بروق النِّعَم من دياجير الظُلَم  ( 11 ). نكبة فلسطين .. نكبة بلاد الشام والإسلام

بقلم ماجد الدرويش

(64) أربعة وستون عاما مرت على ذكرى نكبة فلسطين في أيار من سنة (1948).
أربعة وستون عاما مضت على الإعلان الأول لقيام الدولة اليهودية على جزء من فلسطين من خلال القرار الأممي الصادر يومها بقيام دولتين على أرض فلسطين: دولة يهودية، ودولة عربية.
وفلسطين يومها لم تكن دولة، وإنما كانت جزءً من وطن تحتل فيه مكانة القلب، ولا زالت.
يومها كانت فلسطين عروس بلاد المسلمين، فهي: أولى القبلتين، وثالث الحرمين. وهي عقر دار المؤمنين، كما في الحديث الذي أخرجه ابن حبان في صحيحه عن النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ رضي الله عنه، قَالَ: " فُتِحَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتْحٌ، فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ سُيِّبَتِ الْخَيْلُ، وَوَضَعُوا السِّلَاحَ، فَقَدْ وَضَعَتِ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، وَقَالُوا: لَا قِتَالَ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كَذَبُوا الْآنَ جَاءَ الْقِتَالُ، الْآنَ جَاءَ الْقِتَالُ، إِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا يُزِيغُ قُلُوبَ أَقْوَامٍ يُقَاتِلُونَهُمْ وَيَرْزُقُهُمُ اللَّهُ مِنْهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ عَلَى ذَلِكَ، وَعُقْرُ دَارِ المؤمنين الشام).
وفي مسند الشاميين للطبراني، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ نُفَيْلٍ، قَالَ: "كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: ( يُوحَى إِلَيَّ أَنِّي مَقْبُوضٌ غَيْرَ مُلَبَثٍ، وَإِنَّكُمْ مُتَّبِعِيَّ أَفْنَادًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ, وَلَا يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي نَاسٌ يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ، وَيُزِيغُ اللَّهُ بِهِمْ قُلُوبَ أَقْوَامٍ وَيَرْزُقُهُمْ مِنْهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، وَحَتَّى يَأْتِيَ وَعَدُ اللَّهِ, وَالْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ, وَعُقْرُ دَارِ الْمُؤْمِنِينَ بِالشَّامِ).
ورواية ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني جامعة للحديثين، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ نُفَيْلٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى كَادَتَا رُكْبَتَاهُ تَمَسَّانِ فَخْذَهُ، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ سُيِّبَتِ الْخَيْلُ، وَأُلْقِيَ السِّلَاحُ، وَقَالُوا: وَضَعَتِ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، وَقَالُوا: لَا قِتَالَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كَذَبُوا.. الْآنَ جَاءَ الْقِتَالُ. لَا تَزَالُ أُمَّتِي أُمَّةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى النَّاسِ، يُزِيغُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ قُلُوبَ أَقْوَامٍ، وَيَرْزُقُهُمْ مِنْهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ) ثُمَّ قَالَ: (إِنِّي لَأَجِدُ نَفْسَ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ مِنْ هَا هُنَا) وَهُوَ مُوَلٍّى ظَهْرَهُ إِلَى الْيَمَنِ, وَقَالَ: (إِنَّهُ يُوحَى إِلَيَّ أَنِّي مَكْفُوتٌ، ثُمَّ سَتَخْلُفُونِي أَفْنَادًا، وَعُقْرُ دَارِ الْمُؤْمِنِينَ الشَّامُ، وَالْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ). والحديث عند النسائي في كتاب الخيل مع اختلاف يسير. وعند أحمد في المسند أن القائل هو سلمة بن نفيل عن نفسه.
فهذه الأحاديث الصحيحة تعرِّفنا بأسباب الوصول إلى ما نحن فيه اليوم، ولماذا استطاعت الدول أن تتكالب علينا هذا التكالب.
فمن الأسباب التي تظهر في الحديث:
التقاعس عن الجهاد في سبيل الله تعالى، يظهر ذلك من إنكاره صلى الله عليه وسلم على ما ذكر له من تسييب الخيل، أي إهمالها وتركها ترعى لوحدها مهما نأى بها المرعى، فصاحبها لم يعد يعتنِ بها؛ لأجل الجهاد؛ الاعتناء الذي يقتضي أن تكون في متناول يديه ليهبَّ إلى الجهاد مستعينا بها عندما تدعو الحاجة. قال الإمام السيوطي في حاشيته على سنن النسائي شارحا هذا الجزء من الحديث: [ (أذال النَّاس الْخَيل) الإذالة، بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة: الإهانة، أَي: أهانوها واستخفوا بهَا بقلة الرَّغْبَة فِيهَا. وَقِيلَ: أَرَادَ أَنَّهُمْ وَضَعُوا أَدَاةَ الْحَرْبِ عَنْهَا وأرسلوها].
وهؤلاء الذين ذكروا في الحديث إنما اجتهدوا بأنه لم يعد هناك من مبرر للقتال بعد تحول الجزيرة العربية إلى واحة إسلامية، لا يوجد فيها إلا مؤمن أو منافق. ولكن ما هو عذر المسلمين اليوم وبلاد الإسلام مستباحة شرقا وغربا؟
وهؤلاء قد يعذرون ظاهرا بظنهم أن الأمر اكتمل بفتح جزيرة العرب كاملة، اعتقادا منهم أن هذا هو المطلوب. فجاء التوجيه والبيان النبوي ليقول لهم: أخطأتم، ذلك أن الجهاد ماض إلى يوم القيامة.
 ثم بيَّن لهم بأن بلاد الإسلام لا تقتصر على جزيرة العرب فقط، وإنما الأرض كلها دار إسلام، وقاعدتها بلاد الشام. فالذي يريد المحافظة على داره عليه أن يسعى جاهدا إلى عدم تمكين العدو من دخولها. وإذا كانت بلاد الشام عقر دار المؤمنين، فهذا يُلزِمُهم بعدم السماح للعدو بدخولها.
ولكن للأسف دخلها العدو.. وما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا.
نعم.. دخلها أول مرة تحت شعار الصليب في أواخر القرن الخامس هجري، يوم انساحت جيوش الفرنجة في بلادنا على غفلة من المسلمين بسبب تقاعسهم وتشتتهم واختلافاتهم الشخصية التي لا تنتهي. فمكث فيها قرابة قرنين من الزمن، كان نصيب القدس منها ( 80 ) ثمانين سنة، ونصيب طرابلس الشام ( 185 ) مئة وخمسة وثمانين سنة. ثم صرفهم الله تعالى عن هذه البلاد. وبقيت دمشق عصية...
ودخلها المرة الثانية في أعقاب الحربين الكونيتين: الأولى عام (1914) والثانية عام ( 1943م)، وكان نصيب الدولة العثمانية في الحربين الهزيمة. ذلك أن المسلمين تآمروا على أنفسهم ووثقوا بعدوهم، فخلعوا السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله تعالى لأنه لم يرض التفريط بفلسطين يوم أرسل له تيودور هرتزل زعيم الحركة الصهيونية بخطاب عام 1897م، يُمَنِّيْهِ فيه بأمور عظام، منها: أن يقدِّموا له 15 مليون ليرة ذهبية، عشرة منها لخزينة الدوله العثمانيه، وخمسة لخزينته الخاصة، في مقابل التنازل عن جزء من فلسطين لليهود. فأجاب السلطان حاملي الرسالة بجواب قوي، ومما قاله: ( انصحوا الدكتور هرتزل بأن لايتخذ خطوات جدية في هذا الموضوع، فإن هذه الارض امتلكها المسلمون بدمائهم، ولن تباع إلا بنفس الثمن، وإني لَأَهْوَنُ عليَّ عملُ المِبْضَعِ في جسدي، ولا أن أرى شبرا من فلسطين قد بتر من أرض الخلافة).
هذا السلطان الأمين القوي، الذي حافظ على إرث الأمة، كان نصيبَه الإقصاءُ سنة 1908م، وعلى أيدي من يفترض أنهم أتباعه من أبناء الأمة المسلمة، فكان هذا أولُ الغدر، فتآمرت الأمة على نفسها، لذلك أثرت فيها مخططات أعدائها. مع العلم أن هذه المغريات لو عُرِض معشارها على الذين خلعوه، أو على أباطرة العرب اليوم، لأتوها زحفا.
ثم توالت بعد ذلك الانتكاسات المدروسة: من حركة التتريك التي كانت عنوانا للنزعة الطورانية، إلى الثورة العربية الكبرى التي قامت باسم القومية العربية،.كل هذا والإسلام يقول لنا على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم: ( ليس منا من دعا إلى عصبية...) الحديث. فكانت النزعة القومية الإسفين الأول في بناء الأمة السياسي. ثم بعد ذلك توالت الانشطارات، وما زالت. وهو الأمر الذي كان السلطان عبد الحميد رحمه الله تعالى متنبها له، لذلك أنشأ ما عرف بـ ( الجامعة الإسلامية ) في محاولة منه لمواجهة مشاريع التفتيت والتشرذم والانشطار.
إذن تحت هذه العناوين المتضمنة الكثير من المخالفات الشرعية وصلنا إلى ما بات يعرف في تاريخنا (بالنكبة). واستطاع عدونا أن يدخل عقر دارنا، ليس لأنه أقوى منا، ولكن لأننا؛ كما أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم في الأحاديث آنفة الذكر؛ رجعنا جهلة يقتل بعضنا البعض الآخر، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (وَإِنَّكُمْ مُتَّبِعِيَّ أَفْنَادًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ).
فالأفناد جمع فنَد بالتحريك، وهي الجماعات المتفرقة، فوصف النبي صلى الله عليه وسلم حالة الأمة بعده، أنها تنتقل من حال الجماعة إلى حال التفرق الذي ينتج حروبا يضرب المسلمون فيها رقاب بعض، فينشغلون بأنفسهم عن دينهم وأمتهم وبلادهم. وهذا وحده كاف في تمكن العدو من استباحة بلاد المسلمين.
ومع هذا الواقع المرير تبقى هناك بارقة أمل في الطائفة التي أخبر صلى الله عليه وسلم أنها لا تدخل فيما يدخل فيه هؤلاء الأفناد، وإنما تبقى على الحق الذي أقامها الله عليه، تجاهد في سبيل الله تعالى لا تخاف لومة لائم، صابرة محتسبة، لا يضرها خذلان من شغلته الدنيا عن طلب الآخرة، ولا عَتَبَ من جَبُنَ عن قول كلمة الحق، ولا تأويلاتُ طلاب الدنيا باسم الدين.
هذه هي الطائفة المنصورة التي لا يخفى أمرها على مسلم، وهذه هي الطائفة التي قاعدتها بيت المقدس وسائر بلاد الشام.
من هنا يأتي قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( وعقر دار المؤمنين الشام ). ففِي النِّهَايَةِ في غريب الحديث والأثر: " عقر الدار؛ بالضم والفتح: أصلها... ومنه الحديث: (عقر دار الإسلام الشام) أي: أصله وموضعه، كأنه أشار به إلى وقت الفتن: أي يكون الشام يومئذ آمنا منها، وأهل الإسلام به أسلم".
ولن يكون الشام على هذا الوصف إلا إذا كان أهله من أصحاب هذا الوصف، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم ).
فإلى الطائفة المنصورة من أهل الشام في بيت المقدس وحوله: أنتم اليوم معدن الإسلام وأرومته، وأنتم اليوم قدر الله تعالى الذي يلقي به على أعدائه، فاصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين