عبد العظيم عرنوس
كم يا ترى كان عدد المسلمين منذ غزوة أحد إلى فاجعة بئر معونة ، لا شك أن عددهم كان قليلا بالقياس إلى عدد الشهداء الذين قضوا نحبهم في هذه الفترة الوجيزة ، مائة وخمسون شهيدا ارتقوا إلى ربهم فرحين مستبشرين بما آتاهم الله من فضله ، سبعون شهيدا في أحد ، وعشرة شهداء في فاجعة الرجيع ، وسبعون شهيدا من فضلاء الصحابة من القراء في فاجعة الغدر اللئيم في بئر معونة ، كم خلف هؤلاء من أرامل وأيتام ؟ وكم خلفوا من أب مكلوم وأم ثكلى ، وكم من دموع حرى ذرفت على فقدانهم . هذا العدد يعتبر بالنسبة لعدد المسلمين وقتئذ هائلا وكبيرا جدا ، والمصيبة بفقدانهم - والإسلام لم يستو على سوقه بعد - موجعة ، فما كاد المسلمون يضمدون جراحاتهم وآلامهم بعد أحد حتى نُكأت الجراحات مرة أخرى في الرجيع وبئر معونة ، لقد خلفت هذه المواجع في نفس النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته آثارا غائرة خصوصا فاجعة قراء الرجيع السبعين الذين قتلوا غدرا في مجزرة رهيبة دنيئة تدل على خسة فاعليها ، مما جعل النبي صلى الله عليه وسلم يقنت شهرا متتابعا في الصلوات الخمس ويؤمن على دعائه من خلفه ، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على فداحة المصيبة وكارثية الفاجعة وعظم المصاب وشدة الألم ؛ لكن كل ذلك لم يفت في عضد المسلمين ولم يثن عزمهم في مواصلة الدعوة والبذل والتضحية خدمة لدين الله ؛ لأن مصلحة الدعوة أهم من الأنفس والدماء ؛ بل إن الدعوة لا تنتصر إذا لم تهراق الدماء الزكية التي تضمخ بعبقها وأريجها جسم الدين والعقيدة ، إن هذه الحوادث نماذج من التضحيات الهائلة التي قدمها الصحب الكرام ليسقوا بدمائهم شجرة الإسلام الطيبة حتى تؤتي أكلها بإذن ربها نصرا وعزة وكرامة وفتحا مبينا .
وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين * وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لما ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين * فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين ..الله أكبر .. ثواب الدنيا رفقة ثواب الآخرة وفوق ذلك محبة الله جزاء على إحسانهم ، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان .. إن كل المصائب والفواجع والآلام تتوارى حياء أمام هذا الفيض الرباني ، وحيال رفرفة المحبة الربانية ، إنه الكرم والجزاء الذي لا يعادله جزاء .
يا أهلنا ويا إخواننا ويا أحبتنا في سوريا يا من قمتم في وجه أعتى طاغوتيؤزه طواغيت على شاكلته في الإجرام ، يا من وقفتم شامخين كالطود الأشمالراسخ في وجه الأعاصير المائجة من شياطين الإنس والجن تستعيدون الحرية والعزة والكرامة ،ويا من ترابطون على ثغور الإسلام في بلاد الشام ، لئن كنتم قدمتم وبذلتم وفقدتم الأحبة والخلان وأخرجتم من دياركم وسلبت أمولكم وهدمت بيوتكم وسالت دماؤكم الطاهرة ، فلكم سلف في النبي وصحابته ، فها هو النبي وصحبه فقدوا أكثر مما فقدتم ، وقدموا أكثر مما قدمتم ، وأخرجوا من ديارهم وأموالهم كما أخرجتم من دياركم وأموالكم .. وهذه سنة الله في الدعوات والرسالات .
إن استعادة الحرية المسلوبة تحتاج لثمن ، وقد دفعتم الثمن وقبضتم الأجر وأديتم ما عليكم ، ما دمتم قد أديتم ما عليكم فإن الله يؤدي ما عليه ، فالله لا يخلف الميعاد ، والجزاء مضمون عند الله .. روى الحاكم عن عثمان رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة يقام ليلها ويصام نهارها .. هذا ثوابكم يا أيها الثوار الفضلاء .. ألا تتضاءل أمام الثواب التضحيات ، وتهون المصيبات .
يا أيها الثوار المرابطون على ثغور الحرية ، الحارسون للحرمات والأعراض في أرض الشام التي أصبحت أرض خوف ، هنيئا لكم ثواب حراستكم .. روى الحاكم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ألا أنبئكم بليلة أفضل من ليلة القدر ؟ حارس حرس في أرض خوف لعله أن لا يرجع إلى أهله
اعطوا ضريبتهم للدين من دمهم ** والناس تزعم نصر الدين مجانا
عاشوا على الحب أفواها وأفئدة ** باتوا على البؤس والنعماء إخوانا
الله يعرفهم أنصار دعوته ** والناس تعرفهم للخير أعوانا
لا تظنوا أنكم وحدكم في الميدان فإن الله معكم ، والملائكة تثبتكم ، ووراءكم أمة من المؤمنين في كل الأرض قلوبها معكم تتوجع لمصابكم وتتألم لآلامكم ، وألسنتها تلهج بالدعاء لكم .
ولقد اتصلت أسباب الأرض بأسباب السماء ، وما هي إلا لمحة خاطفة كلمح بالبصر ، فإذا الباطل زهوق ، وإذا النصر يتنزل كالبروق .. نعم لقد استأجركم الله ، وقمتم بحق الإجارة ، وقبضتم الثمن ، وكما قال الشهيد سيد قطب : أجراء عند الله أينما وحيثما وكيفما أرادهم أن يعملوا ، عملوا وقبضوا الأجر المعلوم ! وليس لهم ولا عليهم أن تتجه الدعوة إلى أي مصير ، فذلك شأن صاحب الأجر لا شأن الأجير .
وايم الله إنا لنغبطكم على اختيار الله لكم لتصنعوا لهذه الأمة مجدها ، وتعيدوا لها حريتها ، ونعم هذا الاختيار ، وإنه لذكر وشرف لكم أن تكونوا أهلا لهذا الاختيار الرباني ، فالله لا يصطفي للمهمات العظيمة إلا العظام .. فامضوا في طريقكم ثابتينعلى الدرب ففي الكون شموس وأقمار وآمال .. وارتقبوا النصر فإنه قريب قريب
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول