إنَّ التشبهَ بالكرامِ فلاحُ

 د. محمود نديم نحاس

اخترت عنواناً لمقالي شطراً من بيت الشعر:
 
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم=إنَّ التشبهَ بالكرامِ فلاحُ
 
وذلك بعد أن قرأت ما أورده الماوردي في كتابه (أدب الدنيا والدين) حيث قال: (قالت ابنة عبد الله بن مطيع لزوجها طلحة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، وكان أجود قريش في زمانه: ما رأيت قوماً أشدَّ لؤماً من إخوانك! قال: مَهْ! ولِمَ ذلك؟ قالت: أراهم إذا أيسرتَ لزموك، وإذا أعسرتَ تركوك! فقال لها: هذا والله من كرم أخلاقهم! يأتوننا في حال قدرتنا على إكرامهم، ويتركوننا في حال عجزنا عن القيام بحقهم!).
 
وقد علّق الماوردي على القصة بقوله: (فانظر كيف تأوّل بكرمه هذا التأويل حتى جعل قبيح عملهم حسناً، وظاهر غدرهم وفاءً. وهذا محض الكرم ولُباب الفضل، وبمثل هذا يلزم ذوي الفضل أن يتأوّلوا الهفوات من إخوانهم).
 
فأين هذا القول من قول أحدنا اليوم: سوء الظن من حسن الفِطَن؟ والتي تعني حمل تصرف الآخرين على أسوأ تفسير، واعتقاد ذلك في القلب, فينعكس ذلك على أسلوب التعامل معهم, والتفكير بإلحاق الضرر بهم كنوع من الدفاع عن ما يخالجنا من ظنون.
 
هل سوء الظن مرض أم ظاهرة صحية؟ القرآن يأمرنا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ، إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ. وَلا تَجَسَّسُوا، وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا. أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ. وَاتَّقُوا اللَّهَ. إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ)، والحديث يحذّرنا (إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا). فالظن هو اتهام الناس وتخوينهم فِي غَيْر مَحَلِّه. وروى الحسن البصري (ثلاث لم تسلم منها هذه الأمة: الحسد، والظن، والطِّيَرة. ألا أنبئكم بالمخرج منها؟ إذا ظننت فلا تحقق، وإذا حسدت فلا تبغ، وإذا تطيّرت فامضِ). فما أجمل هذه الوصفة في عدم المضي في التحقق مما قد يقع في نفوسنا من ظن، لأَنَّ بَعْض ذَلِك إِثْم مَحْض فنتجنّب كَثِيراً مِنْهُ اِحْتِيَاطًا. وهناك وصفة أخرى من أمير الْمُؤْمِنِينَ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ حيث قَالَ: (ولا تَظُنَّنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَخِيك الْمُؤْمِن إِلا خَيْرًا وَأَنْتَ تَجِد لَهَا فِي الْخَيْر مَحْمَلاً).
 
والإنسان سيّء الظن قلبه مظلم وممتلئ بالظنون السيئة تجاه الناس حتى يطفح على لسانه وجوارحه في الهمز واللمز والطعن واللعن والعيب والبغض والريبة.
 
وهل هناك فرق بين سوء الظن والحذر؟ نعم فالفرق كبير، فالحذر هو الأخذ بالأسباب التي تنجي من المكروه. وهو ضروري للإنسان للاحتراز من كل مكروه قد يصيبه. فكلنا يقفل باب داره إذا غادره أو أراد النوم، فهل في هذا سوء ظن بالناس أم احتراز من اللصوص؟ سألني طالب مرة: لماذا تسيء الظن بنا فتفرقنا عن بعضنا في الاختبار؟ قلت: لست أسيء الظن ولكن لابد من اتخاذ الأسباب لمنع الغش في الاختبارات! وأردفتُ: ألست موقناً بأن السارق سوف تُقطع يده؟ قال: نعم. قلت: فلماذا تقفل سيارتك عندما تتركها في الموقف؟
 
إن الحذر من الوقوع في المحذور أمر ضروري. والأمر القرآني (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) فيه دلالة واضحة على ضرورة الحذر في مثل هذه المواقف، لأن عدم الحذر هنا قد يؤدي إلى إدانة آخرين وهم أبرياء. وهنا تنفع الفطنة والذكاء فى التعامل مع الأخبار ورواتها، ومع الوشاة الذين لا هم لهم إلا محاولة الإيقاع بالناس أو بين الناس. ويقول عمر رضي الله عنه (لست بالخَبِّ ولا الخَبُّ يخدعني). والخب هو الخدّاع الخبيث. ولقد حثّنا القرآن على كتابة الدَّيْن بحضور الشهود (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ... الآية)، وهذا من باب التوثيق وليس من باب سوء الظن بالمستدين.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين