نعمة المال والبنين شقوة على المنافقين والكافرين

الشيخ: عبد اللطيف السبكي

 
1 ـ عرض القرآنُ الكريم لذكر المال والبنين في كثير من مقاماته، والمفروض أنَّ للمال والبنين في قوام الدنيا، ومباهج الحياة شأناً لا يعدله شأن. وإذا كان مطبوعاً في غريزة الإنسان أنَّ الحياة أعز شيء يتعلق به، وأنَّ روحه أثيرة عنده على كل ما في الوجود: فإنَّ ما يلي ذلك في الأهمية عنده بحكم الغريزة هو ماله وولده، بل قد تتغالى نزعة الإنسان في الحرص عليهما حتى يضنّ بهما على كل غاية تقصد منهما في جوانب الدنيا، بل حتى يصير المرء في اعتبار نفسه أرخص من ماله وولده، فيفتديهما أحياناً بروحه التي هي أعزُّ ما لديه مما في الوجود حسبما قررنا بحكم الغريزة.
ومن إشادة القرآن كثيراً بالأموال والبنين ندرك مجاراته للغريزة في تقديرهما كنعمة كبرى، وندرك أن امتنانه علينا أحياناً بهذه النعمة: توجيه إلى صيانتها عن الإتلاف، وسوء التصرف، والخروج بهما عن مسالك النعمة فيما يراد منها، وفيما تحاط به من وسائل الرعاية لحق الله الذي تفضَّل بها على عباده.
2 ـ وقديماً كان يدور بخواطر الناس ما يدور بخواطرنا اليوم نحو الكافرين، والمنافقين ومن إليهم، بالنسبة لتوافر النعم عليهم بالمال والبنين، وسواهما...، فهم ـ لا شك ـ أعداء الله، وجاحدون لرسالاته أو لبعضها... و هم مع ذلك يرفلون في نعم سابغة، ثم هم يتمادون في غرورهم، و تغريرهم لأنفسهم بأن الله يكرمهم بالعطاء؛ لأنهم أحق به من سواهم، ولو كان الله ساخطاً عليهم لمنعهم هذا العطاء، أو سلبه منهم حينما يكونون على غير الحق، منذ كانت في الدنيا رسالات، وبعد أن ختمت الرسالات بمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم !.
وإزاء هذه الخواطر كان من الإرشاد التحفظي بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو إرشاد تعليمي له، ولأمته جميعاً، قول الله تعالى: [وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ] {التوبة:85}، فليس مظهر الأموال والأولاد مغنياً عن أولئك المخالفين لله في دينه شيئاً من عذابه، ولا مطمئناً عليهم هنا أو هناك.
3 ـ وبيَّن الله فيما بقي من حديثه حكمه في توفير الأموال والبنين لهؤلاء المستهترين بدعوة الله ـ فقال: [إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا] {التوبة:85}، حيث يكون حرصهم على المال والولد مشغلة لهم عن صفو المتاع بهما في وجوه الخير الصحيح، بل يكون النصب، والكدح مكابدة شاقَّة تلازمهم في الجمع وفي التنمية، وفي الخوف دائماً من النقص، فتلك الهموم هي النتائج التي تحدق بهم من جانب الأموال والأولاد... حيث لا ينتمون إلى دين يخفف من حدَّتِهم في الحرص، ولا يرطب صدورهم بالصبر على ما يُصيبهم في شيء من هذا؛ لأنهم لا يعولون على ثواب، ولا يؤمنون إيماناً حقاً، بما وراء الدنيا من عواقب الآخرة.
4 ـ وبيَّن الله تعالى كذلك أنه أنساهم حسن التفكير فيما بأيديهم، فهم يلهون به حتى تزهق أنفسهم بالموت، و يدركهم على كفرهم، ومن هذا يبدو أنَّ الانهماك المفرط عكس عليهم مظاهر النعمة، حتى جعل حاضرها ومآلها آلاماً وخسراناً.
أما من ترطَّبت نفسه بنسمات الدين، ونظر إلى ما بعد الدنيا من عذاب أليم، أو نعيم مقيم؛ فإنه لا يبيع نفسه لدنياه، ويقتصد في حرصه، ويتعلق كثيراً بما هو أبقى عند الله، ويكون نشاطه في كسب الدنيا، والمتاع بالمال والولد ممزوجاً بعمله للآخرة.
وقد تكرر هذا السياق في آية أخرى من سورة التوبة نفسها ليؤكِّد الله في أنفس الناس هذا التذكير، ويقاوم به ما يتغلب على النفوس من التعلق بمتع الحياة أكثر مما ينبغي. كما ذكره الله في نهي صريح لرسوله صلى الله عليه وسلم بالذات، ولأمته بالتبع فقال: [وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ] {طه:131}.
ومعلوم أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن عالق الذهن بنعيم الكافرين والمنافقين، ولكن غيره من الناس كان، وسيظل يتطلَّع ويرغب، ويطمع في مثل ما عند أولئك، فجاء النهي للنبي صلى الله عليه وسلم تحفظاً، وتربية، وجاء لغيره فوق ذلك زجراً، وتهذيباً، وتبرئة من لوثة الأطماع، والتطلع وغبطة الكافرين والمنافقين على ما هم فيه ظاهراً، حتى لا يتسرب إلى نفوس المؤمنين أو لا يتغلغل عند بعضهم شغف بما ليس في أيديهم من أعداء الله.
5 ـ والله يبيِّن لرسوله صلى الله عليه وسلم ولكل مستجيب لدعوته أن هذا المتاع إنما هو زهرة تلوح في الدنيا، وهي عرض غير مستقر، فهو كما نشأ مسبوقاً بعدم صائراً ولا محالة إلى فناء، والظفر بهذا المتاع ليس تكريماً للمنافقين والكافرين... وإنما هو اختبار، وكشف يظهر الله به ما يعلمه عن نفسية هؤلاء من تمرد، وجمود ويستدرجهم به إلى التفكير، وحسن الاختيار.
فإن لم يفعلوا خيراً لأنفسهم، كان هذا النعيم تسجيلاً لجحودهم في الدنيا، ووبالاً في الآخرة، والبصراء من الناس لا يخدعون أنفسهم بحظ يعقبه بؤس، ولا يلهيهم ما تراه العين عما تفطن إليه البصيرة خصوصاً إذا كان تذكير القرآن متوالياً، وفي أساليب شفافة ومتنوعة، كلها يعرض لما يخالجنا من هواجس الفكر في حياة المترفين من خصوم الدين الحق.
ومن هذه التوجيهات كذلك: [لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي البِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المِهَادُ] {آل عمران:197}، فأولئك ينطلقون في دنياهم مرحين، ويسبحون في جوانب الحياة لاهين ثم مأواهم الذي يَنتهون إليه، ويستقرون فيه هو جهنم على تعدد طبقاتها، وتنوع العذاب الشديد فيها.
ولئن كانت للمؤمنين حظوظ في الدنيا كذلك، فالفرق أن الإيمان سياج من البطر، وأن المؤمنين برشدهم يميزون الحق من الباطل، ويجعلون دنياهم وسيلة إلى آخرتهم، وبهذا الاتجاه يجمعون بين خيري الدنيا والآخرة، والله تعالى يعطي الدنيا لمن يحب ومن لا يحب، ولكنه لا يعطي الآخرة إلا لمن يحبه، وهم المؤمنون. وهم الذين قال فيهم: [وَمَنْ أَرَادَ الآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا] {الإسراء:19}.
فهذا وعد الله لمن أراد الآخرة وسعى لها سعيها... وليس حتماً في جانب الإيمان، ولا لمن أراد الآخرة أن يكون المرء متبتلاً، ومعتزلاً للدنيا، راغباً عنها، بل يكون قائماً في حياته على جادَّة معتدلة، فيستوفي حظَّه من الدنيا في ضوء الدين وهديه، حتى لا يتخبط في حياته خبط العشواء في ظلمات الطريق، ويكون في تدينه، وفي مسلكه الحيوي مصقولاً أليفاً، غير مُتزمِّت، ولا مُتشائم.
وما دامت نفسه شابة على غرار الدين، وناشئة في حوزته، ففي وسعه غالباً أن يؤثر بروحه الطيبة فيمن حوله، وفي مقدوره أن يتحاشى المساقط وراء الغواة المستهترين الغافلين.
6ـ بين الإنسان وغيره علاقات، وفي جانب هذه العلاقات تبدو النزعات المستورة في طوايا النفوس، ويكون التأثير على الغير منوطاً بقوة الروح واعتداد المرء بنفسه ومبدئه، فمن طهرت نفسه حقاً، وتسامت روحه عن الهبوط، واتجه إلى المستوى الرفيع استطاع أن يكون مَتبوعاً لا تابعاً، وأخذ بيد غيره عن طريق الإرشاد، والقدرة به في مسلكه العملي إلى مكارم الخلق، وشرفات المجد، ومناقب الوطنيَّة.
ولذلك نرى للمصلحين جهاداً دائباً في إصلاح من حولهم، ومن يتصل بهم، وهذا هدف يقصده الدين من كل ذي عقيدة، وشعور بواجبه الاجتماعي، نحو أخيه المسلم، بل نحو أخيه الإنسان أينما كان؟. وسبيل ذلك أن يكون المسلم في غير معزل عن الدنيا كما يزعم المترهبون، أو بعض المتصوفين.
وحينما يتحدث القرآن عن المال والولد وينكر على أناس أن يستعبدهم المال والولد، فإنما يريد ألا يستكين المرء إلى ملابساته الخاصة، ويريد أن يكون للإنسان بروز في جوانب المجتمع، ليستمرَّ بقاء الناس في صلاح من الأمر، ورفاهية في الحياة، ويكونوا أوفياء بعهد الله في عمارة دنياهم، كما استخلفهم فيها لذلك.
وهل يقصد الدين في تشريعه كله غير سعادة الناس؟ [فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ] {الانشقاق:20} . [وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ] {الصَّفات:13}. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر : مجلة الأزهر السنة 35 رجب 1383هـ الجزء الخامس.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين