القرضاوي.. شيخ شباب الحرّيّة

 

عمار بن عبد القادر رقبة الجزائري 

وهكذا تمضي الثورات العربية كلّ يوم إلى ما شاء الله لها أن تمضي، وتحلم الشّعوب التي لم تدركها الثّورة بمجيء يوم تثور فيه على طغاتها، ويدعو المسلمون في كل أفاق الأرض أن يبقي الله شيخنا القرضاوي ليشهد النّصر الذي بشّر الله به، والذي سطره علامتنا صفحات من عشرات الأعوام، وليكمل مسيرة شيوخه كابن نبي والغزالي وغيرهما من المصلحين الأعلام.

 

قدسية الميت في النفوس متجذرة، ومقولة "ما ترك الأول للآخر شيئا" على بطلانها، وتعارضها مع النّصوص الشّرعية في العقول، ثابتة، فلا فضل لحي في شيء، ولو جاوز إنجازه إنجاز الميت بخطوات، لأنّ الميت له فضل السبق وإن أحسن اللاحق، كما يقولون.
وفي ظل هذه الأفكار المترسخة، تهدر الحقوق، وتغمط أفعال الرجال، ويبخس الناس أشياءهم.
لو عاش رجال اليوم في عصر غير عصرنا، لكان لنا تجاههم كلام آخر، لكانوا رجال العلم وسلاطينه، والصّادعين بالحق أمام الطّغيان وجبروته، لكن ذنبهم أنّهم أبناء جيلنا، وإنصاف القرين المعاصر لأخيه، واعترافه له بالفضل، نادر.
نهضت أمتنا بعد طول سبات، وقامت بعد كبوة، وما كان حلما وتصورا أضحى واقعا وحقيقة، فأشرقت شمس الحريّة في بلاد العرب بعد غروب، وانبجست ينابع العدل والمساواة والحقوق بعد جفاء، ورُفع في هذه النهضة أقوام، وانحدر آخرون.
لقد ظلت أمتنا لعقود تبحث عن نفسها، تبحث عن فارس يقود عودتها لريادتها، وقائد يوجه معركتها، ويرشّد خطواتها، إلى أن منّ الله في هذه الأحداث الأخيرة برجل كان ذاك هو بعينه، رضع النضال صبيا، وامتحنه فتيا، وعاش في رحابه دهرا من الزمان عتيا، ذلكم هو العلّامة يوسف القرضاوي حفظه الله تبارك وتعالى ورعاه، الذي كان قائد الحريّة بامتياز، وداعية الحق والعدل، وشيخ الثورة ضد عداتها، وكان الوقود الذي يذكي شعلتها، بل والنور الذي ينير دربها.
شيخوخة يحاكي طموحها فتوة الشباب، همة لاتكل، وعزيمة لا تفل ولا تمل، تراه فترى فيه الشاب الثائر، والجندي الباسل.
وقف من أول ما وقف أيام ثورة التونسيين على طاغيتهم "شين العباد" فشدّ أزرهم، وقوى من عزيمتهم، وأثنى على جهدهم، وذكرهم بقول شاعرهم:
إذا الشعب يوما أراد الحياة * "فنرجو له" أن يستجيب القدر
فبارك الله في الجهد، وسدد الخطا، وما هي إلّا أيام حتى سمعنا طاغية تونس يقول لشعبه "فهمتكم".
ومنطلقا من "الأقربون أولى بالمعروف" كان شرفاء مصر أحوج من غيرهم إلى شيخهم، وأولى بدعمه، فاستجاب لرغبتهم، وحقّق مطلبهم، ونادى بصوته المسموع أن هبوا إلى تحرّركم، واسعوا إلى الحياة من جديد، واربأوا بأنفسكم أن تُساقوا كالعبيد، فعهد استعمار بني الجلدة قد ولى إلى غير رجوع، وزمن الحاكم المتفرد بالقرار قد زال، وسنة الله في التغيير ثابتة، والحقوق تؤخذ ولا تعطى، والمتخلف عن هذا الاستحقاق يغالط نفسه، لأن بشائر النّصر في الأفق لاحت، وبوادر الحريّة للمبصرين بادية.
وماهي إلّا أيّام حتى قال "فرعون مصر": "إنّني أعي". ولأن نسمات الحرّيّة لامست شغاف قلوب بني العروبة، كان لابدّ من رغبة الشعوب العربيّة الأخرى في تنفسها، فاستيقظت النّخوة هنا وهناك، في ليبيا، واليمن ووو...
وبما أنّ الطّغيان مدارس، والطّغاة أصناف، فطاغيتا ليبيا واليمن كانوا لونا آخر، وشكلا مختلفا، ف"الأحمق المطاع في ليبيا" لسنوات، كشّر عن أنيابه، وبدأ من حيث انتهى من سبقه، فأعمل السّلاح، وأنطق الرّصاص، وقال "عليَّ وعلى أعدائي"، فأدرك الشيخ بنفاذ بصيرته أنّ "الأحمق لا يؤمن وفي يده السيف"، ورأى قطع رأس الأفعى يبطل سمّها، فأهدر دم "الأحمق غير المطاع"، فكان لدعوته صدى الزلزال في نفس "الأحمق"، وصار يعيش كالجرذان، بعد أن وصف شعبه بذلك، ونزلت فتوى العلّامة القرضاوي بلسما وشفاء ً لأحفاد عمر المختار.
ولمّا كان الطّغاة في "جنون العظمة" يشتركون، ومن بعضهم البعض يستقون، أعمل "مفسد اليمن" السيف في قومه، وانبرى شيخنا كالعادة يدعوه للرحيل، ويدعو أبناء "الحكمة" إلى الصّمود السّلمي، والثبات حتّى تحقيق النصر القادم لا محالة، والتّحرّر الحاصل بإذن الله تعالى.
ولأن قطار التّغيير الخيّر على الأمة العربيّة هبّ، كان لابدّ له في كلّ البلدان أن يحطّ، فوصل قطار التّغيير سوريا، وانتصب شيخنا صادعا بالمباركة لأبنائها، وداعيا نظامها للاستماع والاستجابة لمطالب شعبه، وتحكيم شرع الله في كل أمره، فقوبلت نصيحته بالصّد، واستجيب لدعوته بعدم استعمال الرصاص والحديد بالضدّ، وصار الاعتقال والتّضييق على الحريات سيد التعامل، وارتوت الأرض من دماء الشهداء.
وبما أنّ سوريا فرق ومِلل، والطّائفية تضرب فيها بالأطناب، قرعت طبول الحرب على العلّامة القرضاوي، ولئن كان الشيوخ في مصر تقريبا في العلن منقسمين، وفي تونس مغيّبين، وفي ليبيا ممنوعين، فإن شيوخ سوريا في غالبهم إلّا من رحم الله مأمورون، وللسلطان موالون، ولفكر العلّامة القرضاوي منكرون، بل ولدينه وإخلاصه متهِمون، فسلّطوا الألسن والأقلام، ووصموه بداعية "الفتنة والضلال"، و"المحرض والمتآمر على سوريا في الظلام، وبعالم السوء، والمخرّب المأجور".
وأضحوا يخصّصون، بل تُخصّص لهم طوال السّاعات، على شاشات القنوات، بعد أن كانوا لا يحلمون بالظهور عليها، للتحذير من "نزعته الثورية، وأفكاره التّحرّريّة، وأغراضه التّآمريّة، وأهدافه الحزبيّة"، يحذّرون ممّا قال وممّا سيقول، ولكن بفضل الله حصل نقيض مقصدهم، وأضحى المحذّر منه عند الشّباب الثّوار نارا على علم، وباسمه في طريقهم إلى الحريّة يهتفون، ولخطبه وتصريحاته يتابعون:
وإذا أراد الله نشر فضيلة * طويت قيض لها لسان حسود
وهكذا تمضي الثورات العربية كلّ يوم إلى ما شاء الله لها أن تمضي، وتحلم الشّعوب التي لم تدركها الثّورة بمجيء يوم تثور فيه على طغاتها، ويدعو المسلمون في كل أفاق الأرض أن يبقي الله شيخنا القرضاوي ليشهد النّصر الذي بشّر الله به، والذي سطره علامتنا صفحات من عشرات الأعوام، وليكمل مسيرة شيوخه كابن نبي والغزالي وغيرهما من المصلحين الأعلام، وتتحقّق العودة إلى العزّة بالإسلام، لتتحقّق الشّعوب ذاتها، وتتخلّص من ذلّتها، وتهب لنجدة أقصاها، وما ذلك على الله ببعيد.
* عن مجلة العصر

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين