حول حقوق المرأة  بقايا من رواسب الجاهلية

اتقوا الله في المرأة ، حديث شريف

الشيخ : أحمد الشرباصي
 
لعلَّ أخطر الأمور التي يأتيها الإنسان في حقِّ الدين أن يعطيَ نفسَه حق التحليل لما حرم الله تعالى، أو التحريم لما لحلل؛ لأنَّ هذا يعد تدخلاً في اختصاص الخالق جل جلاله : [أَلَا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ] {الأعراف:54}.
وإذا استباح الإنسان ـ كائناً من كان ـ أن يشرع للناس ما ليس من الدين ، فقد بلغ الأمر مبلغه من الفوضى والاضطراب.
ولقد نشرت الصحف أنَّ أحد الملوك قد طلَّق زوجته وفارقها منذ زمن، ولكنه يحرص على منعها من التزوج بأحد، ويشترط عليها ألا تتزوج حتى يتزوج هو ، ومتى يكون زواجه هذا ؟ الغيب يعلمه الله!.
وهذا يذكرنا بما فعله ملك طاغية من قبل، إذ طلَّق زوجته أيضاً في ظروف مؤسفة، ثم طلب من شيخ علم من شيوخ الإسلام أن يصدر له فتوى خاصة تقضي بتحريم زواج الملكة المطلقة من غيره، حتى لا يقال إنَّ فرداً من أفراد الشعب ـ مهما كان ـ قد تزوَّج الملكة ولو كانت ملكة سابقة!!.
إنَّ هذا يذكرنا بأن هناك مواريث ثقيلة من ظلم الرجال للنساء ، وتحكُّم الأزواج في الزوجات ، حتى بعد انفصام عروة الزواج ، بلا مسوغ من دين أو عقل . ولقد كانت هذه المواريث طاغية باغية في ظلمات الجاهلية ، فأقبل الإسلام العظيم الحنيف المنصف ليزيلها عن كاهل المرأة الرقيق الضعيف ، وبرغم هذا بقي هناك من الرجال من يحاول اتخاذ المرأة سلعة تباع وتشترى ...
لقد كان الطلاق في الجاهلية لا نظام له ولا ضابط، فالرجل يطلق المرأة ثم يُراجعها وهي في عدَّتها ، بلا عَدَد أو توقف ، وحدث أن قال رجل لامرأته في بدء الإسلام : والله لا أطلقك فتبيني ، ولا آويك أبداً ، قالت له : وكيف ذلك؟ قال: أطلقك فكلما همت عدتك أن تنقضي راجعتك... فذهبت المرأة المسكينة فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فنزل قوله تعالى:[الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ] {البقرة:229} .
وقال الإسلام لأتباعه: إذا أوقعتم الطلاق على المرأة لداع دعا إلى ذلك، وقاربت انتهاء العدة، فإما أن تعيدوها إلى عصمتكم برفق وطريق أليف معروف، وإما أن تخلوا سبيلها بمعروف، وإحسان، حتى تستطيع المرأة المطلقة التي انتهت عدَّتها زواج رجل آخر إذا أرادت ... يقول الله تعالى: [وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الكِتَابِ وَالحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] {البقرة:231}، وفي موضع آخر يقول مخاطباً الرجال في حسن معاملتهم لمطلقاتهم: [وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ] {الطَّلاق:6}.
ولقد كان من عادة الجاهلية الجهلاء أيضاً أن الرجل يعضل زوجته المطلقة، أي: يمنعها أن تتزوج غيره أنفةً منه ، وكبراً أن يرى امرأته السابقة عند رجل غيره، فكان يمنعها من الزواج، ويصدُّ عنها الأزواج بضروب من الصد والمنع، فجاء الإسلام فأبطل هذا الظلم وهذا الإجحاف، فقال الله تعالى : [وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ] {البقرة:232}.
فمن ذا الذي يريد أن يشارك الله في حكمه ليحلَّ حراماً أو يحرم حلالاً؟: [أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ] {المائدة:50}.
ومن المؤسف المؤلم أنَّه لا يَزال في أجزاء من بلاد المسلمين من يَعضل الفتاة قبل زواجها بصورة لا يَرتضيها دين ولا عقل، وذلك أن يكون للشاب بنت عم فيعلن أنه يريد زواجها، وقد لا يكون بينهما وفاق أو انسجام، وقد ترفض الفتاة زواجه لهذا العذر أو ذاك، فإذا حدث هذا؛ فإن التقاليد العتيقة المتعسفة تقف في وجه هذه الفتاة، فتصدها عن الزواج بأي شخص كان، فإما أن تتزوج ابن عمها ـ الحاكم بأمره ـ، أو أن تظل عانساً، بلا زواج حتى يتزوجها ابن عمها ...
ومتى يتزوجها؟ لا يدري ذلك أحد! وربما أصر على عدم الزواج نكاية فيمن رفضت التزوج منه!!
إن للمرأة ميلها الجنسي، ورغبتها الطبيعية في الرجال كرغبة الرجال في النساء، وليس بعيب من المرأة أن تطلب إرضاء هذه الرغبة بطريق مشروع سليم، بل إنه ليجب عليها إرضاء هذه الرغبة بالطريق المشروع إذا أيقنت أنها سترضيها بطريق غير مشروع .
وماذا تفعل فتاة جميلة شابة مترفة إذا طلقت وعاشت بلا رجل مثلاً؟ ألا يكون هذا مدعاة لسوء الظن والريب فيها؟ ألا يفتح هذا أبواب الانحراف والزلل أمامها؟
لو كان المطلق رجلاً عاقلاًً ومنصفاً لرحب بتزويج مطلقته طلاقاً نهائياً من زوج آخر ، بدل أن تبقى بلا زواج فتثور حولها الشكوك والتهم ، ثم يقول الناس عنها بالحق أو بالباطل: هذه مطلقة فلان تفعل كذا وكذا ، فيناله شيء من عارها وشنارها، ولو أنها تزوجت من بعده لنسبها الناس إلى زوجها الثاني وتركوا زوجها الأول: [وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] {الحشر:21}.
والإسلام يذكر في هذا الباب أنَّه متى انتهت عدة المطلقة، وانتهى علاقتها بزوجها الأول، فلا مانع يمنعها شرعاً ولا عقلاً من أن تتزوج بغيره، بل يكون ذلك في الغالب أستر لها وأصلح. والعامة تقول: ظلُّ الرجل ولا ظل الجبل! .
ولو كانت المرأة حاملاً من مطلقها، ووضعت حملها بعد ذلك انتهت عدتها، ولو كان الوضع بعد طلاقها أو موت زوجها بأيام، والله تعالى يقول: [وَأُولَاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ] {الطَّلاق:4}.
ولقد أفتى النبي صلى الله عليه وسلم امرأة ـ وهي سبيعة الأسلمية ـ بأنها حلَّت للزواج حين وضعت حملها، وكانت قد ولدت بعد موت زوجها بنصف شهر!
إنَّ الإسلام يُقرِّر أنَّ الزوج إذا طلَّق زوجته ثلاث تطليقات، وبانت منه بينونة كبرى؛ فإنَّها لا تعود إلى عصمته إلا إذا تزوَّجت غيره زواجاً صحيحاً، وطلقها أو مات عنها، وانقضت عدتها، وفي هذه الحالة يجوز له أن يراجعها، وجعل الإسلام ذلك تأديباً للرجل وتهذيباً، حتى يرعى حرمة الزواج، ولا يقدم على فصم عُقْدتِه فَصْماً نهائياً إلا عند الدافع الضروري الذي لا مفرَّ منه.
وكأنَّ الإسلام يريد أن يقول للزوج المطلاق: إنَّ الزوجة لم تكن زوجة كي تصير ألعوبة في يد زوجها، يطلقها كل حين، فيحرمها متعة اطمئنان الحياة الزوجية، واستقرار المعيشة المشتركة، بل كانت هذه الزوجة زوجة لتسعد بحياة زوجية، فيها إرضاء لحسها ونفسها، وقلبها وعقلها، فإذا تكرر من الزوج التطليق لها حتى بلغ ثلاثاً كان من حكم الله أنَّه يحرم عليه إعادتها إلى عصمته حتى تتزوج زوجاً غيره، وتحيا معه حياة زوجية صحيحة، وإذا فرضنا وطلقها الزوج الثاني ـ وهذا نادر ـ أو ماتَ عنها؛ فإنَّ الزوج الأول يجوز له بعد هذا أن يُعيدها إلى عصمته!.
ولا شكَّ أنَّ الزوج يَغار ويأنف أن تكون زوجته حليلة لزوج آخر، ومن أجل ذلك يجب عليه أن لا يعرضها لهذا الوضع، فإذا حدث هذا بحماقته أو بظروفه السيئة، فلا يجوز له أن يقف في وجه زوجته المطلقة، بل لها أن تتزوج غيره، ولا يجوز له هو ـ أي : الزوج الأول ـ أن يستردها ويعيدها إلى عصمته إلا إذا تزوجت بسواه!.
هذا، ولقد أباح الإسلام للرجل الراغب في زواج المرأة المتوفى عنها زوجها أو المطلقة نهائياً أو بلا رجعة، أن يعرض لها بحديث زواجه منها وهي ما زالت في العدة ، حتى إذا انتهت عدتها في زواجها ، يقول الله تعالى: [وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ] {البقرة:235} .
يقول القرطبي عند حديثه على هذه الآية: أي : لا وزر عليكم في التعريض بالخطبة في عدَّة الوفاة، والتعريض ضد التصريح، وهو إفهام المعنى بالشيء المحتمِل له ولغيره.
ويضرب المفسرون مثلاً للتعريض قول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس : كوني عند أم شريك، ولا تسبقيني بنفسك!.
وكذلك يروى أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأم سلمة رضي الله عنها ـ و هي متأيمة من أبي سلمة ـ : لقد علمت أني رسول الله ، وخيرته ، وموضعي في قومي. وقال أهل السنن كانت تلك خطبة!
وروت سكينة بنت حنظلة أن محمد بن علي ابن الحسين رضي الله عنهما استأذن عليها ولم تنقضِ عدتها من ملك زوجها فقال: قد عرفت قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرابتي من علي، وموضعي في العرب، فأجابت: غفر الله لك يا أبا جعفر! إنك رجل يؤخذ عنك، تخطبني في عدتي؟ فقال: إنما أخبرتك بقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن علي!. أي: أنه لم يصرح، وإنما اقتصر على التلميح.
وإنما أمر الإسلام بعدم الزواج أثناء العدة لكي يتحقق المطلوب منها وهو استبراء الرحم وما تعلَّق به ، وبعد تمام العدَّة يجوز للزوج الجديد أن يتم زواجه منها...
ذاك حكم الإسلام وفيه إنصاف للمرأة، وصيانة لحقها في الحياة ، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟! [وَاللهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الحِسَابِ] {الرعد:41} .
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
 
المصدر: مجلة الأزهر، المجلد الثلاثون، شوال 1378، الجزء العاشر.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين