قتيبة بن مسلم ـ 2 ـ

الشيخ محمد رجب البيومي

اشتدت شوكة الجيش الإسلامي بالنصر المؤزر، وأحس قتيبة أن قوة منالسماء تسانده وتعاضده، فخطب في جنوده وحثهم على مواصلة الجهاد، وأكد لهم أن العدو المنهزم لا يلبث أن يتكتل مرة ثالثة، وأن الجيش الإسلامي يقف وحده أمام ممالك كثيرة متكلتلة، وأن يفوز بغير الصبر والإيمان.
وكان ما توقع القائد العربي أن يكون، فقد كان الملك نيزك صاحب باذغيس يضمر حقداً عنيفاً للفاتحين، فأظهر الخضوع والاستسلام خدعة ودهاء، ووصل إلى المعسكر الإسلامي ليستطلع أموره ويقف على دقائقه وخوافيه، ثم ما لبث أن ارتد محنقاً إلى ملوك بلخ ومرو والطالقان والجوزجان، فأشعل في كل مملكة ثورة، وأضرم في كل صدر ناراً، ووجد قتيبة عدوه يتجمع ويحتشد، فاستقدم جنوداً إسلامية من نيسابور وغيرها، ولم يدع الأيام توسع لأعدائه سبيل الأهبة والاستعداد، فتوجه مسرعاً إلى نيزك صاحب الفتنة فوجده يعتصم بآكام ومضايق وعرة لا سبيل إلى النفاذ إليها. فلبث المسلمون أياماً لا يهتدون إلى ثغرة تلوح، حتى سهل الله كل صعب، فسلكوا طريقاً واضحاً إلى معسكر العدو، وار الموت الأحمر في حومة القتال، فسقطت نفوس كثيرة، وتمكن قتيبة من النصر بعد معارك طاحنة يشيب لها الولدان.
تابع البطل الفاتح زحفه إلى شومان والصغد وسجستان وخوارزم، فكان موفق الخطوات ميمون العاقبة، ولكن الوثنية الحائرة تكتلت للمرة الرابعة أمامه، وهبت تقاتل في يأس مرير، يتقدمها أبناء الملوك والمرازبة والأساورة ويقودها ابن حاقان، فرأى قتيبة أن يتفرغ لرسم الخطة وإدارة الموقعة، وندب أخاه صالح بن مسلم لقيادة الحومة ومواجهة الصفوف، ثم أمر لفوره أن تنصب المجانيق على أسوار سمرقند، وما زال يضربها حتى تصدعت أركانها وتساقطت أحجارها، واشتد الضيق بالوثنيين فطلبوا الصلح وانتصر الإسلام انتصاراً حاسماً، ودخل قتيبة المدينة وبنى مسجداً وصلى به، وانتخب لها والياً قوياً من جنوده، فاستضاءت بنور محمد صلى الله عليه وسلم، وترددت في جوانبها أنغام الأذان.
كسب قتيبة هذا المجد الباهر في ثمانية أعوام لم تمر بها ليلة واحدة في راحة جسم أو هدوء بال، بل كان الجيش الإسلامي يواجه أهوالاً راتعة، ويقع في مآزق حرجة، فتارة تنفد ذخائره، وطوراً يفقد زهرات من شبابه، وقائده من وراء ذلك يبث فيه من روحه وينفخ من عزيمته، و يضرب المثل بنفسه فيتقدم الكتيبة الحسراء، ويفتح صدره للرماح المتشجرة، و كان حافظه الملّح إلى الجهاد، هيامه بانتشار الإسلام، وذيوع تعاليمه، فكلما نظر إلى الوثنية تتغلغل في بقاع لا تعرف الضياء، عزم على استئصالها بكل ما أوتي من شجاعة وإيمان، وكان يثلج صدره أن يدخل المدينة الجديد ة فيشرح للناس هداية الإسلام ويقرئهم آيات القرآن وأحاديث الرسول، ويدع بها من العلماء من يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة. لذلك ترى المساجد تبنى في كل مكان، وترقب أئمة المسلمين وعلماءهم يسيرون مع الجيوش الباسلة، فيأمرون بالعدل والإحسان، وينهون عن الفحشاء والمنكر، ويقيمون الدعائم الرفيعة للأخلاق الإسلامية، فيحيون المساواة العادلة في أمم تنازعها الإقطاع، وتعددت بها الطغاة، وتأله فيها الحجر، وعبد الصنم والكوكب والنار من دون الله تعالى، وقد حارب قتيبة الخرافات الدينية بنفسه، فأحرق أصناماً مقدسة، وأطفأ بيوتاً للنيران كانت تتقد وتلتهب.
يقول ابن الأثير: (وأتى بالأصنام فكانت كالقصر العظيم) فأخذ ما عليها وأمر بها فأحرقت، فقال غوذك ـ ولعله أحد مؤيديه: إن شكرك عليَّ واجب، فلا تتعرض لهذه الأصنام، فإن بها أصناماً من أحرقها هلك، فقال قتيبة: أنا أحرقها بيدي، و دعا بالنار فكبر ثم أشعلها فاحترقت.
ونحن مع إعجابنا البالغ بقتيبة لا ننكر أثر الحجاج في التوجيه والمشورة، فقد كانت عينيه متيقظة لمطالب جنده النازح، وكان البريد يصله بأخبار الفتوح، وهو لا يفتأيعد الذخائر ويبعث المؤن ويشير بالخطط، وإذا كانت الخطة غير التنفيذ، فإن مما يشرف قتيبة أن يصل إلى النصر الحاسم في طريقه المرسوم، ظافراً مؤيداً، وأن يخضع الجيش الإسلامي لرغباته، دون أن يرتفع صوت واحد بمعارضته، وأن يزن أعوانه وجنوده فيضع كلاً في موضعه اللائق، دون اعتبار لغير الكفاءة الشخصية، والمقدرة الحربية، حتى تكلل جهاده بالتوفيق، وقدرت له دمشق بطولته فبعث إليه الوليد بن عبد الملك بكتاب يفيض بالمدح والثناء.
وقد مات الحجاج وهو الساعد الأيمن لقتيبة، وتوفي بعده الوليد بن عبد الملك، وكان لا يقل عنه تعضيداً للبطل الفاتح، فخسر بوفاتهما دعامته القوية التي كان يستند إليها في قيادته، وأصبح أمام سليمان بن عبد الملك وجهاً لوجه.
وكان الخليفة الجديد يؤاخذ قتيبة وآخرين من أقطاب المجاهدين والولاة بأنهم كانوا يتعصبون عليه لأخيه الوليد فكان في نفسه شيء من الضغن عليهم، وكان ينبغي له وقد ارتقى إلى منصب الخلافة أن يتناسى ذلك لهؤلاء القادة البواسل الذين رفعوا راية الإسلام، وأعلوا مكانة الدولة إلى السماء، ولو أصاخ قليلاً إلى منطق العقل النزيه لسعى إلى استرضائهم وجهد في تقريبهم، ليكونوا معه كما كانوا مع سابقه، وقد ضاعف النكبة على قتيبة أنه كان قد تأهب لغزو الصين ودخل مدينة كشغر وأصبح قريباً من الحدود، وأتت الرسل تسعى بالسفارة بينه وبين الدولة المهددة بالغزو الإسلامي، افيتراجع فجأة عن الغزو منتظراً ما يأتيه من دمشق؟ أم يستمر في مراسلة ملك الصين واستطلاع داخله مع حرج مركزه، ودقة موقفه المتأرجح؟!، مهما يكن من شيء فقد استمع قتيبة إلى نداء البطولة، وعصفت برأسه النخوة العربية، حين جاءه رسوله هبيرة الكلابي، يحمل تهديد الإمبراطور الصيني، فبعث يعلمه أنه لن ينصرف عن بلاد الصين حتى يطأ الأرض ويختم الملك ويعطى الجزية، وكان لهذا الرد الحاسم زلزال عنيف في صفوف الجيش الصيني، فخارت قوى الإمبراطور، وبعث بالجزية صاغراً مع بعض أبنائه، فكف عنه قتيبة، ولولا دقة موقفه السياسي لاقتحم أرضه و ضم إلى الإسلام أصقاعاً جديدة، ولكن ماذا يصنع؟ والريح عاصفة، والجو ملبد بالغيوم مجلجل بالرعود؟.
ولم يلبث سليمان أن اصدر قراره بعزل قتيبة، كما أمر بإحضاره إلى بلاط الخلافة في دمشق، ولو استجاب البطل الفاتح لهذا العزل الظالم للقي مصرعه كما لقيه فاتح الهند الأعظم محمد بن القاسم الثقفي بعد جهاد ميمون ونصر مبين،لقد فضل قتيبة أن يموت في حومة القتال دون أن يلقى منيته في غياهب السجن، وثقيل الأغلال، فأعلن مخالفته الصريحة، وقاد كتائبه الجرئية ليقف أمام جنود الخليفة، ولكن سهماً طائشاً أودى بحياته فسقط شهيداً، وطارت روحه الباسلة إلى ربها راضية بمآثرها البيضاء، وجهادها الخالد.
ومن المؤسف أن أكثر أعوانه من العرب تألبوا عليه في محنته لا لشيء إلا أنه وثق في كفاية بعض الخراسانيين فقدمهم في الألوية والقيادة مع نظرائهم من العرب، مؤثراً المساواة العادلة التي شرعها الإسلام، وكأنه بذلك قد جانب حقاً واضحاً، واعتصم بضلال أكيد.
وكان لمصرع قتيبة دوي هائل في العرب والفرس معاً، أما المخلصون من العرب فقد رثوه بقصائدهم النائحة، وأقض مضاجعهم أن تكون نهاية البطل الفاتح قريبة عاجلة بعد أن عقدت عليه الآمال، ومكن للإسلام في بلاد يعوزها الإشراق والإيمان، وأما العقلاء من الفرس فقد صعَّدوا الزفرات الحارة حزناً على استشهاده الأليم.
مر خراساني على جثة قتيبة وهو مضرج بدمائه، فبكى واستعبر وقال: يا معشر العرب، قتلتم قتيبة وهو الفارس المغوار، ولو كان منا معشر الفرس فمات لجعلناه في تابوت، فكنا نستفتح به كلما دقت طبول الجهاد.
وقال آخر: يا معشر العرب، قتلتم قتيبة ويزيد بن المهلب وهما سيدا العرب بخرسان، فقال له بعض السامعين: أيهما كان عندكم أعظم وأهيب؟ قال لو كان قتيبة بالمغرب الأقصى مكبلاً بالحديد، ويزيد معنا في بلادنا، لكان قتيبة أهيب في عيوننا و أعظم.
مات قتيبة رحمه الله تعالى وبقيت صحيفة أعماله خالدة ناصعة، فرفعه التاريخ إلى أفق زاهر يشرق بالبطولة والكرامة والشهادة، وفي ذلك عزاء أي عزاء، وسلام على البطل العظيم.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر: الأزهر مجلد 26 رجب 1374هـ العدد الحادي عشر.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين