أعداء الثقافة الإسلامية


الشيخ العلامة: محمد أبو زهرة
1 ـ قد ابتلي الإسلام في هذا العصر برجال مكن لهم في الماضي، ولا يزالون مستمسكين بهذا التمكين إلى الآن، وإن أولئك قد نصبوا للتهوين من شأن الثقافة الإسلامية، إذ قد بغضت لهم هذه الثقافة، كما يبغض الضوء الساطع لمن أرمدت عيناه، يأكل السل قلوبهم بغضاً للعلوم الإسلامية التي تلتمس من القرآن الكريم وسنة نبيه الشريف، لأنهما القطب الذي ينبعث منه نور الإسلام، وتدور حوله الحقائق الإسلامية، وإن هذه الدائرة تتسع كلما اتسعت العقول المدركة للإسلام، والتي تشرق بأضوائه المنبعثة من قطبه.
وقد اختص أولئك القرآن بمعاول هدمهم وتوجيه ريبهم، واتخذوه هدفاً يريشون سهامهم المسمومة له، ويوجهونها نحوه، عساهم ينالون من هديه، أو ما اختصه الله تعالى بحفظه خالداً باقياً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها تحقيقاً لقوله تعالى:[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] {الحجر:9}.
2 ـ ابتدءوا في هجومهم على القرآن الكريم منذ أكثر من ثلاث وثلاثين سنة بالتشكيك فيما اشتمل عليه من أخبار عن النبيين السابقين كإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، ونقلوا ذلك التشكيك من كتاب أوربيين لا يريدون بالإسلام إلا خبالاً، ويريدون أن تخفق الراية غير الإسلامية على البقاع الإسلامية، ويكون المسلمون لهم تبعاً، ولقد تهجموا على المنهاج العلمي وظلموه، إذ سموا ذلك الانحراف الفكري منهاجاً علمياً، وما هو من المناهج العلمية في شيء ولكن الإسلام انتصف منهم، فانبرى لهم العلماء يبينون الحقائق الصادقة، ويعلنونها في المنهاج العلمي السليم.
3 ـ وقد صمتوا بعد أن أذهلتهم الصدمة، إذ سكتوا من هول ما قام في وجههم من تحقيق علمي يزيف قولهم ويرده إلى أصله الإفرنجي الذي انتحلوه لأنفسهم انتحالاً، وإنهم في هذه الأيام قد ابتدءوا يخصون بالهجوم تواتر القرآن الكريم، وتواتر قراءاته السبع التي أجمع العلماء على تواترها، والتي يقرأ الناس بها من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، وإذا كانت بعض الأقاليم قد كثرت فيها قراءة واحدة يستحفظ القرآن بها الأكثرون فإن كثيرين جداً يقرءون هذه القراءات، وقد دونت أصول كل قراءة وقواعدها، ووضحت نسبتها، ولكنهم يجيئون إلى ست منها فيدعون نسخها، ليستمكنوا من بعد في منع التواتر في السابعة فيتم لهم ما يبغون، ولا يبغون إلا الشك في تواتر القرآن، ولا يبغون إلا مستحيلاً، فإن كتاب الله حجة قائمة إلى يوم القيامة تنزيل من عزيز حميد لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وعندما هموا بنشر ما يبغون وجدوا حواجز حصينة تمنعهم فأخذوا ينثرون القول في مجالسهم التي لا يغشاها إلا من هم على شاكلتهم، ولنتركهم ونأخذ بقول الله  تعالى:[ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ] {الأنعام:112}.ولا نتكلم فيما أثاروا حول القرآن، فإن الله حافظه كما وعد.
4 ـ لما يئس أعداء الثقافة الإسلامية من أن ينالوا من القرآن الكريم ذاته عندما هموا بذلك من قبل، اتجهوا إلى أمور حوله وحول الإسلام وعلومه، وكل أثر فكري عاش في ظل الإسلام، لقد أخذوا يدعون إلى هجر الحروف العربية، لأنها أصعب قراءة وتعلماً في زعمهم، وأخذوا يرددون قول قاسم أمين، وكأنه تنزيل يتبع: (غيرنا يقرأ ليفهم، ونحن نفهم لنقرأ) وذلك عجز من لم يقوِّم لسانه تقويماً عربياً، وقالوا وعليهم إثم ما قالوا: إن الكتابة بالحروف اللاتينية فيها تصوير الحركات الصوتية بحروف، ونسوا أن ذلك ممكن في العربية بالشكل، والشكل أسهل من الحروف كتابة، وأقل منها حيزاً، وإن الناس منذ أقدم العصور يعلمون أولادهم الحروف العربية من غير أن يشكلوا صعوبة، ولكنهم يخلقون فكرة الصعوبة ويثيرونها في كل مكان ليحلوا الحروف اللاتينية محل العربية.
ومقصدهم واحد وهو قطع الشاب العربي المسلم عن ثقافته الإسلامية قطعاً تاماً، لأن الذخيرة الإسلامية التي هي الصلة بين الماضي والحاضر مكتوبة بالحروف العربية، فإذا نشأ الفتى يجهلها فإنه تنقطع الصلة بينه وبين ذلك الميراث الفكري التليد.
وأمر آخر أقرب إلى مقاصدهم، هو قطع صلة الناشئة بالقرآن الكريم، لأنه إما أن يكتب باللاتينية، وهي لا تصور نغماته ولا مده، وإما أن يهجر هجراً، وذلك ما يبغون، ولقد ضل سعيهم، وذهب هباءً منثوراً.
5 ـ ولكنهم لا يسكتون، وكيف يسكتون وقد سخروا لهدم الثقافة الإسلامية فقالوا: إن الحروف العربية جميلة، وهي أجمل حروف يكتب بها، ولكن نريد أن نغيِّر رسم الكلمات بها، وهي ما يسمَّى بالإملاء في عرف المعلمين، فيكتب ما ينطق به، فبدل أن نكتب (طه) هكذا نكتب طاها، وبدل كلمة (عليٌ) هكذا نكتب عليين، وإن هذا يؤدي إلى ما يؤدي إليه استبدال الحروف العربية بالحروف اللاتينية من قطع الصلة بالثقافة الإسلامية التي كتبت بهذا الرسول الذي يستنكره هؤلاء الكتاب.
ولقد أثاروا ضجة أخرى، وهي اختصار الكتابة العربية واختصار الحروف والكلمات، ولا ندري ماذا يقصدون، لأن ذلك التفكير لم يتَّضح أو لم يعلن كاملاً، وإنا منتظرون، وإن كنا نعلم نياَّتهم سلفاً، ولكن عساهم في هذه المرة لا يقصدون السوء.
6 ـ وإن العربية قد اقترن الإسلام بها، فهي لغته، وهي بيئته الفكريَّة، وهي القالب الذي صُبَّت فيه حقائق الإسلام، بهذا القرآن العربي، وبهذا النبي العربي، وبتلك الثقافة الإسلامية التي صيغت في العربية، فكانت المورد العذب لحقائق الإسلام.
وإنا نجد من الشبان يتلقين من طواغيت الإلحاد من يريدون أن يحيوا الأدب العامي، ويجعلوا لكل إقليم من الأقاليم العربية أدبه الخاص، بل إنهم ليندفعون فيقولون: يجب أن توضع قواعد للغة العامية في كل إقليم، وإن ذلك الكلام يمزق العرب تمزيقاً، والذين ينطقون بهذا يجعلون هدفهم الأمة العربية التي يريد المستعمرون تمزيقها، وإني أحسب أن هؤلاء مدفوعون من أعداء البلاد العربية دفعاً، فإني أفهم أن يتكلم خطيب بالعامية ليفهمه السامعون في إقليم معين، ولكن لا أفهم مطلقاً أن تعمَّم العامية، وأن يجعل لها أدب وموضع دراسة . لا أفهمه إلا أن يكون هدماً للبناء العربي.
وإنهم لا يقصدون العربية فقط ، بل يقصدون الإسلام أيضاً، لأنه إذا نشأ الشاب على العامية لا يعرف سواها، ينقطع انقطاعاً معنوياً عن القرآن الكريم والسنَّة والمأثور العربي الإسلامي، وذلك أهم ما يرغبون فيه، إنهم لا يريدون علماً، بل يريدون توهين الإسلام ومآثره، وإبعاد البيئة المسلمة عن تلك الآثار، لتَعُبَّ من الغرب عباً، وتأخذ الغث والسمين منه، ويفنى الشرق في الغرب، والإسلام في الديانات الأخرى، ويذهب اليقين والإيمان، ويكون المسلمون قوماً بوراً، ولكن كُشف أمرهم في دعاياتهم فارتدوا خاسئين.
7 ـ هذه كلها أمور أثاروها واتَّجهوا في بعضها إلى اللب، وفي بعضها إلى الصورة ليصلوا منها إلى تشويه الحقيقة، ولكنهم يريدون أن يخلعوا الشباب عن الثقافة الإسلامية خلعاً ،بل يريدون أن يمحوا من نفوس الشباب الأثارة الدينية الباقية في القلوب، وإنهم إن وصلوا إلى تحقيق ما يريدون، وُجد شباب منحرف لا يؤمن بشيء، ولا تضبطه ضوابط من الأخلاق، ولا من الأوامر والنواهي، بل ينطلق انطلاقاً.
لقد اتجهوا إلى أشد ما يلقي بالشك لا في الإسلام وحده، ولا في الأديان كلها فقط، بل يلقى بالشك في القيم الخلقية الإنسانية المتوارثة التي هي ذخيرة الإنسانية، والفارق ما بين الإنسان والحيوان.
8 ـ أرادوا أن يثيروا كل الغرائز الحيوانية في نفس الشباب، واتَّخذوا لذلك طرائق كلها هوجاء ليس فيها طريق مستقيم.
وأول هذه الطرق التي أثاروها  ما يسمونه بالأدب المكشوف تارة، والأدب الجنسي تارة أخرى، وهما يتَّجهان إلى صوب واحد، وهو إثارة الغريزة البهيمية في نفس الشباب حتى لا يستطيع أن يستعصم ويستمسك بالفضيلة، ويعيش في جو حيواني لا يسمو فيه إلى مراتب الإنسانية السامية، ولقد شقُّوا طريقهم الآثم إلى هذه الغاية، فوجدنا صحفاً معيَّنة مملوءة بالصور العارية، والمناظر المثيرة، بل تجاوز الأمر فوجدنا الطرقات مملوءة بالإعلانات المشتملة على صور فيها مناظر مثيرة لتجتذب الشباب بهذه المناظر إلى دور الملاهي وقد تجسمت فيها هذه الصور العارية، فيكون الشباب في بلبال مستمر، واضطراب نفسي فينحدر إلى الهاوية، إلا من عصم الله، وسلمت نفسه من هذه الآفات.
9 ـ إنه يجب أن يعلم هؤلاء أنه ما يسمونه الأدب المكشوف أو الأدب الجنسي ضد الفطرة الإنسانية، فإن ستر ما بين الرجل والمرأة هو نداء الفطرة، وإن الكتب المقدسة كلها لتصرِّح بأن آدم وحواء عندما خرجا من الجنة، وبدت لهما سوءاتهما طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة لأنهما شعرا وقد جاءا إلى هذه الحياة أن فيها ما يجب ستره، وبالتالي ما يجب ألا يكشف ولا يعلن.
ولكن ليعلم هؤلاء أنهم ببلاد نزيهة عفيفة يسودها الحياء، ويحفظها التَّصوُّن، ومهما يحاولوا من كتابات وصور فلن يصلوا إلى غايتهم أو إلى غاية من يدفعونهم، وليس سراً أن نقول : إن أمريكا وأوروبا وقد رأوا اعتصام البلاد الإسلامية بالفضيلة والأخذ بأهداب الدين، والاستمساك بعروته الوثقة، لم يجدوا سبيلاً للنَّيل منها إلا بتسليط الشهوات والكتابات التي تثيرها في نفوس الناشئة، لينشئوها على اللهو والعبث، ولا شيء يفك عروة الأمم إلا المجون وانهيار الحواجز الخلقية التي هي حصن الأمم والجماعات، وإن تسلط الأهواء والشهوات يضعف الإرادة الإنسانية.
ولقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم السبب الجوهري للوهن هو الهوى والشهوة، فقد سئل عليه الصلاة والسلام عن الوهن ، فقال: (حب الدنيا وكراهية الموت)، ولقد رأينا فرنسا تخر صاغرة تحت سنابك الخيل الألمانية، في أول الحرب العالمية، وفي الجولة الأولى، وعلل ذلك قائدهم بأن الهوى وفساد الأخلاق هما سبب نكبتها.
10 ـ ولقد أرادوا أن يصوغوا ذلك المجون فلسفة، ويعتبروه ثمرة فكرة، فقالوا: إنه مذهب فلسفي قويم، هو مذهب الوجودية ، وما علمنا أن انطلاق الإنسان من كل القيود الأدبية والاجتماعية والاستهانة بكل القيم الإنسانية الموروثة، والتي بها سموها وعلوها تُعدُّ مذهباً يدرس، وفلسفة تدوَّن ويدعى إليها.
وادَّعوا أن بعض علماء الدين في أوروبا اعتنقه وفحصه وقبله ودرسه، ونحن نقبل تلك الأخبار، ولكن نقول لهم :إن ذلك المذهب قد ابتدأ في بيئة دينية أساسه تحرير الإرادة الإنسانية من التقاليد والعادات التي تجبرها وتجعلها غير مسئولة عن عملها، وما أرادوا إطلاقها من قيود الفضيلة، بل أرادوا تحريرها مما يعوقها عن الفضيلة، وما أرادوا تحريرها مما يعوقها عن الفضيلة، وما أرادوا إطلاقها من حكم العقل، بل أرادوا إطلاقها من كل ما يشوبها لتخضع لحكم العقل  لا لحكم الهوى، فالمذهب في نظر رجال الدين كان لإطلاق العقل والنفس من القيود التي تحول بين المرء والخلق والدين.
ولكن ما إن تولاه الفرنسيون بعد هذه الحرب، حتى انحرفوا به إلى غير جادَّته المستقيمة، فأرادوا أن يقيدوا النفس بالهوى بدل العقل، وبالرذائل بدل الفضائل، ولذلك أخذوا يعلنون أن الفضائل والأديان وغيرها قيود تواضع الناس عليها ليمنعوا الإرادة الإنسانية من انطلاقها، وأنه يجب التحلل منها، وعدم الاستمرار تحت لوائها.
11 ـ وإنهم يدعون إلى الإباحية تلك الدعوة التي لا تجد قائماً إلا قوضته، وينشرون بين الشباب ما يثير غرائزه، ثم يقولون مع ذلك: إن الشباب في كبْت، وهذا عجب!! يثيرون كل ما إلى الاندفاع نحو اللذة البهيمية، وليس كل شاب واجداً، فيكون اضطراب النفس، وانحباس الأهواء المندفعة التي أثاروها، ثم يشكون مع ذلك من ثمرات جريمتهم.
ألا إن كل هذا يقصد به الذهاب بخلق الحياء، وهو خلق الإسلام، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لكل دين خلقاً، وخلق الإسلام الحياء) ولكن هل يصلون إلى ما يقصدون؟ إن أملنا في شبابنا المسلم لعظيم، ولن ينالوا من خلقه ودينه، وسيذهب كل هذا الزبد الراغي:[ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ] {الرعد:17}.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر: لواء الإسلام العدد 1 السنة 13، رمضان 1378.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين