لماذا يلحق البوطي بركب الداعين لزيارة القدس؟!

طارق مصطفى حميدة - فلسطين

في أتون الرفض الشعبي العارم، والاستنكار الكبير من القوى الإسلامية والوطنية، على زيارة مفتي مصر للأقصى يأتي تصريح الشيخ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، خلال خطبة الجمعة الأخيرة منتقداً فتاوى "البعض" بمنع زيارة المسجد الأقصى المبارك، مشيرا إلى "أن هذه الفتاوى إنما يقف خلفها الفكر الصهيونى الذى يستهدف المقاومة ومن يقف وراءها من دول وقوى داعمة لها"!!.
وأكد البوطي بأن المسلمين" كانوا إبان الاحتلال الصليبى يزورون المسجد الأقصى، ولم يكونوا يتصورون أن زيارتهم له اعتراف بهؤلاء الصليبيين، ولكنهم كانوا يعلمون ويتصورون أن زيارتهم للمسجد الأقصى تحدٍّ لوجودهم" وتابع البوطي قائلاً :" لم أجد فى الأئمة السالفين من قال هذا، ولم أجد فى أصحاب رسول الله من انقطع عن زيارة المسجد الأقصى أثناء احتلال الرومان له".
وأرى من الضروري النظر إلى هذه القضية من جانبين: سياقها العام أو العربي، إضافة إلى بعدها السوري الخاص.
منذ زار الرئيس السادات القدس أواخر السبعينات وخطب في الكنيست، سعى الاحتلال بالتعاون مع العديد من الجهات الرسمية العربية، إلى استدراج الكثيرين من الكتاب والمثقفين والفنانين ورجالات الأعمال إلى زيارة القدس، وكان من هؤلاء من أصبح رمزاً للتطبيع، ودبج قصائد المديح في سلطات الاحتلال، كما كان منهم من اعتذر عما فعله، وظل الجسم العربي بغالبيته رافضاً للتطبيع مع الاحتلال على أرض فلسطين كما على الأراضي العربية.
لكن في الشهور الأخيرة تتابعت الدعوات من جهات رسمية تتبعها شخصيات دينية لزيارة القدس والأقصى، إلى الحد الذي خطب فيه رئيس السلطة برام الله في مؤتمر القمة ببغداد أنه " لا يجوز منع المسلمين من زيارة المدينة المقدسة، وانه لم يُحرّم على مر التاريخ زيارة القدس"، مؤكدا أن "زيارة السجين هي نصرة له وليست تطبيعا مع السجّان"، فيما لا يمل وزير أوقافه من التأكيد على" أهمية زيارة القدس من قبل العرب والمسلمين دعماً للحق العربي والإسلامي في القدس، وتعزيزاً لصمود وثبات أبناء القدس وفلسطين، في أرضهم وعلى ترابهم". وذلك في خطبه وندواته ومقابلاته في الداخل والخارج.
ثم جاءت زيارتا الشيخ الحبيب الجفري، ومفتي مصر بصحبة شخصيات من العائلة المالكة في الأردن، وأثناء كتابة هذه المقالة جاء خبر زيارة مدير الأمن العام الأردني للقدس، وفي تتمة الخبر أن هذه الزيارة ستتبعها زيارة لمسؤول أرفع درجة.
 والسؤال لماذا في هذه الفترة يتآزر الرسميون الكبار ومعهم أتباعهم من فقهاء السلطان، ويتسابقون في زيارة القدس أو الحض على زيارتها؟؟
لقد كانت مهمة الكثيرين من الرسميين العرب الذين صُنعوا على عين المستعمر، أن يمكنوا للاحتلال الصهيوني بتسليمه الأراضي الفلسطينية، ثم بحماية أمنه وأخيراً تسويغ وجوده وشرعنته، وحيث وجّه الربيع العربي ضربة قوية للتطبيع وأزلامه، بل وأصبح المشروع الصهيوني كله في خطر، فقد سارعت هذه الجهات متكئة على من يبيعون دينهم بعرض من الدنيا قليل، لأجل تدارك الموقف واستغلال الدين، الذي هو أقوى عوامل الصمود والثبات، فضلاً عن المواجهة والمقاومة، لغير ما أراده الله تعالى من التطبيع والقبول بالاحتلال وشرعنته، بدعاوى دعم صمود المقدسيين وغيرها.
 وكأنهم في هذه المرحلة الحرجة من الربيع العربي، وما يظنونه من حالة السيولة الفكرية والخلخلة الاجتماعية والسياسية، يمكنهم اختراق مجتمعاتنا العربية، وجعل صوت القبول بالمحتل عالياً ورائجاً، وقد نسوا أن أبرز ما تمخض عنه هذا الحراك الشعبي، هو رفض المحتل، وتضاعف المناعة الذاتية الرافضة لبقاء هذا الجسم الغريب مغروزاً في جسد الأمة.
أما في الجانب السوري، فاللافت أن هذا الجدال ليس فقهياً بحتاً إن صح التعبير بل يختلط فيه الديني الفقهي بالسياسي، مع غلبة السياسي، وبالتالي فالشيخ ليس طرفاً فيه ولم يدعه أحد إليه، ومن جهة ثانية فإن الطابع السياسي لهذا الموضوع يتصل بقضية الاعتراف بالاحتلال الصهيوني والتطبيع معه، ومقتضى دعوة الشيخ البوطي لزيارة القدس تعني الكثير، خاصة وأنه ومنذ عشرات السنين يعتبر محامي النظام، وفقيه السلطان، والمدافع عن النظام السوري، من أيام الأسد الأب وحتى الآن، سيما وأن النظام يعتاش على الممانعة والمقاومة، ويغطي سوآته باستضافة بعض الحركات المقاومة على أرض الشام، وكان المفترض أن ينأى رجالات النظام عن التورط بالانغماس مع المطبعين، بل كانت الحكمة والسياسة تقتضيان مهاجمتهم.
ومن هنا فإننا لا نفهم كلام الشيخ البوطي إلا باعتباره رسالة من النظام السوري لمن يهمه الأمر؟!. وفحوى هذه الرسالة أن النظام مستعد للمسارعة بخطوات تتضمن توقيع معاهدة سلام يرافقها أو يسبقها أعمال تطبيع وتعاون مع الصهاينة، وقد يكون الشيخ نفسه أول الزائرين، ولن يعدم من يرافقه أو يرحب به.
وهذه الرسالة لا تختلف كثيراً عن تلك التي وجهها رامي مخلوف ابن خال بشار الأسد من أنه لن يكون استقرار في إسرائيل إذا لم يكن استقرار في سوريا، خلال مقابلة قبل عام تقريباً مع مجلة نيو يورك تايمز، أي أن من مصلحة الغرب وإسرائيل بقاء النظام في سوريا.
لكن الفرق، فيما يبدو، بين تصريح مخلوف وخطاب البوطي، مع أن كليهما يمثلان النظام ذاته، هو أن تصريح مخلوف الذي كان في بدايات الثورة، وكان النظام لا يزال يتمتع بالكثير من القوة التي انعكست على كلامه، والذى بدا فيه شيء من التحذير، من خطورة ترك النظام السوري ينهار أمام ثورة الشعب، وقد وصلت الأمريكان الرسالة، ومعهم الصهاينة والغرب وحتى الجامعة العربية والأمم المتحدة، حيث ما يزالون يسكتون عن مجازر النظام ويماطلون في إعطائه المهلة تلو المهلة، ويتيحون الفرص لحلفاء النظام كي يدعموه بالسلاح والرجال والخبراء فضلاً عن الدعم السياسي والإعلامي، بينما توحي لهجة البوطي بالكثير من الاستجداء للصهاينة وتعكس شدة الضعف والانحدار اللذين يعاني منهما النظام، جراء بطولة الشعب السوري وقوة عزيمته، بالرغم مما يعانيه من المجازر والتهجير والخذلان.
وأخيراً فإن على الذين يغامرون بعلاقتهم مع أمتهم، ويقامرون بالارتماء في أحضان المحتلين، أن يدركوا بأنهم قد اختاروا التوقيت الأسوأ لهذه المغامرة، ولن ينقذهم مما ورطوا أنفسهم فيه سوى العودة إلى حضن الأمة الدافئ، ولا داعي لاصطناع المسوغات الشرعية، ولا الدواعي الإنسانية.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين