حدث في السابع والعشرين من جمادى الآخرة

الأستاذ محمد زاهد أبو غدة

في السابع والعشرين من جمادى الآخرة من سنة 558 توفي، عن 71 عاماً، عبد المؤمن الكومي، أبو محمد عبد المؤمن بن علي بن مخلوف بن يعلى بن مروان، أمير المؤمنين ومؤسس دولة الموحدين في المغرب وتونس وليبيا.
ولد عبد المؤمن الكُوْمي، نسبة إلى كومية إحدى قبائل البربر، سنة 487 في مدينة تاجرت في شرقي الجزائر قرب تلمسان، وكان أبوه صانعاً لآنية الفخار، وكان هو أبيض تعلوه حمرة، أسود الشعر، معتدل القامة وضيئاً، لا يراه أحداً إلا أحبه، وأقبل هو على طلب العلم، وكان جهوري الصوت، فصيحاً جزل المنطق.
وتولى عبد المؤمن أمارة المؤمنين بعد وفاة محمد بن تومرت سنة 524، وينبغي هنا أن نذكر نبذة عن حياة ابن تومرت لارتباطها الوثيق بسيرة عبد المؤمن، فقد ظهر ابن تومرت أول أمره في بلدته سوس سنة 515، في صورة الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، وكان قد رحل إلى المشرق سنة 501 في طلب العلم وانتهى إلى بغداد ولقي أبا بكر الشاشي فأخذ عليه شيئاً من أصول الفقه وأصول الدين وسمع الحديث على المبارك بن عبد الجبار ونظرائه من المحدثين، وقيل، والله أعلم، إنه لقي أبا حامد الغزالي بالقدس أيام تزهده وانقطاعه.
وعاد ابن تومرت من المشرق إلى الإسكندرية، ثم غادرها إلى بجاية في الجزائر يدرس العلم ويعظ الناس، مع زهد وتقشف زائدين، فاجتمع عليه أهلها ومالت إليه القلوب، فأمره صاحب بجاية بالخروج عنها خوفاً منه، فتوجه إلى المغرب فنزل بضيعة يقال لها ملالة على فرسخ من بجاية، فالتقى مع عبد المؤمن بن علي، ودعاه إلى أن يعينه وينصره على إماتة المنكر وإحياء العلم وإخماد البدع فأجابه عبد المؤمن إلى ما أراده.
وجهر ابن تومرت بدعوته في مراكش فاستدعاه ملك المرابطين، ويقال لهم الملثمين كذلك، علي بن يوسف بن سفيان ابن تاشفين، وكان صالحاً حليماً فتذمم من سفك دمه أو إيذائه، وخرج ابن تومرت فلحق بقبائل المصامدة في تِيْنَمَلّ جنوبي مُراكش، وتلقب بالمهدي، وحرضهم على السلطان فهاجموا مراكش مع أنصاره فانكسروا، وتوفي ابن تومرت، عن 39 سنة، وقد بلغته أخبار الهزيمة ولكنه شدَّ من عضدهم ووعدهم بالنصر.
وتنسب بعض الروايات في هذا السياق إلى ابن تومرت رؤى وإرهاصات وتخرصات هي أقرب إلى التنجيم والرجم بالغيب، أعرضنا عنها إذ لا طائل من وراء ذكرها، والله أعلم بصحة نسبتها، وهي روايات يورد كثير من المؤرخين أمثالها في كل مرحلة تأفل فيها شمس دولة وتظهر أخرى، ويكاد المؤرخون يجمعون على أنه في سبيل تأييد دعواه بأنه المهدي انتحل كثيراً من المعجزات التي دبرها لتنطلي على البسطاء من أتباعه.
ولما توفي المهدي ابن تومرت اتفق أصحابه على خلافة عبد المؤمن، إذ كان أبرز أتباعه وأقربهم منه، فبويع في سنة 524 البيعة العامة بجامع تينمل فمكث 4 سنوات يؤلف قلوب الناس ويوطد قواه، ثم نهض في سنة 528 للغزو والفتوح، وكان علي بن يوسف بن تاشفين صاحب المغرب والأندلس، قد توفي سنة 537 وقام بعده ابنه تاشفين الذي كان واليا لأبيه على الأندلس، فتغلب عبد المؤمن على تاشفين وشرده إلى وهران في غرب الجزائر، ثم قتله فيها في رمضان سنة 539، ثم أخذ تلمسان ثم فاس سنة 540 ثم سلا ثم سبتة، وقاومه أهل سبتة بقيادة القاضي عياض رحمه الله تعالى، وما لبثت المدينة أن استسلمت، وجعل عبد المؤمن القاضي عياض في جملة حاشيته، وتوفي رحمه الله في مراكش سنة 544.
ثم سار عبد المؤمن ونازل مراكش، وفيها إسحاق بن علي بن يوسف بن تاشفين وهو صبي، فحاصرها عبد المؤمن 11 شهراً وفتحها بالسيف سنة 542، وسالت بها الدماء كمجاري الماء وأباح أصحابه أموال الملثمين، وأمسك الأمير إسحاق وجماعة من أمراء المرابطين وجعل إسحاق يرتعد ويسأل العفو عنه، ويدعو لعبد المؤمن ويبكي، فقال له سير وهو من أكبر أمراء المرابطين وكان مكتوفاً: تبكي على أبيك وأمك، اصبر صبر الرجال! وبصق في وجه إسحاق، ثم قال عبد المؤمن: إن هذا الرجل لا يدين الله بدين، فنهض الموحدون وقتلوا سير المذكور بالخشب، وقدم إسحاق على صغر سنه فضربت عنقه، وهو آخر ملوك المرابطين، وبه انقرضت دولتهم بعد 80 سنة.
ولما فتح عبد المؤمن مراكش استوطنها وبنى بقصر ملوك مراكش جامعاً وزخرفه، وهدم الجامع الذي بناه يوسف بن تاشفين، وأحضر اليهود والنصارى وقال: إن الإمام المهدي أمرني ألا أقر الناس إلا على ملة واحدة وهي الإسلام، وأنتم تزعمون أن بعد الخمسمئة عام يظهر من يعضد شريعتكم، وقد انقضت المدة؛ وأنا مخيركم بين ثلاث؛ إما أن تسلموا، وإما أن تلحقوا بدار الحرب، وإما أن أضرب رقابكم. فأسلم منهم طائفة، ولحق بدار الحرب أخرى، وأخرب عبد المؤمن الكنائس والبِيَع وردها مساجد، وأبطل الجزية، وفعل ذلك في جميع ولاياته.
وكان الفرنج في الأندلس قد طمعوا في السيطرة على البلدان الإسلامية بسبب ما وقع من الاختلاف بين المسلمين، فقاموا في سنة 540 بالاستيلاء على المناطق الغربية مثل مدينة شنترين وباجة وماردة وليشبونة، واستولى الفونسو السابع ملك قشتالة وليون سنة 542 على مدن المرية وبياسة وجيان.
واستنجد مسلمو الأندلس بإخوانهم في المغرب، وجاء إلى عبد المؤمن في سنة 542 وهو يحاصر مراكش، وفدٌ من أعيان إشبيلية برئاسة عظيمها وكبير علمائها الإمام القاضي أبي بكر بن العربي، وتوفي في فاس وهو في هذه المهمة سنة 543، وطلب الوفد من عبد المؤمن الاستيلاء على بلادهم من بقايا المرابطين، وأحضروا معهم عهداً يتضمن بيعة أهل الأندلس لعبد المؤمن ودخولهم في زمرة الموحدين، والتزامهم لطاعته، وإقامتهم لأمره في بلادهم، فقبل عبد المؤمن طاعتهم، وشكر هجرتهم، وطيب قلوبهم، وجهز جيشاً كثيفاً في البر وأسطولاً في البحر، ودخل الأسطول إلى مدينة إشبيلية في النهر، وحاصروها براً وبحراً، وبها جيش من دولة المرابطين، فاستولى عليها وعلى بقية المناطق الإسلامية في الأندلس، في سنة 545 نازل الفرنج قرطبة في أربعين ألف جندي ناوشوها ثلاثة أشهر حتى كادت أن تسقط في أيديهم، فجهّز عبد المؤمن بن علي جيشاً من الموحّدين في اثني عشر ألف فارس إلى قرطبة، فانسحب الفرنج، وبسط الموحدون سيادتهم على ما بقي بأيدي المسلمين من الأندلس.
وهاجم عبد المؤمن في سنة 543 قبيلة من كبريات قبائل البربر هي قبيلة دُكالة، وكان جيشها يعد نحو مئتي ألف راجل وعشرين ألف فارس مقاتل، وهم من الشجعان الأبطال، فقتل منهم خلقا كثيرا، ويبدو أنه اعتبرهم غير مسلمين حتى غنم أموالهم وسبى ذراريهم، حتى إنه بيعت الجارية الحسناء بدراهم معدودة.
وفي سنة 543 هاجم روجر الثاني ملك جزيرة صقلية تونس في أسطول كبير واحتلها، وصاحبها يومئذ الحسن بن علي بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس الصنهاجي، فانفصل عنها ومضى يستنصر من حوله من الملوك في الشمال الإفريقي، فلم يجد نصرة، فاستمر سيره حتى انتهى إلى عبد المؤمن بن علي، فحرضه على الطلوع إلى إفريقية، وحضه على استنقاذها من يد العدو، ولكنه لم يستطع التحرك في الحال لمواجهته كثيراً من الثورات والقلاقل.
وفي سنة 551 هاجم الفرنج من مواقعهم في مدينة المهدية في تونس المسلمين في زويلة المدينة المجاورة، وقتلوا أهلها ونهبوا أموالهم، فهرب منهم جماعة وقصدوا عبد المؤمن وهو بمراكش يستجيرونه، فلما وصلوا إليه ودخلوا عليه أكرمهم، وأخبروه بما جرى على المسلمين، وأنه ليس من ملوك الإسلام من يقصد سواه، فدمعت عيناه وأطرق، ثم رفع رأسه وقال: أبشروا، لأنصرنكم ولو بعد حين.
ثم أمر بعمل القرب والأحواض وما يحتاج إليه العسكر في السفر، وكتب إلى جميع نوابه في المغرب، وكان قد ملك إلى قريب تونس، يأمرهم بحفظ ما يتحصل من الغلات، وأن يترك في سنبله، ويخزن في مواضعه، وأن يحفروا الآبار في الطرق، ففعلوا جميع ما أمرهم به، وجمعوا الغلات ثلاث سنين ونقلوها إلى المنازل، وطينوا عليها، فصارت كأنها تلال.
فلما كان في صفر من سنة 554 سار يطلب تونس في جيش تعداده مئة ألف مقاتل، وبلغ من ضبطه لعساكره أنهم كانوا يمشون بين الزروع فلا تتأذى منهم سنبلة، وإذا نزلوا صلوا جميعهم مع إمام واحد بتكبيرة واحدة لا يتخلف منهم أحد، ونزل على المهدية بجموعه، وحاصر الفرنج في البر والبحر مدة 6 أشهر، حاولوا خلالها مرات أن يكسروا الحصار فكانت الدائرة عليهم، فصالحوه على الخروج عنها إلى صقلية، فأمنهم وأخرجهم في سفنه إليها، وقصده الشعراء ومدحوه بهذا النصر المبين، وقصده الفقيه أبو عبد الله محمد بن أبي العباس التيفاشي القفصي بقصيدة طويلة فلما أنشده أولها:
ما هز عطفيه بين البيض والأسل ... مثل الخليفة عبد المؤمن بن علي
قال له: حسبك! ليقتصر على هذا البيت، وأجازه ألف دينار، وقد اعتبر علماء البلاغة هذا المطلع من الابتداءات الحسنة في براعة الاستهلال وسهولة اللفظ وعذوبته.
وكان مع عبد المؤمن في هذه الحملة أمير تونس السابق الحسن بن علي ابن باديس الصنهاجي، ومن حكمة عبد المؤمن أنه لما استعاد المهدية أمر نائبه بها أن يقتدي برأي هذا الأمير ويرجع إلى قوله.
وفي سنة 555 خرج عبد المؤمن من المغرب إلى الأندلس في جموع عظيمة، فعبر البحر ونزل في جبل طارق، فأقام به أشهراً وابتني به قصوراً عظيمة، ووفد عليه وجوه الأندلس للبيعة كأهل مالقة وغرناطة ورندة وقرطبة وأشبيلية وما والى هذه البلاد وانضم إليها، ورتب عبد المؤمن أمور الأندلس، فولي مدينة إشبيلية وأعمالها ابنه يوسف وترك معه بها من أشياخ الموحدين وذوي الرأي والتحصيل منهم من يرجع إليه في أموره ويعول عليه فيما ينويه، وولي قرطبة وأعمالها أبا حفص عمر إينتي، وولي غرناطة وأعمالها ابنه عثمان بن عبد المؤمن يكنى أبا سعيد وكان من نبهاء أولاده ونجبائهم وذوي الصرامة منهم، ثم عاد عبد المؤمن إلى مراكش بعد ما ملأ ما ملكه من أقطار جزيرة الأندلس خيلاً ورجالاً من المصامدة والعرب وغيرهم من أصناف الجند.
وكان لعبد المؤمن بجبل الفتح يوم عظيم اجتمع له وفي مجلسه فيه من وجوه البلاد ورؤسائها وأعيانها وملوكها من المغرب والأندلس ما لم يجتمع لملك قبله واستدعى الشعراء في هذا اليوم ابتداءً، ولم يكن يستدعيهم قبل ذلك إنما كانوا يستأذنون فيؤذن لهم، وكان على بابه شعراء مجيدون، وكان أول من أنشده شاعره المختص به أبو عبد الله ابن حبوس، محمد بن حسين بن عبد الله بن حبوس الفاسي، المولود سنة 500 والمتوفى سنة 570، وكان شعره يشبه شعر محمد بن هانئ الأندلسي في قصد الألفاظ الرائعة والقعاقع المهولة وإيثار التقعير، وأنشده الشاعر ابن الطليق الأصم المرواني، فابتدأ فقال:
ما للعدا جُنة أوقى من الهرب
فقال عبد المؤمن رافعاً صوته: إلى أين؟ إلى أين؟ فقال الشاعر:
أين المفر وخيل الله في الطلب؟!
وأين يذهب من في رأس شاهقة ... وقد رمته سماء الله بالشهب؟!
حدِّث عن الروم في أقطار أندلس ... والبحر قد ملأ البرين بالعرب
فلما أتم القصيدة قال: عبد المؤمن بمثل هذا تمدح الخلفاء! فسمى نفسه خليفة، وكان ملوك المغرب والأندلس يدينون بالولاء الإسمي للخليفة العباسي في بغداد ولا يتسمون بالخلافة احتراماً لذلك، ولكن عبد المؤمن قطع الدعاء للخليفة العباسي.
وأنشد في ذلك اليوم عالم من أهل أشبيلية هو أحمد بن سيد ويلقب باللص، المولود سنة 507 والمتوفى سنة 576، قصيدة بديعة بدأها بقوله:
 
غمِّض عن الشمس واستقصر مدى زُحل ... وانظر إلى الجبل الراسي على جبل
 
أنى أستقر به أنى استقل به ... أنى رأى شخصه العالي فلم يزل
 
فقال له عبد المؤمن: أنت شاعر هذه الجزيرة، لولا أنك بدأتنا بغمض وزحل والجبل، لقد ثقلتنا يا رجل!
 
وأنشده في ذلك اليوم الوزير الكاتب أبو عبد الله محمد بن غالب البلنسي المعروف بالرصافي الرفاء، المولود في حدود 530 والمتوفى سنة 570:
 
لو جئت نار الهدى من جانب الطور ... قبست ما شئت من علم ومن نور
 
من كل زهراء لم ترفع ذؤابتها ... ليلاً لسارٍ ولم تشبب لمقرور
 
فيضية القدح من نور النبوة أو ... نور الهداية تجلو ظلمة الزور
 
ثم يصف الجبل والخليفة:
 
لله: ما جبل الفتحين من جبل ... معظم القدر في الأجيال مذكور
 
تمسي النجوم على إكليل مفرقه ... في الجو حائمة مثل الدنانير
 
مقيد الخطو جوال الخواطر في ... عجيب أمريه من ماض ومنظور
 
قد واصل الصمت والإطراق مفتكراً ... بادي السكينة مغبر الأسارير
 
أخلق به وجبال الأرض راجفة ... أن يطمئن غداً من كل محذور
 
كفاه فضلاً أن انتابت مواطئه ... نعلا مليك كريم السعي مشكور
 
ملك أتى عِظَماً فوق الزمان فما ... يمر فيه بشيء غير محقور
 
ما عنَّ في الدين والدنيا له أرب ... إلا تأتى له من غير تعذير
 
ومدحه أبو القاسم أخيل بن إدريس الرندي بقصيدة أولها:
 
ما الفخر إلا فخر عبد المؤمن ... أثنى عليه كل عبد مؤمن
 
فلما أكملها قال له عبد المؤمن: أجدت، فقال ارتجالاً:
 
من لي أمير المؤمنين بموقفي ... هذا وقولك لي أجدت ولم تنِ
 
فلقد مدحتك خائفاً أن لا ... يفي لسني بما يعيي جميع الألسن
 
وأنشده من وفد قرطبة أحمد بن عبد الملك بن عمار بن ياسر العنسي، وهو حدث السن في جملة أبيه وإخوته وقومه، فقال:
 
تكلم فقد أصغى إلى قولك الدهر ... وما لسواك اليوم نهيٌ ولا أمرُ
 
ورُمْ كل ما قد شئتَه فهو كائنٌ ... وحاول فلا برٌ يفوت ولا بحر
 
وحسبك هذا البحر فألا فإنه ... يقبل ترباً داسه جيشك الغمر
 
وما صوته إلا سلامٌ مرددٌ علي ... ك وعن بشرٍ بقربك اليوم يفتر
 
بجيش لكي يلقى أمامك من غدا ... يعاند أمراً لا يقوم له أمر
 
أطل على أرض الجزيرة سعدها ... وجدد فيها ذلك الخبر الخبر
 
فما طارقٌ إلا لذلك مطرقٌ ... ولابن نصير لم يكن ذلك النصر
 
هما مهَّداها كي تحل بأفقها ... كما حل عند التم بالهالة البدر
 
فلما أتمها أثنى عليه الخليفة، وبارك لوالده فيه.
 
وكان عبد المؤمن في معيشته بعيداً عن التنعم والانغماس في الدنيا، وكان بيته مملوءاً من الكتب، فارغاً مما يليق بالسلاطين من الفرش وغيرها، وكان له رجلان من ثقاته أحدهما يجلس عند باب بيته، والآخر عند باب قصره، وكانت فيه روح المجاهد الذي لا يرتاح إلا وهو في أتم استعداد للقاء العدو، قال وزيره أبو جعفر ابن عطية، أحمد بن جعفر بن محمد، المولود سنة 517 والمتوفى سنة 553: دخلت عليه وهو في بستان له، قد أينعت ثماره، وتفتحت أزهاره، وتجاوبت أطياره، وهو قاعد في قبة مشرفة على البستان، فسلمت وجلست وجعلت أنظر يمنة وشأمة متعجباً مما أرى من حسن ذلك البستان، فقال لي: يا أبا جعفر أراك كثير النظر إلى هذا البستان؟ قلت: يطيل الله بقاء أمير المؤمنين، والله إن هذا لمنظر حسن! فقال: يا أبا جعفر، المنظر الحسن هذا؟ قلت: نعم، فسكت عني فلما كان بعد يومين أو ثلاثة أمر بعرض العسكر آخذي أسلحتهم، وجلس في مكان مطل، وجعلت العسكر تمر عليه قبيلة بعد قبيلة، وكتيبة إثر كتيبة، لا تمر كتيبة إلا والتي بعدها أحسن منها، جودة سلاح، وفراهة خيل، وظهور قوة، فلما رأى ذلك التفت إلي وقال: يا أبا جعفر، هذا هو المنظر الحسن، لا ثمارك وأشجارك!
 
وكان عبد المؤمن محباً لأهل العلم يستدعيهم من البلاد، ويجزل لههم الصلات، وينوه بهم، ومنهم الطبيب المشهور أبو مروان عبد الملك بن زهر الإيادي الإشبيلي، المولود سنة 464 والمتوفى سنة 557، إذ جعله طبيبه الخاص، وألف له أبو مروان بن زهر كتاب الترياق السبعيني، وكتاب الأغذية، وكان عبد المؤمن يكره شرب الأدوية المسهلة، فاحتاج مرة إلى شرب دواء مسهل، فتلطف له ابن زهر في ذلك، وأتى إلى كرمة في بستانه فجعل الماء الذي يسقيها به ماء قد أكسبه قوة أدوية مسهلة بنقعها فيه، أو بغليانها معه، ولما تشربت الكرمة قوة الأدوية المسهلة التي أرادها، وطلع فيها العنب، وله تلك القوة، أحم الخليفة عن الطعام، ثم أتاه بعنقود منها وأشار عليه أن يأكل منه، فلما أكل منه وهو ينظر إليه قال له: يكفيك يا أمير المؤمنين فإنك قد أكلت عشر حبات من العنب، وهي تخدمك عشر مجالس، فاستخبره عن علة ذلك وعرفه به، ثم قام على عدد ما ذكره له ووجد الراحة، فاستحسن منه فعله هذا وتزايدت منزلته عنده.
 
وكان عبد المؤمن يهتم بالتعليم وكانت له في داره مدرسة لتعليم النساء، وممن درس فيها الشاعرة الأديبة الغرناطية حفصة بنت الحاج الركونية، المتوفاة بمراكش سنة 586، وسألها يوماً أن تنشده فقالت ارتجالاً:
 
يا سيد الناس يا من ... يؤمِّل الناس رِفدهْ
 
أمننن على بطَرسٍ ... يكون للدهر عِدَّه
 
تخط يمناك فيه ... الحمد لله وحده
 
أشارت بذلك إلى العلامة السلطانية، فإن السلطان كان يكتب بيده في رأس مراسيمه توقيعه بخط غليظ (الحمد لله وحده)، فاستجاب لرغبتها وكتب لها بيده ما طلبت. ومن شعرها:
 
أغار عليك من عيني وقلبي ... ومنك ومن زمانك والمكان
 
ولو أني جعلتك في عيوني ... إلى يوم القيامة ما كفاني
 
 وكان عبد المؤمن يقول الشعر ويتمثل به، قال وقد كثر الخارجون عليه:
 
لا تحفلن بما قالوا وما فعلوا ... إن كنت تسمو إلى العليا من الرتب
 
وجرد السيف فيما أنت طالبه ... فما تُرَدُّ صدورُ الخيل بالكتب
 
ولما استولى على مراكش أنشد مفتخراً قوله:
 
ألقى المنية في درعين قد نُسجا ... من المنية لا من نسج داود
 
إن الذي صوَّر الأشياء صورني ... بحراً من البأس في بحر من الجود
 
وإن فقدتُ جميع الناس كلهم ... وقد بقيتُ فما شيء بمفقود
 
وكان كاتبه ووزيره أبو جعفر ابن عطية من أبلغ أهل زمانه، وقد حُكي أنه مر مع عبد المؤمن ببعض طرق مراكش، فأطلت من شباك جاريةٌ بارعة الجمال، فقال عبد المؤمن:
 
قدَّت فؤادي من الشباك إذ نظرت ...
 
فقال الوزير ابن عطية مجيزاً له:
 
حوراءُ ترنو إلى العشاق بالمقل
 
فقال عبد المؤمن:
 
كأنما لحظها في قلب عاشقها ...
 
فقال ابن عطية:
 
سيف المؤيد عبد المؤمن بن علي
 
وكان لعبد المؤمن آثار معمارية منها استكماله قناة لنقل مياه الشرب إلى مراكش، وصومعة الكتبية في مراكش، والتي استكملها ابنه من بعده، وكان في كنفه مهندس كبير هو الحاج يعيش المالقي المتوفى نحو سنة 560، صنع له في المسجد الجامع بمراكش مقصورة من الخشب ذات ستة أضلاع تتسع لأكثر من ألف رجل، قال لسان الدين ابن الخطيب في وصفها ما مؤداه: وضعت على حركات هندسية لدخول الخليفة وخروجه، وذلك أنه صنع على يمين المحراب باب، داخله المنبر، وعن يساره باب داخله دار فيها حركات المقصورة والمنبر، يدخل عبد المؤمن ويخرج منها، فكان إذا قرب وقت الرواح إلى الجامع يوم الجمعة دارت الحركات، بعد رفع البسط عن موضع المقصورة، فتبرز الأضلاع في زمان واحد، ويظل باب المنبر مغلقا، فإذا قام الخطيب انفتح الباب وخرج المنبر، في دفعة واحدة بحركة واحدة، ولا يسمع له حس ولا يرى تدبير الحركة، ويصعد الخطيب. ولما توجه عبد المؤمن إلى الأندلس ونزل بجبل الفتح أمر ببناء حصن فيه، وكان الحاج يعيش المهندس، ممن بناه واستشير فيه.
 
وكان في الجامع الأعظم بقرطبة المصحف العثماني، وهو أحد المصاحف الأربعة التي أرسل بها عثمان رضي الله عنه إلى الأمصار، فأمر عبد المؤمن بإحضار هذا المصحف من قرطبة في سنة 552، وأراد عمل غلاف له ومحمل وكرسي وصندوق تليق بهذا المصحف، فحشد له الصّنّاع المتقنين من سائر بلاده القريبة والقصية، فاجتمع مهرة الصاغة والنظّامين والحلائين والنقاشين والمرصّعين والنجارين والزواقين والرسامين والمجلدين، واشتغل أهل الحيل الهندسية بعمل غرائب الحركات ما بلغوا فيه منتهى طاقتهم.
 
وصنع للمصحف صندوق له بابٌ ركبت عليه دفتان وبأسفل الدفتين موضع له مفتاح لطيف، فإذا أدخل ذلك المفتاح فيه وأدير انفتح الباب بانعطاف الدفتين إلى الداخل من تلقائهما، وخرج الكرسي من ذاته بما عليه إلى أقصى غايته، وفي خلال خروج الكرسي يتحرك عليه المحمل حركة منتظمة مقترنة بحركته يأتي بها من مؤخر الكرسي زحفاً إلى مقدمه، فإذا كمل الكرسي بالخروج وكمل المحمل بالتقدم عليه انغلق الباب برجوع الدّفتين إلى موضعهما من تلقائهما دون أن يمسهما أحد، وترتبت هذه الحركات الأربع على حركة المفتاح فقط دون تكلف شيء آخر، فإذا أدير المفتاح إلى خلف الجهة التي أدير إليها أولاً انفتح الباب وأخذ الكرسي في الدخول والمحمل في التأخر عن مقدم الكرسي إلى مؤخره، فإذا عاد كلٌّ إلى مكانه انسدّ الباب بالدفتين أيضاً من تلقائه، كل ذلك يترتب على حركة المفتاح، كالذي كان في حال خروجه.
 
وكان عبد المؤمن حازماً سديد الرأي، حسن السياسة للأمور، يعظم أمر الدين ويقويه، ويلزم الناس بالصلاة بحيث أنه من رآه وقت الصلاة غير مصل قتل، فكان الناس يزدحمون في المساجد إذا أذن المؤذن بل وقبل الأذان، وكان هو حسن الصلاة ذا طمأنينة فيها، كثير الخشوع، يديم قيام الثلث الأخير من الليل يصلي أجمعه، ثم يصلي الصبح خلف إمام الجامع، ثم يخرج إلى مجلسه، وجمع الناس في المغرب على مذهب مالك في الفروع، وعلى مذهب أبي الحسن الأشعري في الأصول.
 
ويصف المؤرخون عبد المؤمن بن علي أنه كان شديد العقاب على الجرم الصغير، ومن أمثلة ذلك ما حكاه أحد التجار قال: لما فتح عبد المؤمن مدينة بجاية، وافق ذلك وصولي بعد أيام من المهدية إلى بجاية بأحمال متاع مع قَفل، فبتنا على مرحلة من بجاية، فلما أصبح الصباح فقدت شَدّة من المتاع، فحمدت الله وسألته الخلف، ودخلنا البلد وبعت المتاع أحسن بيع وأفدت فيه فائدة كبيرة، فقلت لصاحب الحانوت الذي بعت على يديه: فقدت من هذا المتاع شَدَّة، وأخلف الله على في الباقي. فقال لي: وما أنهيت ذلك إلى أمير المؤمنين عبد المؤمن؟ قلت: لا. قال: والله، إن علم ذلك من غيرك لحقك الضرر بسترك على المفسدين، فاتق الله في نفسك. فرحت إلى القصر واستأذنت عليه وأعلمته ثم خرجت، فسألني خادم عن منزلي فوصفته له، ورجعت إلى صاحب الحانوت فأخبرته، فقال: خرجت من العهدة.
 
فلما كان صبيحة اليوم الثالث من وصولي إليه، جاءني غلام أسود فقال: أجب أمير المؤمنين. فخرجت معه، فلما وصلنا باب القصر وجدت جماعة كبيرة والمصامدة دائرة عليهم بالرماح، فقال الأسود: تعلم من هؤلاء؟ قلت: لا، قال: هم أهل المكان الذي أُخذ متاعُك فيه، فدخلتُ وأنا خائف، فأُجلست بين يديه، واستدعى مشايخهم وقال لي: كم صح لك في الشدة التي فقدت أختها؟ فقلت: كذا وكذا، فأمر من وزن لي المبلغ، ثم قال لي: قم، أنت أخذت حقك، وبقي حقي وحق الله عز وجل. وأمر بإخراج المشايخ وقتل الجميع، وقال: هذه طريق شوك أزيلها عن المسلمين. فأقبلوا يبكون ويتضرعون ويقولون: يؤاخذ سيدنا الصلحاء بالمفسدين؟ فقال: تُخرِجُ كلُّ طائفة منكم من فيها من المفسدين. فصار الرجل يخرج ولده وأخاه وابن عمه إلى أن اجتمع منهم نحو خمسمئة، فأمر أهلهم أن يتولوا قتلهم، ففعلوا ذلك، وخرجت أنا إلى صقلية خوفاً على نفسي من أولياء المقتولين.
 
ولكنه مع ذلك أبدى من الحلم في بعض المواطن التي أوردها المؤرخون ما يدل على عقل وحكمة، ومن ذلك أن توالى القحط بمراكش مدة فقال أحد الشعراء معرضاً بما رآه من سفكه لدماء من خالفه، وسبيه للذراري:
 
يطوف السحاب بمراكش ... طواف الحجيج ببيت الحرام
 
يروم النزول فما يستطيع لسفك الدماء وبيع الحرم
 
فطلب عبد المؤمن قائل البيتين، فلما حضر، قال له: أنت القائل لهذين البيتين؟! فقال: يا أمير المؤمنين! هذا مقام لا يحتمل تطويل الكلام! فإن أنا أنكرتهما لم تصدقني، وإن أقررت بهما قتلتني! فتبسم عبد المؤمن وأطلقه.
 
ويحكى كذلك أنه سأل أصحابه عن مسألة ألقاها عليهم، فقالوا: لا علم لنا إلا ما علمتنا. فلم ينكر ذلك عليهم، فبلغ ذلك بعض زهاد بلده، فكتب ورقة فيها هذا البيتان:
 
يا أيها الذي قهر الأنام بسيفه ... ماذا يضرك أن تكون إلها
 
اْلفُظْ بها فيما لفظت فإنه ... لم يبق شيء أن تقول سواها
 
وتوصل إلى أن وضعت الورقة تحت سجادة عبد المؤمن، وكانت عادته أن يتفقد تحت سجادته لوضع أوراق المظالم الخفية تحتها! فلما رأى عبد المؤمن البيتين وجم وعظم أمرهما عليه، وتفكر في سبب ما قيلا فيه؛ فذكر قول أصحابه له ذاك اليوم: لا علم لنا إلا ما علمتنا! فعرف أنه السبب، ثم إنه بحث عن قائلهما فلم يعرف به، وكان عبد المؤمن يتزيا بزي العامة، ويقصد مواضع الخير والشر ليقف على الحقائق إلى أن وقعت يوماً عينه على شيخ يعلوه شحوب، وعليه سيماء الخير، فتفرس فيه أنه قائل البيتين ومرسلهما، فأحضره وقال له سراً: أصدقني فقد تفرست فيك أنك كاتب الورقة! فقال: أنا هو! فقال: لم فعلت ذلك؟ قال: لم أقصد به إلا صلاح دينك، وإن أردت فساد دنياي، فأنا بين يديك! فقال: لا بل أصلح دنياك كما أصلحت ديني! ودفع إليه ألف دينار وقال: رسمك أن تنبهنا متى غفلنا، وتصلح ديننا! فامتنع الشيخ من أخذ الذهب، فقال: إنها من جهة حل، والمعطي هو الله، وأنا وأنت فيها واسطة فاصرفها إلى مستحق.
 
وفي سنة 558 قرر أن يذهب إلى الأندلس لمواجهة النصارى، فخرج من مراكش إلى مدينة سلا، فلما نزل مدينة سلا ضربت له خيمة على الشاطئ، وجعلت العساكر تعبر قبيلة بعد قبيلة، فلما نظر إلى الأعداد الكبيرة، خر ساجداً ثم رفع رأسه وقد بلَّ الدمع لحيته، والتفت إلى من عنده وقال: أعرف ثلاثة أشخاص وردوا هذه المدينة لا شيء لهم إلا رغيف واحد، فراموا عبور هذا النهر فأتوا صاحب القارب وبذلوا له الرغيف على أن يعبروا ثلاثتهم، فقال: لا آخذه إلا على اثنين خاصة، فقال لهم أحدهم - وكان شاباً جلداً - خذا ثيابي معكما وأعبر أنا سباحةً! فأخذا ثيابه معهما وصعدا في القارب، فجعل الشاب يسبح فكلما أعيا دنا من القارب ووضع يديه عليه ليستريح، فضربه صاحبه بالمجداف الذي معه حتى يؤلمه، فما بلغ البر إلا بعد جهد شديد! فما شك السامعون للحكاية أنه العابر سباحةً وأن الاثنين المذكورين هما: ابن تومرت وعبد الواحد الشرقي. ولم يتابع عبد المؤمن رحلته فقد أصابه في سلا مرض شديد توفي على إثره، ونقل إلى تينمل فدفن فيها إلى جانب قبر ابن تومرت.
 
دام حكم عبد المؤمن مدة تزيد على 33 سنة، واجه خلالها كثيراً من حركات التمرد استطاع أن يخمدها، وامتد سلطانه مابين المغرب وليبيا، وواجه الفرنج في الأندلس بعد أن دانت له إشبيلية وقرطبة وغرناطة، وحول حركة ابن تومرت من ثورة إلى دولة راسخة لها أجهزتها وأنظمتها.
 
ولما مات خلف من الولد ستة عشر ولداً، وكان قد جعل وليه في العهد ولده محمداً، فلما تولى اضطرب أمره وخلعوه بعد شهر ونصف، واجتمعت أهل الدولة على تولية أخيه يوسف فبايعوه وهو في إشبيلية، وسنه 25 عاماً، فأقام في الخلافة 22 سنة، فكان حسن السيرة عادلاً، ديناً ملازماً للصلوات الخمس، لابساً للصوف، أتى له والده بالعلماء فنشأ حافظاً للقرآن بشرحه، عالماً بحديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وتوفي في سنة 580 بظاهر شنترين، وهي Santaren في البرتغال، من سهم أصابه في خبائه، وهو محاصر لها، فحمل إلى تينمل فدفن بجانب أبيه.
 
دامت دولة الموحدين إلى سنة 668، وذلك إن قبيلة بني مرين البربرية بدأت في الاستقلال والتوسع في الثلاثينات، ثم خرجت عن طاعة الموحدين بني عبد المؤمن، ثم أزالوا ملك الموحدين عندما استولوا على مراكش في سنة 668 بقيادة السلطان المنصور بالله، يعقوب بن عبد الحق، المولود سنة 607 والمتوفى سنة 685، ومما يؤسف له أن يقوم عمال بني مرين في سنة 674 بنبش قبور خلفاء الموحدين، وأخرجوا عبد المؤمن بن على وابنه يعقوب المنصور من قبريهما، وقطعوا رأسيهما، وصلبوهما بمراكش

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين