لماذا نَهْرَم؟ وكيف؟

      د. عارف سرسيلماز | كاتب وباحث تركي

الإنسان كسائر الكائنات الحية، لا يملك أي وسيلة لإيقاف أو تغيير عجلة الزمان؛ طفولة فشباب، فكهولة، فشيخوخة، فموت.
صحيح أن الفرار من الموت أمر مستحيل... ولكن ماذا عن الهرَم؟ هل يمكن منع الهرَم؟
معظم العلماء الذين يبحثون عن إجابة لهذا السؤال، متفقون على أن منع الهرَم أمر غير ممكن. غير أن التجارب التي أجريت بيولوجيًّا وكيميائيًّا وفسيولوجيًّا، والدراسات المتنوعة التي استندت إلى متابعة أحوال الشباب والشيوخ، تحمل آمالاً حول إمكانية الانتقال من مرحلة الكهولة إلى الشيخوخة بأخف أضرار ممكنة.
فقد يتمكن المرء في أحلك الظروف، بل حتى في الفترة التي يتصور أن إحدى رجليه باتت في القبر، من مواصلة أعماله اليومية بكل نشاط، ويقضي تلك الحقبة بلا معاناة بدنية أو مكابدة في غرفة مستشفى، وبدون أن يكون عبئًا على أحد، أي يقابل الموت بسرور وابتسام. هذا ما يحاول الباحثون تحقيقه في دراساتهم الأخيرة.
تخفيف وطأة الشيخوخة
والداعي إلى الحيرة، أن النتائج التي توصّل إليها العلماء كوصفات لتخفيف وطأة الشيخوخة، تتفق مع ما جاء من أوامر وإرشادات في القرآن والسنة حول معالجة المشكلة؛ فبدءًا من الأوامر النبوية التي تحث على تخفيف الطعام، واجتناب الخمر والمخدرات، والأمر بالمشي، والنوم الصحي، وأداء الصلاة، وغيرها مما يتعلق بحياتنا اليومية.. وانتهاءً بالقناعة، والحياة المتوازنة، والتفكر والصبر والتسامح التي تعتبر من الوصفات الحيوية لحياتنا النفسية.. كلها من شأنها أن تساعد الإنسان على المحافظة على صحته البدنية والنفسية، وذلك هو ما يؤخر الشيخوخة أو يسهل الانتقال إليها، ويساعد على قضاء هذه المرحلة بأقل أضرار ممكنة.
في البداية ركزت الأبحاث التي تسعى إلى فك لغز الهرَم على معرفة معدل الخسائر البدنية التي تحدث نتيجة لتقدم العمر، وحاولت معالجة الموضوع في ظل هذه المعطيات، غير أنها تحولت بعد فترة إلى البحث عن دور وآثار التغذية الصحية وغير الصحية، وممارسة الأنشطة الرياضية، أو اعتياد بعض العادات السيئة في عهد الشباب على تعجيل وتيرة الهرم أو إبطائها. أما الأبحاث الأخيرة فتركز على إيجاد رد على سؤال: "كيف يمكننا الانتقال إلى شيخوخة ناجحة، وكيف نتخطى الشيخوخة بسهولة وبدون معاناة؟!".
أثناء معالجتنا لظاهرة الهرَم، ينبغي ألا نغفل أهمية دور التكوين الوراثي للأفراد؛ إذ لا يمكننا أبدًا تغيير المعلومة البيولوجية المكتوبة في برنامج (D.N.A) من قبَل قلم القدرة الإلهية ونحن في بطون أمهاتنا، والتي تحدد ما إذا كان عهد الشيخوخة سيبدأ في عمر مبكر أو متأخر. فالمعلومات الوراثية التي ورثناها عن أبوينا، والتي تتعلق بوقت الشيخوخة تخرج من القوة إلى الفعل في وقتها المرهون.
ولكن البرنامج الوراثي هذا ليس طليقًا، بل يمكن أن تُضبط سرعته في بعض الأوضاع، ومن ثم يمكننا القول بأنه قد تتأخر شيخوخة فرد ورث من والديه جينات الهرَم السريع، مقارنة بأمثاله إذا ما عاش حياة منتظمة مبرمجة، كما يمكن أن تبدأ شيخوخة فرد آخر في وقت مبكر، مقارنة بأقرانه، رغم وراثته لجينات الهرَم المتأخر.
ما هو الهرَم الطبيعي؟
أول سؤال يخطر على البال في دراسة ظاهرة الهرَم هو: ما الهرَم الطبيعي؟
هنا يجب التمييز جيدًا بين التغيرات التي تدخل على الجسم نتيجة تقدم العمر، وبين التغيرات التي تحصل بسبب الأمراض التي يتعرض لها الجسم. ومن ثم حرص الباحثون على التمييز بين التغيرات التي حدثت نتيجة أمراض معينة، والتغيرات الفيسيولوجية التي لها علاقة مباشرة بتقدم العمر؛ وذلك لرسم صورة واضحة للهرَم الطبيعي.
وفي محاولة لمعرفة العوامل المؤثرة في سرعة الشيخوخة أو بطئها، أجريت بعض التجارب على الفئران؛ فثبت أن الفأر الذي تناول غذاءً زائدًا ازدادت لديه نسبة السعرات الحرارية، وأدى ذلك إلى تقصير حياته بصورة ملحوظة.. وقد تم الحصول على النتيجة نفسها من خلال المتابعات التي أجريت على البشر؛ فثبت أن الأفراد الذين لم يتناولوا سعرات حرارية زائدة عن الحاجة، أي قاموا عن المائدة قبل أن يشبعوا، ولا يأكلون إلا عندما يجوعون، تمتعوا بنشاط ملحوظ، وعاشوا أطول من الآخرين.
كيف يطلق البرنامج الوراثي صفارة إنذار الهرَم؟ هذا هو السؤال الذي تبحث عنه المختبرات المهتمة بعلم الجينات، ونفهم من المعلومات الجديدة أن الشيخوخة تبدأ إثر حدوث انقطاع في برنامج (D.N.A) الذي كان يعمل بشكل طبيعي، وتسرع وتيرة الشيخوخة عند تعرض بعض الأنزيمات الهامة وبرنامج (D.N.A) إلى أضرار، وعقب ذلك يحدث انكماش في نسبة الهورمونات ويظهر خلل في نظام المناعة، ويزداد عدد جزيئات الأوكسجين الطليقة التي تُعرف بقوتها التخريبية. وهكذا تبرز علامات الشيخوخة في جسم الإنسان بكل وضوح، وهكذا نشاهد تأثير جينات الشيخوخة التي ورثناها عن والدينا بصورة ملحوظة. التوقعات تشير إلى أن معدل عمر الإنسان سابقًا كان مرتفعًا، في حين انخفضت هذه النسبة إلى 75 سنة.
أما علامات الشيخوخة فتبدأ بالظهور ما بين 45-50 سنة من العمر؛ حيث يطرأ على أعضاء مختلفة بعض التغيرات وبنسب متفاوتة، فتزداد نسبة حوادث سرطان الثدي والرحم لدى النساء، مع توقف نظام التناسل عن العمل، وتتدهور صحة العظام، ويظهر ضعف القلب والرئة والكلى في السنوات ما بين 70-75 سنة. كما يدخل الخلل على آلية ضبط نسبة حرارة الجسم، وبالتالي تهبط مناعته إزاء التغيرات المناخية التي تحدث حوله، بالإضافة إلى ضعفه في معالجة الجروح، وتزايد وقائع الحساسية التي تأتي نتيجة نظرة الجسم لبعض خلاياه كأنهن أجنبيات دخيلات ليست منه.
كما تضعف القدرة التناسلية عند الرجال، وتتعطل القدرة على تحديد المسافة للعين، وينخفض رد الفعل البدني والذهني لبعض المنبهات، ويظهر تصلب في الشرايين بشكل ملحوظ، إلى جانب مشاكل في المفاصل. كذلك يحصل تضخم في حجم بعض خلايا العصب في الدماغ وتتعطل أخرى.
ومع أن معرفة موعد ابتداء الهرَم أمر وراثي خارج عن نطاق إرادتنا، إلا أن لإرادتنا دورًا في السيطرة على سرعة وتيرة الهرَم ونسبته، وتوجيه بعض العوامل التي تؤثر فيه، أي بإمكاننا أن نستعد لأيام الشيخوخة بصورة أفضل بالتخلي عن بعض العادات السلبية، والتحلي ببعض العادات الإيجابية. ولتحقيق هذا الغرض ينبغي أن نعلم طبيعة الهرَم البيوكيميائية، لكي نتمكن من معرفة المواقع التي يجب التركيز عليها ومعالجتها.
آليات للإصلاح والترميم
هناك نظرية تقول بأن جزيئات الأوكسجين الطليقة، الموجودة داخل الخلية تقوم بتدمير الجزيئات الحياتية مثل (D.N.A) والبروتينات والدهون، مما يؤدي إلى إهرام الجسم، ولكن بالمقابل هناك وحدات أخرى في الخلية تم برمجتها لإصلاح ما ينتج من دمار. أجل، بفضل ما رُكّب في نظام الخلايا من آليات للإصلاح والترميم، يتم إزالة الدمار المؤدي إلى الهرَم قبل أن يكبر حجمه، أو تضبط جزئيات الأوكسجين المدمرة. وهكذا يتم تأخير الشيخوخة عن طريق إبطاء سرعتها.
على سبيل المثال، هناك أنزيمات تقوم بعملية الإصلاح هذه مثل أنزيم (Super Oksid Dismutase)، وقد أثبتت التجارب أن الحيوانات التي لا يحتوي جسمها على هذه الأنزيمات، شاخت بشكل أسرع مقارنة بأمثالها التي تملك هذه الأنزيمات. ولكن هناك بروتينات أخرى في الكائن الحي تمنع الجسم من إنتاج هذا النوع من الأنزيمات، وهذا يعني مواصلة الهرَم مسيره، إلا أن الباحثين يتطلعون إلى الحيلولة دون ظهور تلك البروتينات المانعة، وهذا يعني مواصلة آليات الإصلاح لأعمالها بصورة مطردة ودون أي خلل.
مهما يكن الأمر، فسيأتي يوم تعجز فيه هذه الآلية عن العمل بشكل جيد وتتعطل، ومن ثم تبدأ عجلة الشيخوخة بالدوران من جديد. المهم إذن، طول أو قِصَر عمر نظام الإصلاح الوقائي هذا. فمن تعطل نظام الإصلاح لديه دخل مرحلة الشيخوخة ولو كان في الثلاثين من العمر، بينما نرى من قد بلغ الخمسين يتمتع بقوة الشباب ونشاطه بفضل ما يقوم به نظام الإصلاح من عمل ممتاز.
معادلة الدمار والإصلاح في الجسم
والسؤال الأهم في ضوء ما سبق: كيف نتمكن من الحفاظ على معادلة الدمار والإصلاح في الجسم بطريقة مثالية؟
اللافت للنظر أن النصائح التي وردت ردًّا على هذا السؤال، ركزت على الجانب النفسي مثل اطمئنان النفس والأسرة والبئية، أكثر من الجانب المادي مثل الإقلال من كمية الطعام، أو الإكثار من الحركة، والاهتمام باختيار بعض الأغذية على الخصوص. وقد أثبتت الدراسات التي أجريت في السنوات العشرين الماضية وسط مجموعات مختلفة من القاطنين في دُور المسنين، ومنفردين وأرامل ومتقاعدين، ومن يعيشون مع أسرهم... أن الأشخاص الذين ينعمون في ظل حياة عائلية سعيدة مع أبنائهم وقد واظبوا على نشاطاتهم اليومية حتى بعد التقاعد، وخالطوا الشباب وسط إجلال وتقدير، قد أبطأت وتيرة الشيخوخة لديهم بشكل كبير؛ ولأن نظام الإصلاح الوقائي يعمل بشكل جيد، فهم يتمتعون بجسم يمتلك المناعة والمقاومة ضد الأمراض، ويقضون فترة الشيخوخة بصحة رائعة.
وبالمقابل ثبت أن الأشخاص الذين يعيشون منفصلين عن أبنائهم أو في دور المسنين أو فرادى بعد فقدانهم لأزواجهم، أو منعزلين عن المجتمع بعد التقاعد بلا نشاط ولا حركة... هؤلاء قد شاخوا بشكل سريع، وفقدت أجسامهم المقاومة ضد المرض، فماتوا بعد فترة قصيرة.
جسم صحيح ونفسية سليمة
ومن المعروف والملاحظ، أن الأفراد الذين يقومون بشؤونهم الخاصة بأنفسهم، ومن يعملون في سبيل غاية مثالية كأن يكونوا أعضاء في مؤسسات خيرية، ومن درجوا على القيام بنشاطات يومية منذ شبابهم في مواعيد معينة دون إهمال، ولم يقتربوا من المواد والعادات المضرة مثل التدخين والخمر والقمار، وقللوا من طعامهم دون إخلال ببرنامج الغذاء المنتظم، وابتعدوا كذلك عن النزاعات العائلية... هؤلاء نعموا بجسم صحيح ونفسية سليمة مستقيمة، كما نجحوا في ضبط التوازن بين الجزيئات المدمرة وآليات الإصلاح بصورة مثالية، وكان لذلك الفضل الكبير في التخفيض من سرعة عجلة الشيخوخة عندهم.
هذا ومهما أُخذت التدابير اللازمة، فقد يفاجأ الإنسان بأمراض تحدث في جسمه انهيارات فادحة تلعب دورًا كبيرًا في انتشار آثار الهرَم في الجسم، إلا أنه ينبغي أن نميِّز هذا من الهرَم الطبيعي.
معظم الباحثين يسلّمون أن الوقوف في مواجهة ظاهرة الهرَم أمر مستحيل، أما الدراسات التي تجرى حولها فهي محاولات للعثور على إجابات لأسئلة ملحة مثل "كيف نقضي شيخوخة قليلة المعاناة؟ أو كيف نختم حياتنا الدنيا بسلام؟".
ــــــــــــ
(*) الترجمة عن التركية: نور الدين صواش
المصدر : مجلة حراء التركية.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين