درس في التفسير - تبيين للناس
        
درس في التفسير :
  تبيين للناس
 
  للأستاذ الشيخ : محمد بهجة البيطار
 
اخترنا في هذا التجديد للموقع بعض المقالات النادرة لعلماء بلاد الشام ، ونقدم للقراء الكرام ، نموذجاً من دروس الشيخ محمد بهجة البيطار في تفسير ثلاث آيات من كتاب الله عزَّ وجل .
   قال الله تعالى)) : وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه ، فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا ، فبئس ما يشترون * لاتحسبن الذيـــــ، يفرحون بما أوتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا ، فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب، ولهم عذاب أليم * ولله ملك السماوات والأرض ، والله على كل شيء قدير * ))آل عمران 187ـ189.
 -    في قوله سبحانه : (( و إذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبينـــــنه للناس ولاتكتمونه )) في هذا أمران : العلم بالكتاب على غير وجهه – وهو نتيجة عدم البيــان-
وعدم العلم بالمرة- وهو نتيجة الكتمان-.
       ثم إن البيان أو التبيين على نوعين : أحدهما: تنبيه لغير المؤمنيــــن به لأجــــــل  دعوتهم إليه ، وثانيهما : تنبيه للمؤمنين به لأجل إرشادهم وهدايتهم ، بما أنزل إليهم من ربهم ، وكل من النوعين واجــــــب حتـــم لا هوادة فيــــــه .
  وقوله : (( فنبذوه وراء ظهورهـــــم )) النبذ : الطـــــرح ، وقد جرت كلمة نبذه وراء ظهره مجرى المثل في ترك الشيء وعدم المبالاة به ، والاهتمام بشأنه ، كمـــــا يقال في مقابل ذلك جعله نصب عينيه ، أو ألقاه بين عينيه ، أي اهتم به أشد الاهتمام ، بحيث كأنه يراه في كل وقت ، فلا ينساه ولا يغفل عنه ، وفيه تنبيه إلى كون هـــذا هــــو الواجب الذي كان عليهم أن يقوموا به ، فيجعلوا الكتاب إماماً لهم ونصب أعينهم لاشيئــاً مهملا ملقىً وراء الظهر لا ينظر إليه ولايفكر في شأنه .
-(( واشتروا به ثمناً قليلاً )) : أي أخــــذوا به فائدة ومثـــوبة قليلة لا توازي عشـــــر  معشار فوائد بيان الكتاب والعمل به ، فكانوا مغبونين في هذا البيع والشــــراء .
        وهذه الآية بمعنى آية البقـرة : (( إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلاً أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار )) الآية .
     والمعنى : إن الذين يكتمون ما أنزل الله في الكتاب المنزل عليهم من وصف النبـــــي صلى الله عليه وسلم وبيان زمانه ، مما يشهد بصدق نبوته وكمال رسالته ، فعلوا هــــــذا حرصاً على رئاسة كاذبة ، وعرض زائل ، تراهم باعوا الخير والهدى بثمــن بخس قليل لاينفــع ، أولئك البعيدون في الضـلالة لا يأكلون في بطونهم إلا ما هو موجـــب لدخولهم النار .
      وفي معناها قوله تعالى : (( فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاًَََََََ فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون )) .
كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه شديدي الحرص على دخول اليهود في ساحة الدين الجديد ، طامعين في انضوائهم تحت لوائه ، لأن دينهم أقرب الأديان إلـى دينهم في تعاليمـــه ومبادئه وأغراضه ، فهــــم يشـــاركونهم في الاعتقاد بالتوحيــــــد والتصديق بالبعث والنشور ، وكتابهم مصدق لما معهم ، فقص الله في هذه الآيات على المؤمنين من أنبائهم ما أزال به أطماعهم ، وأيأسهم من إيمانهم بذكر ما كان يحدث من أسلافهم مع نبيهم موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام بين آن وآخر من تمرد وعناد وجحود وإنكار ، فتأتيهم الآية تلو الآية ، ويحل بهم من العقاب ما هم له بأهل ، فيطلبون  من موسى عليه الصلاة والسلام أن يدعو الله تعالى ليدفع عنهم العذاب ، ويستجيبـــــوا لدعوته التي إذا ما رفعه عنهم عادوا سيرتهم الأولى معاندين جاحدين .
فلا عجب إذاً في إعراض الحاضـــرين عن هـــدي الله عز وجـــل الذي جئت به ، فالإعراض والاستكبار دأبهم ، ورثوهما مـــن أسلافهم الذين كانوا يحــرفون ويبدلون  ويكابرون ، وهم يشاهدون الدلائل الحسية تترى بين يدي موسى على نبينا وعليــــــه أفضل الصلاة وأتم التسليم ، فأحــرى بهم أن يجحدوا ديناً دلائله عقلية وآيته الكبـــرى  معنوية وهي : القرآن الكريم بما اشتمل عليه من تشريع فيه سهولة وتيسير للناس وفيه فصاحة أعجزت فصحاء العرب عـــن محاكاته ، فلجئوا إلى السيف والطعان بعـــد أن  أعجزتهم الحجة والبرهان ، ومنها في خطاب بني إسرائيل : (( ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً وإياي فاتقون )) .
الآيات : هي الأدلة التي أيد الله عز وجل بها نبيه صلى الله عليه وسلم وأعظمها:
القرآن الكريم ، أي لاتعرضوا عن التصديق بالنبي وما جاء به ، وتستبدلوا بهدايته هـذا الثمن القليل الــذي يستفيده الرؤساء مـن مرؤوسيهم من مال وجاه ويرجوه المرءوسون    من الخطوة باتباع الرؤساء ، ويخشونه من سطوتهم إذا هم خالفوهم .
 (( وإياي فاتقون )) : بالإيمان واتباع الحـــق والإعراض عن لذات الدنيا متــى
شغلت عن أعمـــــال الآخـــــرة .
          وقوله تعالى في ختام الآية التي نفسرها: (( لبئس ما يشترون )) : أي هو ذميم قبيح ، لأنهم يجعلون هذا العرض الفاني بدلاً من النعيم الباقي في الآخرة .
ثم قال تعالى : (( لاتحسبن الذين يفرحـــون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا ، فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ، ولهم عذاب أليم )) . روى الشيخان وغيرهما عن طريق حُميد بن عبد الرحمن بن عوف أن مروان قال لبوابه : اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل : لئن كان كل امرئ منا فــــرح بما أتي ، وأحــب أن يُحمد بما لم يفعل معذباً    لنعذبن أجمعون ، فقال ابن عباس : مالكم وهذه ؟ إنما نزلت هــذه الآية في أهل الكتاب ،  سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره ، فخرجوا قد أروه بأنهم قد أخبروه بما سألهم عنه ، واستحمـــــدوا بذلك إليه وفرحوا بما أوتوا من كتمان ما  سألهم عنه .
 وأخرج الشيخان أيضاً من حديث أبي سعيد الخُدري ، أن رجالاً من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه ، وفرحوا بمقعدهم  خلاف رســـول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قـدم اعتذروا إليه وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا ، فنزلت هذه الآية ، ولا مانع أن تكون نزلت في الفريقين معاً ، قال الحافــظ ابــن حجــــر : وحكى الفراء : أنها نزلت في قول اليهود : نحن اليهود نحن أهل الكتاب الأول والصلاة والطاعة ، ومع ذلك لا يقرِون بحمد اللــــــــه تعالى .
      بين الله تعالى هذه الحال بأسلوب عجيب ، بيـَن فيه حكماً آخر ، وهو : أن هـــؤلاء  الفرحين المحبين للمحمدة الباطلة قد اشتبه أمرهم على الناس ، فهم يحسبون أنهم أولياء الله وأنصار دينه وعلماء كتابه ، وأنهم أبعد الناس عن عذابه ، وأقربهم من رضــوانه ، فبين الله كذب هذا الحُسبان ، ونهى عنه وسجًل عليم العذاب .
       لولا أن حب المحمدة بالحق على العمل النافع من غرائز الفطرة التي يُستعان بها على التربية العالية لما قيًد الله الوعيد على حب الحمد بقوله : (( بما لم يفعلوا )) . فهـذا القيد يدل على أن حب الثناء على العمل النافع غير مذموم ، ولا متوًعد عليه ، وهذا هو الذي يليق بدين الفطرة ، بل جاء في الكتاب الحكيم ما يدل على مدح هذه الغريزة كقوله تعالى لنبيه : (( ورفعنا لك ذكرك )) وقوله في القرآن : (( وإِنه لذكر لك ولقومك )) .
نعم ، إنً هناك مرتبة أعلى من مرتبة من يعمل الحسنات ليحمد عليها ، وهي مرتبة من يعمل حُباً بالخير ذاته ، وتقرُباً به إلى الله تعالى . على أن المدح بالحــق لا يخلو في  بعض الأحوال من ضررٍ في الممدوح ، كالغرور والعُجب و فتور الهمـة عن الثبــات و المواظبة على العمل الذي حُمــد عليه ، وقلً من يسلم من الاغترار بالمدح، ولاسيما إذا كان إطراءً ، وقلما يكون الإطراء حقاً ، وقلما يلتزم المطرون الحـق ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم : ( إذا رأيتم المادحين فاحثوا في وجوههم التراب ) – رواه أحمد وأبو داود والترمذي من حديث المقداد بن الأسود رضي الله عنه .
        ثم إن المدح والذم من شأن المغرورين ، وليس المراد به هنا ارتياح نفس العامل وانبساطها لما يأتيه من العمل الذي يرى أنه محمود كما فــَهِم مــروان ، وإنما هو فرح  البطر والغرور الذي يتبعه الخيلاء والفخر ، وهو ما نبًــه عليه القــرآن الكريم في شأن  المصائب تصيب المؤمنين بقوله عز وجل : (( لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحـــوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور )) ومنه قوله تعالى : (( إذ قال له قومه لاتفرح إن الله لا يحب الفرحين )) ، ثم قال تعالى : ((ولله ملك السماوات والأرض وإليه ترجع الأمور )) . في هذا التذليل حجة على كون ا لخير في اتباع ما أرشد إليه تعالى ، وتسليةٌ للنبـــي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، ووعدٌ لهم بالنصر ، وفيـــه تعريضٌ بذم أولئك المخالفين الذين سبق وصفــهم في الآيات التي قبل هذه الآية ، وهـــو أنه لا يؤمنون بالله تعالى إيماناً صحيحاً ، يظهر أثــره في أخلاقهم وأعمالهم ، وإلا لما تركوا العمل بكتابه ، وآثروا عليه ما يستفيـــدون من حطام الدنيا ، فإن هذا لا يكون إلا من عدم الثقة بوعـــده تعالى والخوف من وعيده ، واليقيـــن بقدرته وتدبيره ، جلت حكمته ووسعــت كل شيء رحمته .
نقلاً عن مجلة التمدن الإسلامي الأجزاء 17-20 من المجلد 33
جمادى الأولى 1386 أيلول 1966

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين