العدل

(تعريفه، أقسامه، مقتضياته)

الشيخ مجد أحمد مكي
 تعريف العدل: قال في لسان العرب: العدل: ما قامَ في النفوس أنَّه مُستقيم، وهو ضد الجَوْر، وفلان يعدل فلاناً أي: يساويه، وتعديل الشيء: تقويمه.
والاعتدال: توسُّط بين حالين، كقولهم: جسم مُعتدل من الطول والقصر، وجو معتدل من الحر والبرد.
الآيات الواردة:
قال تعالى: [شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالمَلَائِكَةُ وَأُولُو العِلْمِ قَائِمًا بِالقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ] {آل عمران:18}.
وقال عزَّ وجل: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا] {النساء:135}.
قال ابن كثير 2/412: يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا قوامين بالقسط، أي: بالعدل، فلا يعدلوا عنه يميناً ولا شمالاً، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ولا يصرفهم عنه صارف، وأن يكونوا مُتساعدين مُتعاضدين مُتناصرين (شهداء الله) كما قال تعالى:[ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ للهِ] {الطَّلاق:2}، أي: أدوها ابتغاء وجه الله، فحينئذ تكون خالية عن التخويف والتبديل والكتمان:[ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ] {النساء:135}، أي: اشهد بالحق ولو عاد ضرره عليك، فإنَّ الله سيجعل لمن أطاعه فرجاً ومخرجاً: [أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ] أي: وإن كانت الشهادة على والديك، وقرابتك، فلا تراعهم فيها، بل اشهد بالحق وإن عاد الضرر عليك، فإن الحق حاكم على كل أحد: [إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا] أي: لا ترعاه لغناه، ولا تشفق عليه لفقره، فالله يتولاهما، وهو أولى بهما منك، وأعلم بما فيه صلاحهما: [فَلَا تَتَّبِعُوا الهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا] أي: لا يحملنكم الهوى والمعصية وبغض الناس على ترك العدل، بل ألزموا العدل على أي حال.
ومن هذا قول عبد الله بن رواحة رضي الله عنه لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل خيبر يخرص عليهم ثمارهم، وزروعهم فأرادوا أن يرشوه ليرفق بهم فقال: (والله لقد جئتكم من أحب الخلق إليَّ، ولأنتم أبغض إلي من أعدادكم من القردة والخنازير، وما يحملني حبي إياه وبغضي لكم على أن لا أعدل فيكم، فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض).
وقال عزَّ وجل: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] {المائدة:8}.
أقسام العدل
1 ـ أعظم العدل: توحيد الله عزَّ وجل بلا شريك، وهو الحق الذي قَامت به السموات والأرض، قال الله سبحانه: [وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ] {الدُخان:39}.
ويُقابل هذا النوع من العدل أعظم الظلم، وهو الإشراك بالله سبحانه حيث قال سبحانه: [وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ] {لقمان:13}. وقال سبحانه:[الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ] {الأنعام:82}. وقوله تعالى: [وَالكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ] {البقرة:254}.
2 ـ العدل مع النفس: قيام العبد بالأمانة التي كلفه الله بها، والالتزام بأوامره واجتناب نواهيه من غير إفراط ولا تفريط.
ويقابل هذا القسم من العدل: ظلم العبد نفسه بارتكابه ما حرَّم الله عزَّ وجل أو تركه ما أمر الله عزَّ وجل به.
3 ـ العدل مع العباد: ويقابل هذا القسم: ظلم العباد واعتداء بعضهم على بعض في القول أو الفعل.
من لوازم العدل ومقتضياته
1 ـ التثبُّت من الأمر قبل الحكم عليه: إنَّ من الظلم الحكم على أمر بمجرد الظنون ولقد بيَّن الله سبحانه المنهج الصحيح الذي ينبغي سلوكه: [وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا] {الإسراء:36}.
فالله سبحانه نهى عن القول بلا عِلم، بل بالظن الذي هو التوهُّم والخيال: [اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ] {الحجرات:12}. وفي الحديث: (إياكم والظن فإنَّ الظن أكذب الحديث).
2 ـ العدل في النقد ومعالجة الخطأ: في موقفه صلى الله عليه وسلم من صنيع حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه في فتح مكة... من هذه الحادثة نحدد ثلاث مراحل للعلاج.
المرحلة الأولى: مرحلة التثبت من وقوع الخطأ، وقد تم التثبت عن طريق أوثق المصادر، ألا وهو الوحي.
المرحلة الثانية: التثبت من الأسباب التي دفعت إلى ارتكاب الخطأ: (ما حملك على ما صنعت).
المرحلة الثالثة: جمع الحسنات وحشدها إلى جانب الخطأ، فقد يغفر هذا الخطأ، وهذه السيئة في بحر حسناته، وهذا هو الذي سلكه الرسول صلى الله عليه وسلم مع حاطب، حيث قال لعمر عندما استأذنه بقتل حاطب: (أليس من أهل بدر؟ لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة أو غفرت لكم)
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد=جاءت محاسنه بألف شفيع.
 
فإن يكن الفعل الذي ساء واحداً=فأفعال اللائي سررن كثير
 
3 ـ الفرح بإصابة الغير للحق والحزن على مخالفته له: الكثير من دعاة المسلمين إذا رأوا غيرهم أخطأ فرحوا بذلك، والكثير منهم يتتبع الكتابات والمقالات، وهمهم الوحيد هو تتبع العثرات والفرح باصطيادها، وإذا وجدوا خلاف ذلك من إصابة غيرهم للحق، فإنهم يحزنون لذلك، وهذا هو الظلم والحقد والحسد.
قيل لحاتم الأصم: أنت رجل أعجمي لا تفصح وما ناظرك أحد إلا قطعته، فبأي شيء تغلب خصمك؟ فقال بثلاث: (أفرح إذا أصاب خصمي، وأحزن إذا أخطأ، وأحفظ لساني عن أن أقول ما يسوؤه).
4 الشهادة للمحسن بإحسانه وللمسيء بإساءته: إنَّ كثيراً من الناس إذا أحبُّوا شخصاً يُفرطون في هذا الحب، فلا يَرون إلا الحسنات، ويُغمضون أعينهم عن الحسنات والسيئات، ويبررونها ويؤولونها، وهذا غلو واعتداء في الحب، وفي مُقابل ذلك إذا أبغضوا شخصاً أو جماعة، فإنَّ هذا الكره ينسيهم كل الحسنات والإيجابيات، بل يشككون في نوايا فاعلها، ولا يذكرون إلا الأخطاء مع التضخيم والتهويل لها، وذلك ظلم واعتداء ومُجانبة للعدل والإنصاف.
المنهج الشرعي: الشهادة للمحسن أنَّه محسن، والشهادة للمسيء بأنَّه مُسيء والنصح له في ذلك وتلمُّس العذر، والاعتدال في الحب والكره.
أقسام العدل
العدل يعني التوسط الذي هو سمة المسلمين، وهو إعطاء كل ذي حق حقه.
1 ـ العدل مع العدو والصديق:  الكثير منا إذا ذكر له صديقه أثنى عليه ولو علم أنه لا يستحق ذلك الثناء، وإذا ذكر خصمه ذمَّه ولو كان يعلم أنه خلاف ما يقول.
من أثنى عليك بما ليس فيك قد ذمَّك، وذلك جور وإن كان مظهره مظهر المحبة.
إنَّ فئة من الدعاة تنظر بعين واحدة، إما بعين الرضا فتنسى العيوب والأخطاء، وإما بعين السخط التي لا ترى إلا المساوئ.
وعين الرضا عن كل عيب كليلة = وعين السخط تبدي إليك المساويا
2 ـ العدل في تقويم الكتب: ليس من العدل حين نقوِّم كتاباً أن نقول: إنَّه يحوي أحاديث ضعيفة أو آراء شاذة، فنذكر هذا الجانب المظلم وننسى جانباً آخر موجوداً في الكتاب وهو أنه يحوي توجيهات مفيدة أو أبحاثاً علمية، إن ذكرك لنصف الحقيقة وإهمال النصف الآخر ليس من العدل.
والكثير من الناس بمجرد أن يرى خطأ في كتاب ما يحذره ويحذِّر منه، ولو عاملنا كتب أهل العلم بهذا المقياس ما بقي لنا كتاب.
ولا يخلو كتاب بعد كتاب الله من النقص والخطأ، فلا ينبغي أن نذكر عيوب كتاب ومَثَالبه إلا ونذكر إلى جانبها محاسنه.
3 ـ العدل في الحكم على الدعوات والحركات: منذ سقوط الخلافة قامت في العالم الإسلامي دعوات وحركات كثيرة تهدف إلى استئناف الحياة الإسلاميَّة، واستمرار الدعوة، وهذه الدعوات تختلف مَنَاهجها وأهدافها...
وقد تحدَّث كثيرون عن هذه الدعوات ودروسها، والأمر الذي تكاد أن تفقده في كثير من هذه الدراسات هو (العدل) فكثير من الكتاب ما بين مُعجب بهذه الدعوة ومَنَاهجها فهو يَكيلُ المدحَ كيلاً، وآخر مُتحامل عليها لا يرى فيها إلا كل نقيصة مما يخالف منهج العدل والإنصاف.
التعميم: لعلك ذهبت إلى بلد فأكرمك أهلها، عندئذ تقول: إنَّ أهل هذه البلدة كرام، وتنزل ببلدة أخرى فلا يَستقبلك أحدٌ حيث لا يعرفك أهلها فتقول، أهل هذه البلدة بخلاء.
والأولى أن تقول إنَّ فلاناً في بلد كذا كريم، وفلاناً في بلد كذا بخيل.
إن سحبت عيوب الأفراد على جميع أفراد الجماعة ظلم وعدوان وغمط للحقوق.
كيف يصدر ذلك من المسلم والله سبحانه يقول: [كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ] {الطُّور:21}. ويقول: [أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى] {النَّجم:38}.
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها = كفى المرء نبلاً أن تعدَّ مَعَايبُه
التعميم من خلال نظر إلى شخص أو مجموعة أشخاص غير مقبول شرعاً ولا عقلاً.
الانصاف: يُعلِّمُنا الله تعالى الإنصاف في كتابه فيقول: [وَمِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا] {آل عمران:75}. وقال صلى الله عليه وسلم: (لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملك لا يُظلم عنده أحد). وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين