جهاد المماليك البحرية ضد التتار والصليبيين

 

 
د. محمد عبدالحميد الرفاعي
أولاً: مواجهة التتار
أصل التتار:
التَّتَر أو التتار: قبائلُ متبدية تعيش في وسط آسيا، ولم يُعْرفوا في التاريخ إلاَّ في القرن الثاني الهِجري (الثامن الميلادي)، ويرى بعضُ الباحثين أنهم فرعٌ مِن الجنس التركي، وهم شعبٌ يفتقر إلى الحضارة والتمدُّن، وفضيلتهم الوحيدة هي التحمُّل والجلَد والبراعة القتاليَّة، وفي القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) ظهَر اسم المغول أو المغل كاسمٍ لإحدى قبائل التتار، ثم أُطلق عليهم جميعًا من باب إطلاق الجزءِ على الكلِّ، وأصبح مرادفًا لكلمة تتار، وأصبحتْ هي الغالبة عليهم بعدَ جنكيز خان (ت 623 هـ / 127م).
 وظهر التتارُ أو المغول كقوَّة مؤثرة في الأحداث التاريخيَّة في أواخر القرن الثاني عشرَ الميلادي عندما ظهَر فيهم جنكيز خان بن يسوكي بهادر خان، وكانوا حتى ذلك الحين قبائلَ متفرِّقة مِن البدو الرُّحَّل يعيشون في الخيام، ويحترفون الرعيَ والصيد في سهولِ وسط آسيا الفسيحة، وكانوا يأكلون جميعَ الدواب حتى الكِلاب والخنازير، وربَّما لا يَعرف الولدُ منهم أباه، وكان دِيانتهم سطحيَّة، يُقدِّسون الكواكب ويَعترفون بوجودِ الله، ولكنَّهم لا يؤدُّون طقوسًا ولا عبادات، وكانوا يعتقدون في قوَّة الحيوانات المفترِسة، ويقدِّمون لها القرابين؛ ولذا كانوا أقربَ إلى أن يكونوا بلا دِين؛ ولذلك لم تثبتْ معتقداتُهم هذه في مواجهة الدِّيانات الكبرى مِثل الإسلام والمسيحيَّة.
 وآلتْ زعامة المغول إلى تيموجن بن يسوجاي الذي تلقَّب بعدَ ذلك بجنكيز خان؛ أي الملك ذو القُدرة والبطش، فتمكَّن من توحيد المغول تحتَ قيادته، ووضَع لهم قانونًا يسمى الياسة؛ لينظِّمَ حياتهم السياسيَّة والاجتماعيَّة، ووضَع فيه عقوباتٍ للمخالفين كما قرَّر فيه احترامَ جميع الأديان والعقائد.
 وقدْ صادف ظهور المغول تمزُّق العالَم الإسلامي إلى دويلات وأتابكيات بعدَ انقسام دولة السلاجقة، وضعْف الخلافة العباسيَّة، والصِّراع داخلَ بغداد بيْن كبار القادة والساسة، والصِّراع بين الشيعة والسُّنة، والتدهور الاقتصادي، وانشغال المشرِق الإسلامي بمواجهةِ الصليبيِّين، والمنازعات والحروب بيْن خُلفاء صلاح الدِّين، فكان مِن السهل عليهم اجتياح المناطِق الشرقيَّة من العالَم الإسلامي، فاستولوا على الدولة الخوارزميَّة وبلاد فارس وأذربيجان، وتوَّجوا انتصاراتِهم الهمجيَّة بالاستيلاء على بغداد سنة 656هـ، وقتَلوا الخليفةَ المستعصم العباسي، وقتلوا أكثرَ مِن ثمانمائة ألف شخص مِن أهلها – كما ذكر المؤرِّخون - ودمَّروا حضارتها ومكتبتَها العامِرة، وكان يقودُهم هولاكو بن تولوي حفيد جنكيز خان.
 زحف التتار على بلاد الشام:
جاءَ وهن المسلمين مِن داخل صفوفهم بتعاون بعضِهم مع التتار، واستعانة بعضِهم بهؤلاء الغُزاة في حروبهم مع غيرِهم مِن أمراء المسلمين، ومِن ذلك استعانة الناصِر صلاح الدين يوسف الثاني بن العزيز محمَّد حاكم حلَب بهولاكو، فقدْ كتَب إليه يطلب منه المساعدةَ ضدَّ المماليك في مصر؛ لأنَّهم سلبوا الأيوبيِّين مُلكَهم، وبذلك أطْلع هولاكو على عورةِ المسلمين، وطمِع في غزو الشام، وساءَه أن يسارع قطز بالصُّلح مع الملك الناصِر، فكتَب إليه يتهدَّده ويتوعَّده ويحذِّره أن يكون مصيره مصيرَ الخليفة في بغداد، وأنَّ عليه الطاعة والاستسلام.
 
لم يجدِ الملك الناصر أمامَه سوى طلبِ النجدة من مصر، فاجتمع رأيُ الزعماء في مصر على مبايعة قطز سلطانًا في سنة 657هـ / 1259م، فوعَد الناصر بالنجدة والخروج لجِهاد التتار، وأراد أن يَفرضَ ضريبةً لتوفير المال اللازم، واستشار الفقهاءَ في ذلك، فأفْتَى الشيخ عزُّ الدين بن عبد السلام وغيره مِن العلماء بجواز ذلك، بشرْط أن يبدأ السلطان بنفْسه وحاشيته وجُنده ويُقدِّموا كلَّ ما لديهم مِن أموال ونفائس، ولا يبقى لأحدٍ منهم إلا سلاحه وفَرَسه، فالتزمَ السلطان بقولهم.
 
وتقدَّم هولاكو نحو مدن الشام فاستولَى على ماردين وحاصرها فقاومه أهلها لمدَّة عامين، حتى نفدت أقواتُهم وانتشر فيهم الوباءُ، فعَجزوا عن المقاومة، وتتابعتْ بلاد الجزيرة الفراتيَّة ومدن الشام تتساقَط في أيديهم بمقاومة أو بدون مقاومة، فاستولَوا على حلَب واستباحوها خمسةَ أيَّام، وسبوا أطفالها ونساءَها، وتسلَّموا دمشق وبعلبك وحماة بالأمان، وشاع بيْن الناس أنَّ التتار قومٌ لا يُغلبون، وقد كانوا يستعملون أسلوبَ القسوة والقتْل والدمار؛ حتى يقعَ الرعبُ في قلوب الناس، فيسارعوا إلى التسليم ويَضعُفوا عن المقاومة.
 
وكان بعضُ المماليك البحريَّة، وعلى رأسهم بيبرس، لاجئين بالشام في حِصن الكرك، فساءَهم ما أصاب بلادَ المسلمين وتقاعُس أمراء الأيوبيِّين عن الجهاد، فعادوا إلى الدخولِ في طاعة قطز فرحَّب بهم وأكرمهم.
 
واستسلم الملك الناصر إلى كتبغا نائب هولاكو، فأحسن إليه والى أهله في البدايةِ ووعدَه بإعادته إلى مُلكه بعد أن يستولِيَ على مصر، ولكنَّه تنكَّر له وقتَلَه بعد هزيمته في عين جالوت.
 
وأصبحتْ معظم بلاد الشام في أيدي التتار، وأصبحتْ غايتهم التالية غزْو مصر، فكتب هولاكو إلى قُطز وسائر أمراء مصر: "نحن جُند الله في أرْضه، خلَقَنا مِن سخطه، وسلَّطنا على من حلَّ به غضبه، فلكم بجميعِ البلاد معتَبَر، وعن عزْمِنا مزنجر، فاتَّعظوا بغيركم وأسلِموا إلينا أمرَكم، وقد سمعتُم أنَّنا فتحْنا البلاد، وقتلْنا معظم العباد، فعليكم بالهربِ وعلينا الطلب، وما لكم مِن سيوفنا خلاص، ولا مِن مهابتنا مناص، فاليوم تُجزَون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحقِّ وبما كنتم تفسُقون، وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلَب ينقلبون"!
وقد أشار عددٌ من أمراء المماليك بالاستسلام وطلَب الأمان، أو الفرار إلى بلادِ المغرب، ولكن قطز وبيبرس أصرَّا على الجهاد أو الموت، وتَمَّ الاتفاق على قتْل رُسل هولاكو؛ لأنَّهم يعاملون معاملة مُجرِمي الحرب، وأبقَى قطز غلامًا واحدًا منهم جعله في خِدمته.
وقد حدثتْ عقب ذلك تطوُّرات في معسكر التتار؛ إذ اضطرَّ هولاكو إلى الرحيل إلى عاصمة بلادِه "قراقورم" عقبَ وفاة أخيه منكو خان خاقان المغول؛ ليطلب الملك لنفْسه، وترك جيوشَه تحت قيادة "كتبغا".
موقعة عين جالوت:
نزَل قطز بقوَّاته في الصالحية لتعبئةِ جيشه، ورأى مِن بعض أمرائه تقاعسًا وعزمًا على التراجُع فقال لهم: "يا أمراءَ المسلمين، لكم زمان تأكلون أموالَ بيْت المال، وأنتم للغُزاة كارِهون، وأنا متوجِّه، فمَن اختار الجهاد بصحبتي، ومَن لم يخترْ ذلك يرجع إلى بيته، فإنَّ الله مطَّلع عليه، وخطيئةُ حريم المسلمين في رِقاب المتأخِّرين"، وتكلَّم بعدَه المتحمِّسون للجهاد، فاستحيا الآخرون، وعقدوا رأيَهم على النصر أو الشهادة.
وتقدَّم المسلمون بهذه الرُّوح العالية، ووصلتْ طليعتهم إلى غزَّة بقيادة الأمير بيبرس البندقداري، فالتقوا بحاميةِ المغول هناك بقيادة "بيدرا"، وعاجلوها قبل أن يصِل إليها الإمدادُ، فألْحقوا أوَّلَ هزيمة بالمغول، وأجْلوهم مِن غزة، وطاردوا فلولَهم حتى نهْر العاصي، وكان لذلك أكبرُ الأثر في رفْع معنويات المسلمين، وأزال مِن نفوسهم أسطورةَ الجيش المغولي الذي لا يُقهَر.
ووصل قطز إلى سواحِل الشام التي يسيطر عليها الصليبيُّون، وكانوا بدورهم يتخوَّفون مِن التتار الذين نجحوا قبلَ ذلك في غزو بعض بلدان أوربا، ويَخْشَون أن يواصلوا سيرتَهم إلى بلاد الفرنجة دون أن يقدِر على صدِّهم أحد، فأبدى الصليبيُّون تعاطفًا مع قطز، فأخَذ ميثاقهم أن يَقِفوا على الحياد، فلا يكونوا له أو عليه، وحذَّرهم إنْ هم تحالفوا عليه.
وقد ارْتضى الصليبيُّون هذا الموقفَ فقد كانتْ جيوشهم منكسرةً بعدَ معركة المنصورة تنتظر أنْ تأتيها إمداداتٌ من أوربا، وكانْ أمراؤهم متفرِّقين مختلفين، كما أنَّهم تخوَّفوا من تهديد قطز، وفي نفس الوقْت كانوا يأملون أن يلتقي عدواهما: المسلمون والتتار، فيُضعِف بعضهما بعضًا، فتكون النتيجة في صالِحهم، والمهم أنَّهم التزَموا بوعدِهم لقطز وسَمحوا له بالمرور مِن مناطق نفوذهم.
وكان اللِّقاء التاريخي في موقعة عين جالوت، وهي قريةٌ صغيرة بين بيسان ونابلس مِن أرض فلسطين، في يوم الجُمُعة الخامس والعشرين مِن رمضان سنة 658هـ، الثالث من سبتمبر سنة 1260م، وقد نجَح قطز في خِداع التتار؛ إذ أرسل قلَّة مِن قوَّاته بقيادة بيبرس لاستدراجِهم، وأخْفى معظمَ قوَّاته في الأحراش القريبة مِن عين جالوت، ووصل كتبغا بجيشه "كأنَّه بحر مِن اللهب تحدوه الغَيرةُ والغضب" كما وصفَه المؤرِّخون، يريد أن يثأر لهزيمة غزَّة، واستمرَّ بيبرس في مناوشتِه ليوهمَه بقلَّة عدد المسلمين، واستطاع أن يصمد ويحقِّق بعض الانتصارات على طليعة التتار حتى توالتِ القوات الرئيسية وتلاحَم الفريقان وتقاتلاَ أشد القتال.
وفي البداية تراجعتْ ميسرة المسلمين، ولكن السلطان استطاع أن يدْعَمها بقواته، وأظْهر شجاعةً نادرة، وألقى الخوذةَ عن رأسه وأخَذ يصرخ "وا إسلاماه"! حتى ارتجَّت لها جنبات الوادي واشتدَّتْ عزائم المسلمين، وأعدَّ بيبرس كمينًا للتتار، فتظاهر بالانكسار حتى تعقَّبه التتار، فخرَج عليهم الكمين مِن ثلاث جهات، وانهزم التتار شرَّ هزيمة، وقُتِل قائدهم كتبغا.
وتتبع الأمير بيبرس فلولَ التتار حتى نهر الفرات، وشجَّعتْ هذه الانتصارات المسلمين في سائرِ بلاد الشام فوَثَبوا على حاميات المغول واضطرُّوهم إلى الفرار، وتحرَّرت دمشق وسائر بلاد الشام بعدَ حوالي سبعة أشهر مِن الاحتلال، وعادتِ الوحدة بين مصر والشام تحتَ حُكم قطز.
وكانتْ موقعة عين جالوت من المعارك الحاسمة في التاريخ، ونصرًا مبينًا يعتزُّ به الإسلام والمسلمون.
علاقة المماليك بالتتار في فارس:
أعقبتْ هزيمة التتار في عين جالوت عدَّة غارات انتقاميَّة على بلاد الشام والجزيرة، مثل حمص وحماه والموصل، فأحْدَثوا كثيرًا من التخريب والقتْل، ولكن أهل الشام جدُّوا في التصدِّي لهم، وظلَّ التتار يحكُمون فارس بزعامة هولاكو خان، وظلُّوا على وثنيتهم، وكانوا يُهدِّدون بلاد الشام ويغيرون على القلاع الواقِعة على نهر الفرات، مِثل قلعة البيرة، فاستولوا عليها سنةَ 663هـ / 1265م، فتوجَّه السلطان بيبرس بنفسه لقِتالهم، فلمَّا وصل إلى دمشق سارَعوا بالفرار والعودة إلى فارس دون قِتال، فأمر بيبرس بتحصين هذه القَلعة وتزويدها بوسائلِ الدِّفاع والمؤن؛ حتى تتمكَّنَ من الصمود إلى أن تأتيَها النجدات.
وأعقب ذلك وفاة هولاكو خان، وخلفه على فارس ابنه أبغا وكان مسيحيًّا على المذهب النسطوري مِثل أمِّه ابنة الإمبراطور البيزنطي ميخائيل باليولوجس، التي تزوَّجها هولاكو، وكاتب بيبرسَ في طلَب الصُّلح والمهادنة، ولكن بيبرس لم ينسَ ما فعلوه بالإسلام وأهله وخليفة المسلمين فأبَى أن يمدَّ إليهم يدَه، وكانتْ رسائل أبغا تجمع بين الترغيب والترهيب، والانتقاص مِن قدر المماليك مشيرًا إلى أصلهم كرقيقٍ يباعون ويشترون، فقال بيبرس: "أما أبغا فما له إلا السيف، وهو مطلوبٌ منَّا بثأر المسلمين، وأنا وراءه بالمطالبة حتى أنتزعَ منه جميعَ البلاد التي استحوذ عليها".
وحينما عاود أبغا سياسة أبيه في مهاجمةِ أطرافِ الشام وتحالَف مع الصليبيِّين في المناطق الساحلية ليقومَا بعدوان مشترَك سارع بيبرس بإرْسال قوَّات كافية للدِّفاع عن هذه المناطق، وتمكَّن من إلحاق عدَّة هزائم بالتتار، وعقد صلحًا مع الصليبيين ليفسدَ حلفهم مع التتار.
وقدِ استمرَّتْ هذه العلاقات الطيبة في العهود التالية وتُبودلتِ الرسائل والسفارات بيْن منكو تمر خليفة بركة خان، والناصر محمَّد بن قلاوون، وتوطَّدتْ هذه العلاقة أكثرَ في عهد يزبك خان الذي قبِل أن يزوِّج إحدى الأميرات التتريات مِن بيت جنكيز خان للسلطان الناصر محمَّد سنة 720هـ / 1220م، وقدِمت عن طريق البحر وسطَ احتفالات كبيرة، ودخَل بها السلطان بعد أيَّام
المصدر : موقع الألوكة

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين