مستقبل العالم الاسلامي ـ1 - مستقبل الاسلام
نقدم لقرائنا الكرام بحثاً وافياً للدكتور أحمد علي الإمام حول مستقبل العالم الإسلامي، وفيه وقفة مراجعة وتقويم حول واقعنا الثقافي، ثم حديث عن تحديات الحضارة المعاصرة، وتميز الحضارة الإسلامية عن الحضارة الغربية ، ثم حديث عن خطر الصراع بين الحضارة الإسلامية ، والحضارات الأخرى، وطريق توجيه الصراع الحضاري وتحويله ، ثم مقارنة في عناصر الإيجاب والسلب في مواقفنا ومؤسساتنا الثقافية ، وفي كلامه عن أوجه السلب والقصور في تقويم مواقفنا ومؤسساتنا الثقافية تكلم عن هجر القرآن في واقعنا المعاصر في صور ثلاث.
        ثم تكلم عن دور التنمية الثقافية في التنمية الاجتماعية والاقتصادية الشاملة لينتهي من بحثه الضافي الممتع إلى مستقبل الثقافة الإسلامية في وجه التحديات ، فيستعرض البشائر القرآنية والنبوية وإرهاصات المستقبل.
        والدكتور أحمد علي الإمام ولد بمدينة دنقلا في شمال السودان 1364هـ ـ 1945م وتخرج في جامعة أم درمان الإسلامية، وحصل على إجازة الدكتوراه من جامعة ( أدنبره) ببريطانيا في علوم القرآن، وعمل محاضراً في جامعة أم درمان، وشارك في عدد من المؤتمرات والندوات، وله عدد من الأبحاث والدراسات في اللغتين العربية والانجليزية، وهو يعمل حالياً مديراً لجامعة القرآن والعلوم الإسلامية في السودان.
 
بشائر مستقبل العالم الإسلامي في وجه التحديات الحضارية المعاصرة
الدكتور أحمد علي الإمام ‏
دورات الصراع والتداول الحضاري:
منذ بزوغ فجر الرسالة، والإسلام يعيش في دورات من الصراع، والتداول الحضاري.. يواجه التحديات الثقافية والاجتماعية، ويتفاعل مع التجارب الإنسانية من حوله.
يدافع الكفر، ويدعو لتحرير العباد، وتنمية المجتمعات، ويجادل بالحسنى، متميزاً بعقيدته، وشموخ بنيانه الحضاري المتفرد.
وقفة مراجعة وتقويم:
والوقوف على التحديات، المعاصرة منها، المستقبلية، يقتضي وقفة مراجعة وتقويم، لمواقفنا، ومؤسساتنا الثقافية، فنبيّن عناصر الإيجاب، التي اكتسبتها، وننبه على أوجه السلب والقصور، التي لحقت بها، حتى يستقيم أمرها، وتعتدل في وجه التحديات الحضارية المعاصرة.
واقعنا الثقافي السلبي والإيجابي:
ولعل من عناصر الإيجاب في ثقافتنا، ذاك الاهتمام بالرصيد الهائل من المسلمين- علماً نظرياً، وعملاً تطبيقياً- في مجالات العلوم، والمعرفة، والثقافة، وما صاحب ذلك اجتهاد فقهي متجدد، يحيط بالواقع، ويسعى لمواجهة المشكلات المستجدة.
 وفي مقابل هذا الكسب الإيجابي، فإن واقعنا الثقافي اليوم، يعاني من مشكلات التبعية والتقليد، والفهم القاصر للذات، وجهود سلفنا العظام، فهماً لا يبلغ الشمول والتكامل، ولا يراعي الوحدة الموضوعية في شرح النصوص، ويهمل متغيرات الحاضر والعصر..
كما أن بعض المؤسسات الفكرية والثقافية، وبعض أفرادنا وجماعتنا، انحرفت وراء الغرب، تنادي بتجزيء الإسلام وتبعيضه، بين إسلام أصولي، وإسلام سياسي، وإسلام صوفي، وتفصل بين الدين والسياسة، وتخذل روح الجهاد، والاجتهاد، متناسية أن الدين كلمة شاملة، جامعة للمعاني العملية، التي تقيم الحياة الدنيا والآخرة.
وإذا كان المسلمون قد عانوا من الغفلة لقرون مضت، ثم انتبهوا، فإن الصحوة الراهنة، قد جلبت عليهم عداءً متصاعداً، وأدخلتهم في دائرة صراع جديد، شكلاً ومضموناً، وقد يكون المطلوب هنا، أن نسعى لنقل هذا الصراع المتصاعد، إلى دائرة الحوار، وأن نبادر إلى فهم الغرب، وأساليبه، وأن نعد العدة.
والثقافة الإسلامية، وسيط اجتماعي فاعل، وحي، يسهم في تحقيق التنمية الشاملة، ويؤسس لنهضة جديدة للحضارة الإسلامية، التي هي حضارة أمة منتجة، عاملة...معتنية بالتنمية، والاعتماد على الذات.. حضارة أمة تعتقد جازمة، بما تواتر لديها من الأدلة، والنقول، والإرهاصات، أن لها المستقبل كله ظهوراً، وانتشاراً، وأن عاقبة أمرها النصر والتمكين.
تحديات .. وتميز
مقدمة في تعريف التحديات الحضارية المعاصرة وتميز الحضارة الإسلامية

1- مفهوم الحضارة:
الحضارة، في تعريف بعض الباحثين في علوم الحضارة، تعني العمران، والإنتاج الثقافي، والنظام الاجتماعي، فهي كما عرفها ابن خلدون:(أحوال عادية، زائدة على الضروري من أحوال العمران)، زيادة تتفاوت بتفاوت الرفه، وتفاوت الأمم، في القلة والكثرة، تفاوتاً غير منحصر..). أو كما عرفها ول ديورانت هي :نظام اجتماعي، يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي. وقد درس الدكتور أبو زيد شلبي التعريفيين، واستخلص منهما أن الحضارة هي:
(مدى ما وصلت إليه أمة من الأمم، في نواحي نشاطها الفكري، والعقلي، من عمران، وعلوم، ومعارف، فنون، وما إلى ذلك، والترقي بها في مدارج الحياة ومسالكها، حتى تصل إلى الغاية التي تواتيها بها أحوالها، وإمكانياتها المختلفة).
2- الحضارة الإسلامية:
والحضارة الإسلامية، ذات نسب عريق في الحضارات، سبقاً، ورسوخاً، وشمولاً، ومحتوى، لكونها بحكم نسبتها إلى الإسلام، متسمة بالخلود، ولا تزال آثارها المادية والمعنوية باقية، وإسهاماتها في الحضارة الكونية، والنهضة العلمية المعاصرة، ظاهرة.
وقد قامت الحضارة الإسلامية على ركن شديد من القيم الأصلية، الراسخة والحارسة، لأسباب الرقي البشري، والرعاية لكرامة الإنسان، وحرماته، من التوحيد والعدل، والإحسان، والمساواة، والإصلاح، والصدق، والعفاف، والأمانة، والعلم، والرحمة، والرفق، وحسن الخلق، والإخلاص، والتجرد، والعمل الصالح.

ولا عجب، إذ هي وليدة التربية الإيمانية، فردية وجماعية، بين مكة والمدينة، فأقامت صوراً مشرقة، حيث أقامت الحضارة الفكرية، التي ظهرت في تأليف العلماء، المبثوثة في الأنحاء، وقد سبقت غيرها في أبحاث العلوم الشرعية، والاجتماعية والطبيعية، واللغوية، مع العناية بالعمران، والجمال التوحيدي، في المساجد، والجامعات، والمداس، والقصور في المدن الإسلامية العريقة، في مشارق العالم الإسلامي، ومغاربه، وأسست أركاناً، وقوائم راسيات للعلم التجريبي، اعتمدت عليها المؤسسات والجامعات الأوربية، وقامت عليها النهضة العلمية المعاصرة.
3- بين الحضارة الغربية المعاصرة والحضارة الإسلامية:
(أ) الحضارة الغربية في الأساس، حضارة صناعية تقنية، فاقدة للتقوى، توحلت إلى حضارة استكبارية باطشة، تركت الجدال بالحسنى، وجاءت للناس على متن المقاتلاتـ والمدرعات، تمشي بينهم بالتقتيل، والتشريد، والاضطهاد، والإبادة، ويشهد لذلك الحرب العالمية الأولى، والثانية، وأخيراً، النظام العالمي الجديد.
أما حضارة الإسلام، فتقوم على الجمع بين التقوى والتقنية، دون تعارض أو تنافر.
(ب) والحضارة الغربية، من ناحية أخرى، تقوم على تمجيد العقل، والاعتماد عليه وحده، بينما تقوم الحضارة الإسلامية على التوفيق بين العقل والوحي، فليس فيها خصام، أو فصام بين الدين، والعلم، كما كان في أوربا، بل يتواءم العلم والإيمان: الإيمان القائم على العلم.. والعلم المؤمن، الداعي للإيمان.
(جـ) الحضارة الإسلامية، تقوم على السلام العالمي، والأمن الداخلي، كما في قوله تعالى : (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم) (الأنفال:61) (لا ينهكم الله عن الذين لم يقتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ) (الممتحنة:8).
وفي الحديث النبوي :(المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ) و(… المؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم ).
بل تتجاوز حضارة الإسلام ذلك، إلى الاتساق، والانسجام، والتوافق، والتوازن، مع نظام الكون والحياة، والإنسان، حيث أن الحقيقة الدينية في خلق الإنسان وتمام إسلامه: اعمار الكون، بالصلاح، والفلاح، بعد تسخيره له:(الله الذى سخر لكم البحر لتجرى الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون * وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) (الجاثية :12-13).
(د) يتجلى هدى الإسلام، في تسخير الكون للإنسان، ليؤدي شكر النعمة، بينما تسعى الفلسفة المادية، لتسخير الإنسان، وتعبيده للكون، وظاهر الحياة الدنيا.

ومهما يكن من أمر، فإن الصراع بين حضارة الإسلام، وحضارات غيره، صراع مستمر، إلا أن الحقيقة، التي يجب أن تبقى ناصعة، واضحة، بينة، هي أن العاقبة لأهل التقوى، والبقاء للحق، والخير، والبر وما ينفع الناس :(فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) (الرعد:17).
الخطر المخيف:
خطر الصراع بين الحضارات الإسلامية والحضارات الأخرى، يكون محدوداً لو بقي المسلمون معتصمين بدينهم، متميزين بأصالتهم، ولكن فقدان هذا، هو النذير بالخطر، لأنه يعني فقدان الانتماء والإحساس بالذات.. والسلمون إنما يدركون ذاتهم من طريقين:
(أ) من طريق وحدتهم، التي تكونها المفاهيم، والتعاليم، والقيم المشتركة.

(ب) ومن طريق مخالفتهم للآخرين، والتي تنشأ عن المغايرة، والمفارقة في الاعتقاد، والعبادة، والإخلاص.
وهذا التمييز والتمايز، الذي يجب أن يبقى، هو الأمانة التي تلقاها كل جيل عمن قبله، ولابد أن يحملها إلى من يجيء بعده، ليبقى مستعراً، متقداً، يواجه كل التحديات، والحضارات، على مر الأزمان، إلى يوم تبديل الأرض غير الأرض والسموات.
فإن فقد هذا الإحساس، وزال هذا التمييز، واجهنا خطراً أكبر، يتهدد أصالتنا، ويهد أركان بقائنا. ذلك الخطر، يتمثل في تقليدنا، وتبعيتنا للملل، والحضارات الأخرى، وقد حذر رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم من خطورة التقليد والتبعية لغيرنا، فقال :(لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذرعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه )، وقد ورد هذا الحديث بروايتين، بإحداهما :قالوا: اليهود والنصارى؟ وفي الأخرى قالوا: الفرس والروم؟ فأقرهم...
إذ حيث كان تقليدهم في العبادات، كانت الإشارة إلى اليهود والنصارى، وحيث كان تقليدهم في الحضارة، والثقافة، كانت الإشارة إلى الفرس والروم.

توجيه الصراع الحضاري:
قدر الله أن نكون أمة الرسالة الخاتمة، ولذلك فإن أعدى من عادانا، في الماضي، هم أهل الكتاب، ومن والاهم على هذه المعاداة، ممن قادوا حملات الحروب الصليبية، من العواصم الأوربية، على المسلمين، وهكذا كانت بداية الغرب في اتصاله بالعالم الإسلامي، عن طريق المواجهات العسكرية أولاً، ثم الإدارة الاستعمارية، أو الاستخرابية ثانياً، فأصاب المسلمين من جراء ذلك غزو عسكري سياسي، واستغراب فكري ثقافي، واجتماعي، ونهب اقتصادي.

ثم لما نهض المسلمون، وبدأوا مسيرة العودة إلى الجذور، عاد خصومهم للحرب العدوانية، بأوهى الأسباب والحجج، وبمعايير مزدوجة في التعامل، خاصة بعد اختفاء التحدي الذي كان يمثله الاتحاد السوفيتي، في مواجهة أمريكا، زعيمة النظام الرأسمالي.
وقد صارت هذه القوة العسكرية، هي سبيل الحضارة الغربية الأوحد في إسكات صوت المسلمين، إن طلبوا رقياً، أو سعوا إلى الالتزام بشريعتهم، أو أرادوا إصلاح حالهم، أو تحرير قرارهم، أو تصحيح انتمائهم، وذلك بعد ما كانت من قبل تستخدم قوتها الاقتصادية، ومعوناتها، وقمحها، في فتنة المسلمين، وصدهم عن سبيل الله.
هذه العلاقة بيننا وبين الغرب، علاقة متخلفة في الحوار الفكري، والصراع الحضاري، لذلك قد يكون المطلوب: العمل على توجيه هذا الصراع، من صراع العسكر، وتحويله، إلى صراع الحوار.. نصرفهم عن علاقة الحمية والقتال، إلى علاقة التحاور، والجدال بالحسنى، فإن استطعنا ذلك، نكون قد حولنا صراع الحضارات، من التقاتل، والتحارب حول الموارد، ورغيف العيش، إلى صراع حول الثقافة والتحاور.
غير أن هذا التحويل، وهذا التوجيه، يتطلب منا أموراً عدة، لعل أهمها:

(أ) تحديد القضايا والموضوعات، التي يصب عليها، ويدور حولها، الحوار.

(ب) الاجتهاد في تجديد وتقويم الوسائل، التي نقيم بها الحجة عليهم.
(ج) أن نهتم بالمثال، والأنموذج الفعلي، لا أن نعتمد مجرد المقال.
(د) أن نكون عالمين بما لدى غيرنا، وخصوصاً الدين المقارن، وقد سن لنا الرسول صلى الله عليه وسلم هذه السنة، فيما أخرجه الإمام أحمد عن عدي بن خاتم قال:(دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:(يا عدي أسلم تسلم )، فقلت: إني من أهل دين، فقال:(أنا أعلم بدينك منك )، فقلت: أنت أعلم بديني مني؟ قال (نعم، ألست من الركوسية، وأنت تأكل مرباع قومك ؟) قلت: بلى، قال : (هذا لا يحل لك في دينك ). قلت: نعم. فلم يعد بعد أن قالها، فتواضعت لها). الحديث(17)… وهو دال على أن العلماء المسلمين، ينبغي أن يكونوا أعلم بما عند المخالفين، وخاصة من ابتلى بهده المهمة.
(هـ) إعداد دعاة منا ممن عاش في الغرب، وعرف لغاتهم، ومصطلحاتهم، وطرائقهم في التفكير، ومداخلهم في التعامل، ليؤدوا مهمة الحوار، والتواصل الثقافي والحضاري.
(و) أهمية إعداد العدة، وامتلاك القوة، والتقدم العلمي، والتفرد الحضاري، والتمييز الأخلاقي، لنفرض على (الآخر) احترامنا، حتى يسمع كلامنا، بعد إزاحة العوائق التي يضعها بيننا وبينه، بل بيننا وبين قومنا.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين