تجارة خاسرة

 

يقضى على المرء في أيام محنته، أو ساعات وحدته، أو لحظات ضيقه وسأمه، أن يقرأ ما ليس يروقه، أو يطلع على ما يسء إلى عقله، أو يؤذي شعوره، أو ثقافة نفسه، ويمجه ذوقه، و هذا هو الذي وقع لي إبان وعكة ألمت بي، فقد لزمت فراشي بضعة أيام، عادني فيها بعض الإخوان والأصدقاء، ودار الحديث بيننا في شتى المسائل، كما يدور عادة في مثل هذه الظروف، وفجأة رأيت أحد الشبان الذين يطلق عليهم اسم التقدميين يقدم إليّ مجلة من تلكم المجلات التي تصدر في مصر البلد الإسلامي، وقال لي: اقرأ ما يكتبه محرر هذه المجلة، وقل رأيك فيه، فأجبته: إني لا أقرأ مثل هذه الوريقات لأنها مضيعة للوقت، ومفسدة للخلق والعقل، قال: اقرأ فإني أنا الذي نشأت في الإباحية أو ما يسمونه (الحرية) وطبعت على ما عودني أهلي من الانطلاق أرى فيما يكتب خروجاً عن كل أدب، ومجاوزة لكل خلق، ودعوة سافرة إلى الانحلال الخلقي والحياة كما تعيش الحيوانات العجماوات، فأجبت: إذا كنت أنت  ترى هذا فلماذا تدعوني إلى قراءته، أجاب: إني مصرٌّ على أن تقرأ وحبَّذ الحاضرون رأيه، وأرغموني على أن أطلع على تلك الصحيفة التي تتداولها الأيدي في البيوت وبين الأسر...

 

وتناولت الصحيفة وقرأت ما أشار إليه فقرأت ما يندى له وجه الفضيلة، وما تشمأز منه الفطرة المستقيمة والطبيعة السليمة، قرأت لكاتب يزعم لنفسه أنه مصلح اجتماعي، وأنه داعية لتطور المجتمع، وصبغه بصبغة الواقعية، يضع صفحات من قصة ينشرها تباعاً في الصحيفة التي يحررها، فرأيت ويا لهول ما رأيت، وقرأت ويا لبشاعة ما قرأت !!قرأت دعوة قذرة سافرة إلى أحط أنواع الإثارة، بل إلى أسفل أنواع الدعارة، وصورة يرسمها الكاتب لفتاته وفتاه، وهي تعلمه كيف يطارحها الغرام، ويبثها أحط عبارات العشق والهيام، ولولا أن ما كتب تجاوز كل لياقة، وزاد عن كل ما يتصوره ذو خلق أو مُسكة من عقل أو تفكير، لنقلت العبارات بحروفها، وحسبي أنها يمجها الذوق، وتأباها الفضيلة، وينفر منها الخلق الكريم، ويأباها كل ذي طبع سليم.

 

ولقد خرجنا من هذا إلى نقاش حاد بين الحاضرين انتهى إلى شبه إجماع بأن ما يكتبه مثل هذا الكاتب هو دعوة إلى الرذيلة سافرة، يقصد من ورائها ترويج بضاعته، ونشر صحيفته، وإثارة الغرائز الجنسية في المراهقين والمراهقات والشبّان والشابات، حتى يضمن لنفسه في آخر المطاف مالاً يعيش منه في بحبوحة، ولا يهمه أجاء من طريق حرام أو من طريق حلال، وأن ما ينشره على الناس من سموم يزيد مجتمعنا تفككاً وانحلالاً، ويصيبه بضربة قاصمة في الصميم، كل هذا هيِّن سهل ما دامت الصحيفة ستقرأ، والإقبال عليها يزداد، وقراؤها من السذج الأغرار سيكتبون إلى الكاتب الكبير أنهم به معجبون، وعلى بضاعته مقبلون، وأنهم ينتظرون يوم صدور صحيفته بصبر قليل وسرور كثير...

 

وتطور بنا الحديث عن الطريقة لعلاج مثل هذه الآفات، وهل هناك من  أمل في أن يقلع مثل هذا الكاتب ـ وأسميه كاتباً تجاوزاً ـ عن الطريقة التي يسير فيها والتي لا شك واصلة بشبابنا إلى هوةٍ من الانحدار لا محالة سيجرفه إلى ما لا تحمد عقباه؟

 

وهنا أدلى كلٌّ برأيه فمن قائل: إن مقاطعة مثل هذه الصحيفة التي تنشر تلك الدعوة الفاجرة، يضيع الغرض الذي يقصده من ترويج بضاعته الخاسرة وسريان سمومه بين المراهقين والسذج الجهلاء...

 

ومن قائل: إن المقاطعة وحدها لا تجدي، ويجب أن يذهب فريق من الغيورين الذي يعرفون للفضيلة قدرها، وللأخلاق حقها، إلى ذلك الكاتب ليحاولوا إقناعه بالحكمة والموعظة الحسنة.

 

ومن قائل: إن الاتجاه يجب أن يكون إلى العلماء الذين هم حرسة الفضيلة ومصابيح الهدى، وهم بدورهم يهيبون بولاة الأمور أن يردعوا هذا الكاتب، أو فلينشروا على الناس داعين إلى مقاطعته ومقاطعة أمثاله من الذين لا يرجون إلا وراء الكسب والحصول على المال من أي طريق.

 

وقلت لهم : يا سادة، إن هذا كله لا بأس به، ولكنه ليس طريقاً عملياً ولا مجدياً ولا موصلاً إلى الغاية، ولكن الطريق المجدي هو أن تمنع الحكومة نشر هذه السفالات بما لها من سلطة الرقابة على الأخلاق، والإشراف الفعلي على الصحافة، وهي المسؤولة الأولى عن الشباب والمكلفة بصيانته عن العبث والبعد به عن الانزلاق، وأن يظل بمنأى عن التيارات الجارفة، والانحرافات الطاغية، التي تسيء إليه في صحته وسمعته وحاضره ومستقبله.

 

وحبذا لو تعاونت الهيئات التي يهمها الإصلاح الاجتماعي، والتي تُعنى بتنشئة جيلنا الحديث على الرجولة والشجاعة والفروسية والإقدام، حبّذا لو تعاونت هذه الهيئات، وأقامت ندوات في مختلف الأماكن، وبين شتى الهيئات والطبقات، وتولَّى بعض العلماء المثقفين ودعاة الفضيلة والأخلاق شرح أضرار هذه الدعايات المسمومة، ومبلغ تأثيرها على أخلاق اليافعين من شبابنا  الذي نعده للمستقبل، وندّخره ليكون فخر الوطن وحامي الذمار.

 

وعندي أن مقاطعة مثل هذه النشرات لن تنجح إلا إذا وجدت مجتمعاً صالحاً تربَّى تربية أخلاقية، ونشأ نشأة دينية، وعرف الغث من السمين، والضار من النافع، وحينئذ يستطيع أن تكون له إرادة قوية، وشخصية ظاهرة تتحكم وتحكم، ويستطيع أن تكبح  جماح النفس، وتسيطر على العواطف والشهوات، أما مجتمعنا الذي نعيش فيه هذه الأيام فمن الأسف أنه مجتمع يجرفه تيار المدنية الذي جرف العالم، وأصبح مولعاً بكل جديد يطلع به عليه أولئك الذين يزعمون لأنفسهم أنهم مبتكرون، ولكل فكرة يخترعون، ومن جراء هذا أصبح يتعلق بكل ما يثير الشهوات، ويدعو إلى التحلل من كل قيد، والجري وراء النزوات العابرة، وليس لهذا التيار الجارف الذي جرَّنا إليه تطور الدنيا، وتغيير الزمان إلا من يكبح جماحه، ويوقفه عند حدِّه، و لن يوقفه عند حدِّه إلا قوة تنفيذيَّة لها صبغة حكوميَّة، تنفذ تارة بالشدة، وأخرى باللين، ومرة بالقوة، وثانية بالحجة والإقناع، ما تراه يحمي شبانا من تلك التيارات الجارفة، ويمنع أن تصل إلى أسماعه وأذواقه، أمثال هذه السموم الفتاكة.

 

يجب أن نشعر أننا في بلد يحمي الأخلاق حقاً، ويغار على الدين حقاً، ويدرك أن وجود شاب نشأ في أسرة ربما كانت منحلة هي التي دفعته إلى أن ينحرف هذا الانحراف، ويسيطر على عقله وفكره خاطر جعله يسير في الطريق الذي رسمه لنفسه من جراءة على الأخلاق، ونزعة جنونية إلى جر الشباب إلى قراءة سمومه، ونعته بأنه مصلح اجتماعي خطير، وكاتب عبقري كبير، أصبح بين عشية وضحاها معدوداً من زعماء الكتاب، وصاحب مدرسة ينتسب إليها عديد من  طلاب الرزق، وشرذمة من الساعين وراء لقمة العيش الذين ضاقت بهم سبل الحياة، واندست في وجوههم مسالك الشرف والأخلاق.

 

 أقول: لو أن في مصر من يضع نصب عينيه القضاء على أمثال هذا الكاتب الذين انتهزوا فرصة تركهم أحراراً يكتبون ما يشاءون، ويقولون ما يريدون، فاستعملوا الحرية لغير ما وضعت، وجنحوا بها إلى الطريق الشائك الذي لا تحمد عقباه، ولا يرتجى من ورائه خير لأحد، إذن لاستطعنا أن ننقي مجتمعنا، ولخرجنا بالبقية الباقة من شبابنا الذين لم يجرفهم التيار، ولم يجرفهم الهاوية، وخرجنا بهم مبرئين من الآفات، خالصين من الشوائب، ينظرون إلى المستقبل نظرة جادة، ويأملون بأن يكونوا حقاً رجال الغد المأمول، وأبناء الشعب الذي يفخر بأن دينه الإسلام، وعقيدته توحيد الواحد الديَّان.

 

يجب الضرب بقوة وقسوة على أيدي الذين نقلوا عن الغرب دعارته ورذائله، وتركوا مفاخره، حتى يكونوا عبرة لغيرهم، وحتى لا يطلع علينا كل يوم شاب رقيع مفتون باختراع جديد، وشكل جديد، ولباس جديد، فتارة يقلد هذا من الممثلين، وتارة يقلد تلك من الغانيات، حتى لقد أصبح مألوفاً لدينا منظر العابثين من شبابنا مزجج الحواجب، مصفف الشعر، مخنث الشكل، لا فرق بينه وبين الفتاة اللعوب، والمرأة العابثة...

 

أيها الداعون إلى الفضيلة، أيها المسؤولون عن حماية الأخلاق:

 

عليكم وحدكم يقع العبء وأمام التاريخ وبين يدي الديّان طالبوا الحكومة بسنِّ تشريع عاجل يقف بنا عند حدٍّ من المدنية الزائفة التي حملت إلينا جرائم الفساد، واذكروا دائماً قولة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه: (إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن).

 

ولن تنفع الموعظة مع أمثال هؤلاء، ولكن يقضى عليهم وعلى دعوتهم الفتاكة، أن تقف الحكومة لهم كل مرصد، وأن تسد عليهم كل باب، وأن تقول لهم عملياً: أيها المستهترون، لن أترككم تعبثون، ولن أدعكم في ضلالتكم تعمهون، ولكن استمساكاً بالفضيلة، وقضاء على الرذيلة ودعاة الرذيلة، وتطهير المجتمع من أمثالكم المفسدين، ولن نمكَّن لكم من أن تعبثوا بفلذات أكبادنا، وتسمِّموا بيئتنا ومجتمعنا أكثر مما سممتموه، ولتذهبوا إلى الجحيم، ومن يكن الشيطان له قريناً فساء قرينا.

 

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

المصدر مجلة لواء الإسلام العدد الثامن، السنة الثالثة عشرة، ربيع الثاني 1379هـ.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين