قد وجدت نفسها بعد التيه‏ والضلال، وأنها تتجاوب بصدى واحد، منبعث من ضميرها بلا تمحل ولا افتعال.
لقد لعب الاستعمار لعبته الكبرى يوم مزق الوطن الإسلامي الأكبر، وحوّله إلى دويلات تحمل الطابع القومي الهزيل، وتتخلى عن قوميتها الإسلامية الكبرى، لقد هدم‏ حينذاك كل ما بناه الإسلام من وحدة ضخمة تذوب فيها العناصر والأجناس، وتنصهر فيها الألوان واللغات، وتهتف كلها هتافاً واحداً من قلوب متآخية في الله.
ولم يكن بُد للاستعمار من أن يلعب هذه اللعبة. فما كان في استطاعته أو مقدوره أن‏ يزدرد هذه الكتلة الكبرى وهي وحدة متماسكة. وأما حين نفخ لها في بوق «القومية» الخادع‏ فقد انفراط العقد، وأنحلت العقدة، وتناثرت الفلول، وباتت كلها لقمة سائغة لمن أراد.
ثم واجهت كل دويلة مشكلاتها الداخلية.واجهتها عزلاء من راية تقف في ظلها، ومن قبلة تثوب إليها. وانطلقت كل دويلة تجابه الاستعمار المتجمع المتكتل وحدها. تارة في‏ مجلس الأمن،وتارة في هيئة الأمم،وتارة في محكمة العدل.وفي كل مرة كانت تؤوب بالفشل‏ والخيبة،لأن الاستعمار هناك وحدة؛ ولأن «القومية» التي خُدع بها المستضعفين في الشرق‏ لا تجعله ينسى «الصليبية» التي يواجه بها الإسلام كافة!
وانطلقت كل دويلة تجابه الطغيان الداخلي فيها والمظالم الاجتماعية بحلول ومبادئ‏ تلهث وداءها في أرض غير أرضها؛ وفي بيئة غير بيئتها، تارة باسم الديمقراطية، وتارة باسم‏ الاشتراكية، وتارة باسم الشيوعية، وهي كلها محاولات يائسة، أنشأتها أوضاع غير أوضاع‏ الوطن الإسلامي، وهي امتدادات طبيعية للفكرة الماديَّة التي يدين بها الضمير الغربي
والحضارة الغربية،وتجد جذورها في الحضارة الإغريقية والرومانية، ولا مبرر لنشأتها أو امتدادها في الجو الإسلامي والتفكير الإسلامي.
وما ذا كانت العاقبة؟
كانت العاقبة في الخارج هي ما نراه من تفكّك العالم الإسلامي وتكتّل العالم‏ الصليبي. كانت هي ضعف الدويلات الإسلامية وقوة الاستعمار الأوروبي. كانت هي هذه‏ الحلقة المفرغة التي تدور فيها هذه الدويلات حول دول الاستعمار. كانت هي توزيع‏ الأسلاب بين إنجلترة وفرنسا وهولندا وأمريكا. كانت هذه المواقف الهزيلة التي تقفها حكومات الدويلات شبه المستقلة كمصر والعراق، تقدم رجلا وتؤخر أخرى!.
وكانت العاقبة في الآخر هي البلبلة في مواجهة الطغيان والمظالم الاجتماعية. منّا من‏ يريد مواجهتها باسم الإسلام، ومنا من يريد مواجهتها باسم الاشتراكية، ومنا من يدعو خفية للشيوعية، والقطاع العارم والرأسمالية الفاجرة يقفان في الجبهة الأخرى صفاً، يضربان هؤلاء بأولئك،ويوقعان بينهما الفتنة والبغضاء!
وبين الحين والحين يخرج بغاث هزيل، وببغاوات فارغة تحذرنا من دعوة الإسلام‏ ومن راية الإسلام. تحذرنا عداء العالم الغربي إذا نحن هتفنا باسم الإسلام، وتجمعنا كتلة تحت‏ رايته. كأن هذا العالم يساقينا اليوم كؤوس المودة!. وتحذرنا الفرقة والتنابز في داخل الوطن‏ الواحد.كأننا اليوم جبهة واحدة لا شراذم وشيع وفرق!
وتحذرنا ما هو أشد وأنكى. تحذرنا طغيان الحكم الإسلامي... تحذرنا هذا الطغيان‏ كأنما ننعم اليوم في بحبوبة الحرية! وتحذرنا ألاعيب رجال الدين المحترفين. كأننا الآن لا نذوق‏ منها الأمرين!
إنها تعلات فارغة لا تخدم أحداً إلاّ المستعمرين الذين يفزعون من فكرة التكتل‏ الإسلامي تحت راية الإسلام، لأنهم يدركون ما أدركته الملكة فكتوريا، وما أدركه جلادستون‏ من أن راية القرآن يحب أن تمزق قبل أن يتسنى للرجل الأبيض حكم هذه البقاع الإسلامية. ولأنهم يدركون أن ظل الاستعمار الأسود سيتقلص يوم ترتفع هذه الراية من جديد.
إن الاستعمار الغربي لا تخفى عليه ضخامة القوة التي يمكن أن تواجهه في ميدان الحرب‏ والسياسة والاقتصاد لو تكتل الوطن الإسلامي...لا تخفي عليه ضخامة الموارد البشرية والمادية
التي يمكن أن يحشدها، لا يخفى عليه أن الدفة سيتحول اتجاهها يوم يقف أربعمائة مليون من‏ البشر تحت راية واحدة وفي ظل عقيدة واحدة ونظام اجتماعي واحد.
إن الرأسمالية والشيوعية كلتيهما لترتعشان من هذا اليوم، (الرأسمالية) لأنها تعلم أن‏ الأسس الاقتصادية التي تسمح لها بالربا والاحتكار والاستغلال الرأسمالي...كلها ستتحطم‏ يوم يحكم الإسلام، فيقيم بناءه الاقتصادي على أسسه الاقتصادية الخاصَّة التي تطرد المرابين‏ والمحتكرين والمستغلين، ولا تمسح لهم في ظلها بهذا النشاط الآثم الظالم. ويومئذ يخرج من‏ قبضتها الاقتصادية الاستغلالية هذا العالم المترامي الأطراف من شواطئ الأطلنطي إلى شواطئ الباسفيكي. يخرج من قبضته المؤامرات الرأسمالية - كما خرجت دول الكتلة الشرقية تماما في ظل الشيوعية - وعندئذ تضيق عليها الأرض بما رحبت. فماذا يبقي للرأسمالية الغربية حين يخرج العالم الإسلامي كله من قبضتها وقد خرجت من قبل كتلة العالم‏ الشيوعي؟ إن الرأسمالية الغربية يومئذ تختنق وتسقط جثة هامدة. وذلك من يخشاه المستعمرون‏ من الراية الإسلامية والحكم الإسلامي. وما قد يخيفهم أكثر من الجيوش والكتائب التي‏ يجردها الوطن الإسلامي عليهم لتسحقهم سحقا.
(والشيوعية) لأنها تعلم أن فرصتها الوحيدة في العالم هي الاختلال الاجتماعي‏ والاقتصادي. فلا مجال للشيوعية في مجتمع عادل متوازن، لا تتضخم فيه الثروات، ولا تتضخم‏ فيه الفوارق، ولا يسوده الربا والاحتكار والاستغلال الرأسمالي، ولا يقوم فيه العداء بين‏ العمال وأصحاب العمل، لأنه لا سبيل فيه لتحكم أصحاب العمل ولا إلى غبن‏ العمال...ولما كان المجتمع الذي يمكن أن ينشئه الإسلام، حين يقوم على أصوله الصحيحة، مجتمعاً غير طبقي، لأن مصالح العمال لا تفترق فيه عن مصالح رأس المال، فالعمال أنفسهم‏ أصحاب حق في نصف الربح، كما أنهم أصحاب حق في تحويل نصيبهم أو بعضه إلى أسهم‏ في مرفق العمل. ومجتمعاً لا ترف فيه ولا شظف فكلاهما مكروه أو حرام. ومجتمعاً لا تضخم‏ فيه للثراء لأنه يحّرم الربا والاحتكار والظلم في الأجور. ومجتمعا متوازناً لأن الدولة فيه ملزمة بإعادة توزيع الثروة كلما أصابها الاختلال، بل مكلفة أن تتخذ من الوسائل الوقائية ما يمنع‏ كل ما قد يؤدي إلى هذا الاختلال. مجتمعاً كل المرافق العامة فيه مؤممة أو شائعة الملكية وليس‏ فيها احتكار... لما كان المجتمع الإسلامي كذلك فإنَّ فرصة الشيوعية في اقتحامه نادرة بل‏ مستحيله. ولهذا تحرص الشيوعية حرص الرأسمالية على مطاردة فكرة التكتل الإسلامي والحكم الإسلامي. وتطلق أبواقها تخوّف من هذه الفكرة أو تهون من قيمتها، أو تنكر إمكان تطبيقها العملي؛ وتبذل‏ من الجهد ما تبذله الجهة الرأسمالية سواء بسواء!
***
وفي وسط هذا كله تتجاوب صيحة واحدة مشتركة في جوانب العالم الإسلامي،تدعو إلى راية الإسلام، وتهتف بالوحدة الإسلامية، وتنادي بالحكم الإسلامي...
وليس الإخوان المسلمون هم الذين يستقلون بهذه الدعوة. وليس أصحاب التفكير الإسلامي من الكتّاب والدعاة هم الذين يتفردون بها كذلك، إنما هي دعوة تنبعث من ضمير هذه الأمة الإسلامية، من حيث تحتسب ومن حيث لا تحتسب.
إنها اليقظة...إنه الهدى...إنه النور. إنه ضمير هذه الأمة كلها يستيقظ ويهتدي‏ ويستنير. إنها لم تعد دعوة فرد، ولا دعوة هيئة. إنه صوت السماء يهبط مرة أخرى إلى الأرض. إنها البشائر التي تلوح في الأفق علي الرغم من كل ما يكتنفه من سحب وظلام...
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر جريدة الرسالة العدد 951 24ذو الحجة 1370 السنة التاسعة عشرة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين