درس بليغ من لقمان الحكيم(2)

الدكتور عثمان قدري مكانسي

العاقل من وعى دروس الحياة وخبِرَها وعلّم الناس وأرشدهم فكان أستاذاً بحق ، بدأ بنفسه ثم أهله ثم الأقرب فالأقرب . وكان لقمان الحكيم من هؤلاء المربين الناجحين الذين ذكرهم القرآن الكريم وأعلى شأنهم. فتراه ينصح ولده متحبباً فيناديه بكلمة التحبب ( يا بُنَيّ) ثلاث مرات :
1-    الأولى يعظه فيها بعبادة الله تعالى وحده ، وعدم الإشراك به سبحانه." يا بُنَيّ ؛ لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم"
2-    الثانية: بيان عظمة الله القادر على كل شيء العالم بكل شيء." يابُنَيّ إنها إن تك مثقال حبة من خردل ، فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأتِ بها الله ، إن الله لطيف خبير"
3-    نصائح لا بد منها أمراً ونهياً ترفع شأن صاحبها وتجعله في بؤرة الرضا." يابُنَيّ أقم الصلاة وامر بالمعروف وانه عن المنكر، واصبر على ما أصابك ، إن ذلك من عزم الأمور، ولا تُصعّر خدّك للناس ولا تمشِ في الأرض مرحاً إن الله لا يحب كل مختار فخور، واقصد في مشيك واغضض من صوتك ، إن أنكر الأصوات لصوت الحمير".
فالعظة الأولى وهي عماد الحياة توحيد الله تعالى ، فالشرك ظلم عظيم. والظلم نوعان ،
1-    أما أحدهما فظلم الإنسان نفسَه في الشرك يؤدي به إلى غضب الله عليه ومعاقبته بالنار والعذاب الشديد الدائم والعياذ بالله من غضبه وعذابه.
2-    وثانيهما أن يظلم الإنسانُ حقَّ ربه في إفراده بالعبادة وحده. وقد يتساءل أحدهم معترضاً : إن الظلم يكون من القوي على الضعيف ، فكيف يظلم الإنسان ربه حقَّه؟! والجواب أن اللغة العربية واسعة المعنى متسعة الافكار ، ولهذا نزل القرآن بها لأنها تتسع له وهي قادرة على توليد المعاني ، والدليل على ذلك حديثُ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه مسلم في صحيحه :" إن الله عز وجل يقول ، يوم القيامة : يا ابن آدم ! مرضت فلم تعدني . قال : يا رب ! كيف أعودك ؟ وأنت رب العالمين . قال : أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده . أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده ؟ يا ابن آدم ! استطعمتك فلم تطعمني . قال : يا رب ! وكيف أطعمك ؟ وأنت رب العالمين . قال : أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه ؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي ؟ يا ابن آدم ! استسقيتك فلم تسقني . قال : يا رب ! كيف أسقيك ؟ وأنت رب العالمين . قال : استسقاك عبدي فلان فلم تسقه . أما أنك لو سقيته وجدت ذلك عندي " فالمولى تعالى خالقُ المرض والطعام والماء والزمان والمكان . وهو المُحْدِثُ لكل هذا( الذي خلق الحَدَثَ) لا يتأثر بالحَدَث ومع هذا نجد الحديث الشريف يذكر الله تعالى موجوداً عند المريض – وهو الذي لا يحدّه مكان-ويستطعم ويستسقي – وهو المنزّه عن النقصان - ليقرب المعنى إلى عبده ، فيفهم العبدُ المطلوبَ ويعمل به,
والملفت للنظر بل الجميل في المعنى والمبنى – أيضاً- أن بين الموعظة الأولى والموعظة الثانية آيتين لهما علاقة بالبر بالوالدين ذكرهما القرآن الكريم للتأكيد على الإحسان إليهما ، فالآباء هم الذين يربون أبناءهم على الإيمان بالله ويدلونهم على طريقه . ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: "يولد الإنسان على الفطرة ، فأبواه يهوّدانه أو ينَصّرانه أو يُمَجّسانه" فكما أنّ علينا واجبَ الشكر لله فمن واجبنا أن نشكر آباءنامع شكرنا لله تعالى " أن اشكر لي ولوالديك " فالله تعالى سبب الخلق والأباء السبب المباشر لوجودنا. والشكر للطرفين واجب على أن لا يتعارض شكر الوالدين بشكر الله تعالى فشكره – سبحانه- المقدّم. ويوجه القرآن الأبناء إلى معاملة آبائهم المعاملةالطيبة ولو كان الآباء مشركين فحسابهم الاعتقاديّ على الله .
والعظة الثانية تعليل لوجوب عبادة الله وتوحيده ، فهو سبحانه العالم بكل شيء المتصرف بكل شيء والقادر عليه . والقرآن يعلمنا قاعدة مهمة في الحياة : (التعليل ) فمتى اقتنع الإنسان بأمر فعله والتزمه وثابر على أدائه.
والعظة الثالثة أوامر ونواهٍ .وهكذا الحياة بقوانينها وأنظمتها كما أن الأوامر عادة ما تكون أكثر من النواهي . فالنواهي هنا أربع ( لا تشرك بالله ، لا تطعهما ، لا تصعّر ، لا تمشِ) والأوامر أكثر فهي تسعٌ( اشكر، صاحبهما، اتّبِعْ، أقم الصلاة، وامر بالمعروف، انهَ ،اصبرْ، اقصِد، اغضضْ) وهي وإن كانت على شكل نصائح فهي قواعد لا بد من التزامها فالحياة تقوم عليها ، وهي عصارة تجارب المرء المجرب العاقل الذي خبر الحياة نظراً وتأملاً وعملاً
كما أن لقمان يذيّل بعض نصائحه بحكمة مناسبة فبعد قوله: "اصبر على ما أصابك "ذيّلها بقوله:" إن ذلك لمن عزم الأمور" وحين نهاه عن التكبر والتعالي على الناس ذيلها بقوله" إن الله لا يحب كل مختال فخور " وحين نهاه عن رفع الصوت برره قائلاً " إن أنكر الأصوات لصوتُ الحمير " ومن يكره نتائج الصبر ولا يخاف الله ومن يحب أن يقرن صوته العالي بصوت الحمار؟
إنها وصايا عقَدية وأدبية وخُلقية واجتماعية إذا التزمَتْها أمةٌ ارتقت وتصدرت ركب الحضارة .
فهل نشمر عن ساعد الجد لنكون خير أمة أخرجت للناس.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين