زيد بن حارثة الكلبي القائد الشهيد ـ 4 ـ والأخيرة

اللواء الركن : محمود شيت خطاب

القائد :
بعد عودة النبي صلى الله عليه وسلم من حَجَّة الوداع ، أقام بالمدينة بقية ذي الحجة والمحرم وصفر من السنة الحادية عشر الهجرية (632 م) ، فأمر بتجهيز جيش كبير فيه أبو بكر الصديق وعمر الفاروق وسعد بن أبي وقاص وأبو عُبيدة بن الجرَّاح رضي الله عنهم ، وجعل هذا الجيش بإمرة أسامة بن زيد ، فتجهّز الناس ، وأوعب مع أسامة المهاجرون الأولون ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والدَّاروم من أرض فلسطين .
وتأخّر تجهيز هذا الجيش لمرض النبي صلى الله عليه وسلم ، فخرج عاصبا رأسه حتى جلس على المنبر ، ثم قال: "أيها الناس! انفذوا بعث أسامة ، فلعمري لئن قلتم في إمارته ، لقد قلتم في إمارة أبيه من قبله ، وإنه لخليق للإمارة ، وإن كان أبوه لخليقا لها ، وفي رواية الإمام البخاري ، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بعثا وأمر عليهم أسامة بن زيد ، فطعن الناس في إمارته ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن تطعنوا فيِ إمارته ، فقد كنتم تطعنُون في إمارة أبيه من قبلُ . وايم الله ، إن كان لخليقاَ للإِمارة ، وإن كان لمن أحب الناس إليّ ، وإنَّ هذا لمن أحب الناس إليِّ بعده وهذا تقويم لكفاية زيد القيادة وكفاية ابنه أسامة القيادية أيضاَ ، يفوق كل تقويم؛ لأنه تقويم النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يعادله ولا يقاربه أي تقويم آخر .
وقد كانت عائشة أم المؤمنين أقرب المقربين للنبي صلى الله عليه وسلم وأعرفهم به تقول: ما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة في جيش قط إلا أمّره عليهم ولو بقي بعده لاستخلفه .
ذلك هو مبلغ تقدير النبي صلى الله عليه وسلم لكفاية زيد القيادية وثقته الكاملة به واعتماده المطلق عليه ، وهو تقدير عظيم وثقة بالغة واعتماد هائل ، استحقه زيد بمزاياه القيادية أولا وقبل كل شيء ، فما كان النبي صلى الله عليه وسلم يولي ثقته الكاملة إلا لمن يستحقها بجدارة ، وكان يبنى الإنسان المسلم بالعقيدة الراسخة ، والأسوة الحسنة التي يضربها للمسلمين كافة بشخصه الكرِيم ، وبتوليه الرجل المناسب للعمل المناسب ليقود الأمة أفضل رجالها عقيدةَ واقتداراَ بالنسبة للواجبات والمسئوليات التي يتقلدونها .
فما الذي يستطيع القادة أن يتعلموه من سجايا زيد القياديّة؟
كان من الرُّماة المعدودين المذكورين من بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، أي أنه كان السنّ ، والاستمساك بعُرى التفاضل بالأنساب والأحساب والعشائر والقبائل . . . إن التفاضل في الإسلام يخضع للتقوى وصالح الأعمال ، بالإضافة إلى الكفايات المناسبة للعمل المناسب .
وقد رفعت مزايا زيد القياديّة وإيمانه الراسخ العميق إلى الإمارة .
لقد كان لزيد قابلية فذّة لِإعطاء قرار سريع صحيح في الوقت والمكان المناسبين ، وكانت كل سراياه بحاجة ماسة إلى إصدار قرارات سريعة
وصحيحة ، وحين وجد العدو في سريّة مُؤْتة قد حشد له ما لا قبل للمسلمين به ، عزم أن يتريث في قبول المعركة غير المتكافئة ويستشير النبي صلى الله عليه وسلم في الموقف الجديد ، ولكن المتحمسين من المجاهدين الذين خرجوا للجهاد طلبا للشهادة وعلى رأسهم عبد الله بن رَواحة ، أرادوا لقاء العدو مهما تكن نتائج هذا اللقاء ، فانصاع زيد لنداء العاطفة ، ويبدو أن الأحداث تطورت بسرعة عظيمة فاضطّرت المسلمين إلى قَبول المعركة ، فكان سرية مُؤْتة إخفاقا تعبويا ولكنها كانت نصرا سَوْقيا ، جعلت الروم جيران المسلمين في الشمال ، يلمسون عمليا بأن العرب بالإسلام أصبحوا خلقا جديدا ، فأصبحت حربُهم ليست حربا عابرة ، بل هي حرب لها ما بعدها كأية حرب نظاميّة تتميّز بإرادة القتال وبالنظام والتنظيم والاستمرارية .
وكان زيد ذا إرادة قوية ثابتة ، استطاع أن يتغلب بسهولة ويُسرٍ على كثير من المصاعب والعقبات في سراياه ، التي كان أكثرها يتسم بالمغامرة والمشاقّ ، فنجح بفضل إرادة الله على ما صادفه من معضلات ومشاق .
وكان من أولئك القادة الذين يتحملون المسئولية ويتقبلونها قَبولا حسنا ، ولا يتملصون منها بإلقائها على عواتق الآخرين .
وكان ذا نفسية ثابتة لا تتبدل: لا يطربها النصر فيؤدي بها إلى مزالق الشّطط ، ولا يقلقها الانتصار فيحملها إلى مهاوي الانهيار ، والشطط والانهيار تلحق الكوارث بالقائد ورِجاله .
وما دام المرء لا يعمل لنفسه ، بل يعمل للمصلحة العامة ، وتكون نيته خالصة لوجه الله ، فإن نفسيته تكون ثابتة لا تتغيّر .
وكان عارفا بنفسيات رجاله وقابلياتهم؛ لأنّه نشأ بينهم وعمل معهم ، وعايشهم طويلا في حالتي الحرب والسلام ، إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المقربين وآل بيته الطاهرين ، فكان يكلف كل فرد منهم بما يناسب نفسيته وقابليته .
وكان يثق برجاله ثقة مطلقة ، ويثق به رجاله ثقة مطلقة ، والثقة الأساس
القوي للتعاون بين القائد وجنوده ، ولا تعاون بدون ثقة متبادلة .
وكان يحب رجاله حب الأخ لأخيه ، ويحبه رجاله حبا لا مزيد عليه ، والحب المتبادل هو العامل الحيوي لِإرساء أسس التعاون الوثيق الذي يقود إلى النصر .
وكان يتمتع بشخصيّة قوية نافذة ، جعلت النبي صلى الله عليه وسلم يوليه السرايا التي فيها أمثال أبي بكر الصدِّيق وعمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم ، ويوليه إمرة المدينة المنورة في بعض غزواته ، مما يدل على شخصيته القوية النافذة .
وكانت له قابلية بدنيّة فائقة ، ساعدته على قطع المسافات الشاسعة بسرعة ، وتحمّل أعباء السفر والقتال ، دون كلل ولا ملل ولا تعب ولا إنهاك .
وكان له ماض ناصع مجيد في خدمة الإسلام والمسلمين ، وخدمة النبي صلى الله عليه وسلم .
وكان يساوي بينه وبين رجاله ، لا يستأثر دونهم الخير ، ويترك لهم المتاعب ، بل يؤثرهم بالأمن والدعة والاطمئنان ، ويستأثر دونهم بالأخطار والمصاعب والمشاق .
وكان يستشير أصحابه ، وبخاصة ذوي الرأي منهم ، ويأخذ بآرائهم ويضعها في حيِّز التطبيق العملي .
واستنادا إلى مبادئ الحرب ، فقد كان زيد يختار مقصده ويديمه ، ويفكِّر في أقوم وسيلة للوصول إليه ، ثم يقرِّر الخطة المناسبة للحصول عليه .
وكانت سرايا زيد كلها تعرضيّة ، تَشِيع فيها رُوح المباغتة ، وكانت جميع سراياه عدا سرية مُؤْتة مباغتة كاملة لأعداء المسلمين ، لذلك استطاع الانتصار عليهم بالرغم من قلة قوّاته بالنسبة إلى كثرة قوّاتهم ، وبالرغم من وجودهم في بلادهم بينما كانت خطوط مواصلات زيد بعيدة عن المدينة قاعدة عمليات المسلمين الرئيسة .
كما أن زيدا كان يحشد قوّاته قبل الإقدام على خوض المعركة ، وكان يديم معنويات تلك القوات ، ويمكن اعتبار سراياه في هدفها الرئيس سرايا معنويات بالدرجة الأولى كما ذكرنا من قبل .
وكان يطبق مبدأ الأمن ، فلم يستطع العدو مباغتة سرايا زيد في أية معركة خاضها ، وحتى سرية مُؤْتة لم يُباغت بتفوِّق القوات المعادية على قوات المسلمين عدداَ وعُددا . ولكنه اختار لنفسه الشهادة ، فكان له ما أراد .
وكانت سرايا زيد تتحلى بالطاعة المطلقة ، وهي مما نسميه اليوم: الضبط المتين ، كما امتازت سراياه بالشجاعة والإقدام والجلد والصبر والمصابرة وتحمل المشاق ، وهي الصِّفات المعنوية الباقية على الزمان لكل جيش متماسك في كل زمان ومكان .
وكان زيد يتحلى بنفس مزايا جيشه المعنويّة ، وكان مثالا شخصيا رائعا لسراياه في كل تلك المزايا والصفات .
لقد كان زيد قائدا متميِّزا حقا . 
زيد في التاريخ :
يذكر التاريخ لزيد ، أنه أصاب سباء في الجاهلية ، فطوحت به الأقدار بعيدا عن أهله ليصبح في كنف النبي صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه .
وأن أباه وعمه وإخوته أرادوا فداءه ، فاختار النبي صلى الله عليه وسلم على أبيه وعمه وإخوته ، فارتبط مصيره بالإسلام والمسلمين .
وأنه كان أول مَنْ أسلم ، أو من أول مَنْ أسلم ، فكان أول من أسلم من الموالي بدون خلاف .
وأنه رافق النبي صلى الله عليه وسلم إلى مدينة الطائف لدعوة بني ثقيف إلى الإسلام ، فشهد أقسى ما لاقاه النبي صلى الله عليه وسلم من ثقيف في رحلته الصعبة الشاقة .
وأنه هاجر إلى المدينة المنورة ، وحمل معه قسما من بنات النبي صلى الله عليه وسلم وزوجاته .
وأنه شهد بدرا وأحُدا والخندق وغيرها من غزوات النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبلى فيها أعظم البلاء .
وأنه تولى قيادة تسع سرايا من سرايا النبي صلى الله عليه وسلم ، فكان أكثر قادة النبي صلى الله عليه وسلم في قيادة سراياه .
وأنه الوحيد الذي ذكر بالاسم من بين صحابة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحاب النبيين والمرسلين في القرآن الكريم .
وأنه كان حِب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا حِبِّه أسامة بن زيد الكلبي .
وأنه توّج حياته الحافلة بالجهاد المتواصل بالشّهادة ، فضحى بنفسه فداءً لعقيدته ، ولم يُضَح بعقيدته فداءً لنفسه .
رضي الله عن الصحابي الجليل ، القائد الشهيد ، الإداري الحازم ، حِب رسول الله زيد بن حارثة الكلبيّ.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر : مجلة البحوث الإسلامية العدد الخامس عشر ، ربيع الأول 1406

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين