كذبة أول نيسان عادة أجنبية فاسدة:

هذه مقالة قديمة لشيخنا العلامة الجليل الفقيه الكبير الأستاذ مصطفى الزرقا، وهي من جملة المقالات النادرة التي قام على جمعها وتصحيحها وإعدادها للطباعة من تراث الشيخ مصطفى الزرقا الأستاذ الشيخ مجد مكي وفقه الله وبارك في عمره وعلمه وعمله ونفع بجهوده العلمية وحقق آماله وبلَّغه سؤْله في خدمة العلم وإحياء تراث علماء الأمة ، وقد قام بصفها وإجراء التعديلات عليها الأستاذ طارق قباوة ، وقد رأينا تقديم هذه المقالة بمناسبة اقتراب أول نيسان ،وهي في الأصل حديث إذاعي أذيع في يوم الاثنين 2 نيسان 1951:بمناسبة أول نيسان)

  كذبة أول نيسان عادة أجنبية فاسدة:

 مستمعيَّ الكرام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

 فقد حلَّ البارحة اليوم الأول من نيسان، وجاء بمجيئه موسم أقبح عادةٍ من العادات الأجنبية الفاسدة، وهي كذبة أول نيسان.

 وقد دار البارحة دولاب الأكاذيب من كل فن ولون، وبشتى الوسائط بالأخبار الشفهية، والرسائل الكتابية، والهواتف والبرقيات، والصحافة، بل والإذاعات اللاسلكية أيضاً.

 فقد تولت الإذاعات العربية والأجنبية نقل أخبار هذه الكذبة بين الناس، وعلى أنها من طرائف الأخبار.

 وقد كنتُ نبَّهت في مناسبة سابقة إلى أخطار هذه العادة، وأضرارها في الحياة الاجتماعية، وأوزارها في النظر الديني، والآن بمناسبة أخبار أكاذيب البارحة، وبناءً على طلب عدد من الأصدقاء المتألمين أعود إلى التنبيه بياناً لمحاذير هذه العادة السيئة.

 انتشار عادة الكذب في أول نيسان:

إن عادة الكذب في اليوم الأول من شهر نيسان، تزداد انتشاراً سنة عن سنة في بلادنا، وتتفشى كما تتفشى بقعة الدهن في الورق، حتى إن الإنسان يكاد لا يسمع في اليوم الأول من نيسان إلا أخبار هذه الأكاذيب وحوادثها وأحاديثها، وتبقى لها ذيول تمتد إلى أواخر نيسان، وتجري على كل لسان لأن من كذابي أول نيسان أناساً غائبين يرسلون بأكاذيبهم من بلاد بعيدة إلى أهليهم وأصدقائهم، فلا تصل تلك الأكاذيب إليه إلا بعد مدة من دخول نيسان وانقضاء موسم الكذب المحلي، فيقعون في الشَّرَك وتنفذ الكذبة، وتعمل عملها فتوقِد النار، وتلهب الديار، وقد تقيم المآتم والأحزان، وتذهب بالألباب، حتى يُنبَّه القوم إلى تاريخ الرسالة فإذا هو أول نيسان، وإذا بالخبر كذب مستعار من الحضارة الأوروبية وتقاليدها الاجتماعية.

 ولم تبق كذبة نيسان محصورة في نطاق الأفراد من أصدقاء وأقارب، بل أصبحت لدينا أسلوباً بارعاً من أساليب الصحافة يرتبه بعض الصحافيين ويتقنونه ويتفننون فيه فيذيعون الأخبار العامة المكذوبة، ويعلنون عن أخبار الوقائع والأحداث ما يضطرب له الرأيُ العام ويختبط، ثم يتبيَّن أن تلك الأخبار أكاذيب تحمل تاريخ أول نيسان.

 وقد أصبح كثير من الناس يحسبون حساباً لأول نيسان، فلا يقابلون أحداً ولا يتقبلون خبراً هاتفياً في أول نيسان خوفاً من أن يفاجأوا بفخٍ منصوب، وأمر ملعوب، ولاسيما في الأحاديث الهاتفية فإن الهواتف الآلية أصبحت من أهم الأحابيل في أكاذيب نيسان.

 أذكر إنني هتفتُ بالهاتف إلى منزل أحد أصحابي في الصباح، فأجابني بعض الأسرة جواباً لا يفهم منه أنَّ رب البيت موجود أو غائب، ثم جعل المجيب يستنطقني عن اسمي ومقصودي من المكالمة حتى أزعجني، وقلت له بشيء من النزق: إن لي مع فلان حديثاً خاصاً فإذا لم يكن موجوداً فقولوا لي حتى أعود لمكالمته في وقت آخر، فكان جوابهم أن قالوا: نحن نعلم أن اليوم هو أول نيسان، فإذا كان في فكرك شيء فنحن منتبهون!!

 عندها أدركت السبب وزال العجب، وكنت في غفلة عن التاريخ، فلو لم يُنبِّهوني لما كنت ذاكراً في أيِّ يوم من الشهر ذلك اليوم، فأوضحتُ لهم اسمي ورجوتهم أن يذكروا لربِّ البيت الاسم، فهو يعلم أني لست من كذابي أول نيسان، ويحضر لمكالمتي، وهكذا كان!

 تطوُّر كذبة أول نيسان:

العجيب أن كذبة أول نيسان قد تطوَّرت لدينا واعتراها ما يعتري الكائنات الحَّية من سنة النشوء والارتقاء، شأن سائر المفاسد الاجتماعية التي تنتقل بالتقليد الأعمى فتصل لدى المقلِّدين إلى حدود لا تصل إليها الجراثيم المرضيَّة التي تنتقل إلى بيئات أخرى فتصادف وسطاً أكثر ملائمة من بيئتها الأصلية، فقد أصبحت كذبة نيسان لدينا لا تقتصر على الأخبار، بل تتناول القروض والديون، فكثير من الأشخاص يستقرضون أموالاً من جيرانهم أو بعض معارفهم في أول نيسان ثم يمتنعون عن وفائها بحجة أول نيسان، إذ يَرَوْنَ أنها كالرهان للغالب!! وهكذا يأكلون بسيف الحياء مستغلين غلاظتهم وثقالتهم.

 وغنيٌّ عن البيان أنه إذا كانت كذبة أول نيسان كثيراً ما تنطوي على فكاهات ومُلح لدى بعض الناس فإنها أيضاً كثيراً ما تنفخ في نار، و يكون لها أسوأ الآثار في إثارة الأوهام ثم في قطيعة الصداقات والأرحام.

 منشأ هذه المفسدة الاجتماعية القبيحة:

وبهذه المناسبة نبين للسامعين منشأ هذه المفسدة الاجتماعية القبيحة أعني عادة استباحة الكذب في أول نيسان.

 إن هذه العادة السيئة إفرنسية الجنسية، نبتت في فرنسا في القرن السادس عشر الميلادي، وانتقلت منها إلى سائر أوروبة، ثم انتقلت في العصور الأخيرة إلى المتفرنجين من الشرقيين، وأخذت تعمُّ الأسر والنوادي والصحافة، حتى بلغت ذلك المبلغ الكريه الذي نشاهده اليوم.

 وهذه الكذبة النيسانية تسمى عند الأوروبيين: سمكة نيسان، فيطلق هذا الاسم أعني سمكة نيسان في الأصل على أكاذيب مفرحة سارة تستعمل في اليوم الأول من نيسان.

 والمناسبة التاريخية التي أنشأتها هي أنه قد صدر مرسوم ملكي من ملك فرنسا شارل التاسع يقضي بنقل مبدأ السنة الرسمي إلى أول كانون الثاني بعد أن كان في أول نيسان.

 وبذلك أصبحت هدايا عيد رأس السنة تقدم في اليوم الأول من كانون الثاني، أما في أول نيسان فقد صاروا يتبادلون التهاني الهزلية عوضاً عن الهدايا.

 ثم تجاوزوا حدَّ التهاني الهزلية فأصبحوا في فرنسا يتهادون في أول نيسان على سبيل التسلية والفكاهة بهدايا كاذبة من الأشياء التافهة تُستر بغلافٍ يُوهم أنها هدية، فإذا كشفت تبين فيها الهزل والإيهام، ثم انتقلت هذه العادة إلى صورة أخرى، فأصبحت في أول نيسان تنزل رسائل وأخبار مكذوبة لا أصل لها.

 وبعد فشوِّ هذه العادة وشيوعها، التمسوا لها تسمية تتناسب معها، وإذا كان هذا اليوم مبدأً تاريخياً للدورة السنوية التمسوا له تسمية فلكية، فلوحظ أن الشمس في شهر نيسان تنزل برج الحوت في الاعتبارات الفلكية، لذلك سمَّوا هذه الألاعيب باسم أسماك نيسان: Poisson d’avril

 ومن الأمثال الفرنسية في ذلك اليوم قولهم: (صُنع لفلان سمكة نيسان) بمعنى: أنه قد أوقع في فخ من الأكاذيب الساخرة.

 ومن ثم كانت هذه الهدايا الساخرة والشوكولاته في أول نيسان تقدَّم في أوروبا غالباً على صورة سمكة.

 ملك فرنسا شارل التاسع:

وبهذه المناسبة نشير إلى أن ملك فرنسا شارل التاسع الذي ترتَّبت كذبة نيسان على مرسومه بنقل رأس السنة إلى أول كانون الثاني قد تولى عرش فرنسا في 1560م.

 وهذا الملك هو الذي أمر واشترك بمذبحة برته لمي المشهورة التي تعدُّ لطخة سوداء في تاريخ فرنسا، وهي المذبحة التي ذبح فيها نحو ستين ألفاً من البروتستانت بأمر الملك تنفيذاً لإرادة والدته، ثم قيل: إنه مات بعد ذلك فريسة الندم وتأنيب الضمير. هذا أصل هذه الكذبة في التاريخ.

 تحريم الكذب في شتى صوره:

إن كذبة نيسان هي من المفاسد التي لا يسمح بها الإسلام وتعاليمه، فإذا أمكن أن تجد منفذاً وسماحاً في بيئة من البيئات، فإنها لا ينبغي أن تجد متسعاً لها في بيئة إسلامية.

 إن تعاليم الإسلام تحرم الكذب في شتى صوره حتى في المزاح، ومما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أن امرأة أرادت أن تسكت طفلها فوعدته بإعطاء شيء، فسألها النبي صلى الله عليه وسلم: هل تعطيه حقاً أو لا ؟ فقالت: نعم، فأفهمه أنها لو كانت تنوي خديعته لكتبت عليها كذبة

 وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم من شمائله الكريمة أنه يمزح ولا يقول إلا حقاً

 فهذه الاستهتارات التي يتلقاها الناس اليوم على سبيل التقليد الأعمى للعادات الفاسدة الأجنبية هي من المحرمات الشديدة في نظر الإسلام.

 وإن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن حطَّم أصنام العرب في غزوة الفتح وقف في حجة الوداع يعلن لهم في كلمته المأثورة: "أيها الناس إن الشيطان قد يئس من أن يُعبد في أرضكم هذه، ولكنه يرضى منكم بما تحقرون من أعمالكم"

 فاتقوا الله أيها المؤمنون، ولا تقلدوا هؤلاء الأجانب المفسدين في الأرض، ولا تتخذوا منهم قدوة لكم في مآثمهم. فالله تعالى يقول: [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] {الأحزاب:21}.

 واجتنبوا هذه الأكاذيب الهزلية في نيسان وغير نيسان، فإن الجريمة لا تباح في يوم وتحرم في يوم، وإذا كنتم تستهينون بهذه الكذبة التقليدية فكم لها فيكم من ضحايا، واذكروا قول الله تعالى:[وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ] {النور:15}.

 والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

------------------ 

1 ـ الاثنين 2 نيسان 1951، ثم أذيعت مساء الاثنين 9 نيسان 1951 ، الموافق 2 رجب 1370 هـ

2 ـ إشارة إلى الحديث : عن عبد الله بن عامر، أنه قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتنا وأنا صبي، قال: فذهبت أخرج لألعب، فقالت أمي: يا عبد الله تعال أعطك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وما أردت أن تعطيه؟ " قالت: أعطيه تمرا، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما إنك لو لم تفعلي كتبت عليك كذبة ". رواه أبو داود (4991)، وأحمد (15702)، وقال مخرجوه: حسن لغيره.

3 ـ إشارة إلى الحديث: قالوا: يا رسول الله، إنك تداعبنا، قال: "إني لا أقول إلا حقا " رواه الترمذي (1990) وقال: حسن، وأحمد (8481)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

 4 ـ رواه الحاكم (318) وقال: وقد احتج البخاري بأحاديث عكرمة واحتج مسلم بأبي أويس، وسائر رواته متفق عليهم، ووافقه الذهبي، عن ابن عباس رضي الله عنهما.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين