النزعة الإنسانية والأخلاقية في الحروب الإسلامية

 

 
لم تكن الفتوح ولا الحروب التي خاضها المسلمون عبر القرون الماضية تعشقاً للدماء ولا حباً للقتال، ولا اعتداء على الأبرياء، ولا استنزافاً للموارد وتضييقاً على العباد، إنما كانت لدفع عدوان واقع أو متوقع، وما بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم حرباً قط، حرصاً منه على ألا تراق الدماء، فهو النبي الذي أرسله الله تعالى رحمة للعالمين، وهو نبي المرحمة، فإذا ما كان ثمة عدوان أو تعد أو استعداد للعدوان على المسلمين فرسول الله صلى الله عليه وسلم عندئذ أسرع الناس لصد هذا العدوان عن المسلمين، وهذا ما شرعه الله تعالى في كتابه فقال: ﴿ أُذِن للذين يُقاتَلون بأنهم ظُلِموا وإن الله على نصرهم لقدير﴾ [الحج:39]، وقال تعالى محرماً الاعتداء على الآخرين:﴿وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين﴾ [البقرة:190].
فالأصل إذن في العلاقات الإنسانية في الإسلام السلم والتعاون، والحرب ليست إلا علاجاً لانحراف وشذوذ لم تنفع معه الحكمة ولا الموعظة الحسنة، كما أن الحرب إن وقعت فلها حكم الضروريات التي تقدر بقدرها، دون أن يكون هناك بغي أو عدوان، فلا ينبغي أن يُعتَدى على غير المحارب، ولا على المدبر، ويعامل الأسير بالبر والإحسان.  
وهذه النزعة الإنسانية والأخلاقية في الحرب نلمسها بوضوح في تعاليم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان إذا أرسل جيشاً لقتال العدو قال لهم: «انطلقوا باسمِ اللهِ، لا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا طِفلاً صغيراً، ولا امْرأة، ولا تَغُلُّوا، وضمُّوا غَنائمَكم، وأَصلِحُوا وأحْسِنُوا، إن اللَّهَ يُحِبُّ المحْسِنينَ». [أبو داود].
ويقول لهم:« لا تقتلوا أصحاب الصوامع». [الخراج لأبي يوسف].
فَلاَ ينبغي في الحروب أن يقتل الشيخ في مسجده، ولا الرَّاهِبُ فِي صَوْمَعَتِهِ، وَلاَ أَهْل الْكَنَائِسِ الَّذِينَ لاَ يُخَالِطُونَ النَّاسَ، وَلاَ سَائِحٌ فِي الْجِبَال لاَ يُخَالِطُ النَّاسَ .
ولما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه التي غزاها امرأة مقتولة أعلن إنكاره لذلك الفعل ونهى عن قتل النساء والصبيان( )، مؤكداً وصاياه، ومحذراً من الوقوع في مثل هذا الفعل.
كما لا يقتل الفلاحون والمزارعون الذين لا يمارسون القتال والحرب، فقد قال ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: « اتَّقُوا اللَّهَ فِي الْفَلاَّحِينَ الَّذِينَ لاَ يَنْصِبُونَ لَكُمُ الْحَرْبَ»، وكذلك كل مدني لا يشارك في الحرب، ولا يحمل السلاح.
وقد نص فقهاء المسلمين على أن من قتل امرأة أو صبياً أو عاجزاً أو راهباً أو غيرهم ممن ليسوا أهلاً للقتال فإنه ارتكب محرماً يعاقب عليه.
وقد جرى على هذه الأخلاق والقيم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه، فهذا أبو بكر الصديق الخليفة الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي قواد الجيوش الإسلامية فيقول لأحدهم: إني موصيك بعشر فاحفظهن:
1ـ إنك ستلقى أقواماً زعموا أنهم قد فرغوا أنفسهم لله في الصوامع، فذرهم وما فرغوا له أنفسهم.
2ـ لا تقتلن امرأة.
3ـ ولا صبياً.
4ـ ولا كبيراً هرماً.
 5ـ ولا تقطعن شجراً مثمراً.
6ـ ولا نخلاً ولا تحرقها.
7ـ ولا تخربن عامراً.
8ـ ولا تعقرن شاة، ولا بقرة إلا لمأكلة.
9ـ ولا تجبن.
10ـ ولا تغلل.
هذه الوصية الرائعة التي تؤكد سمو الجانب الإنساني والأخلاقي في الحروب والفتوحات التي خاضتها الجيوش الإسلامية في زمن الخلفاء الراشدين، وهي امتداد لتلك الوصايا والمبادئ التي أرساها نبي الإسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد كتب محمد بن القاسم الثقفي القائد المسلم في زمن الوليد بن عبد الملك لجنده الفاتحين لحوض السند من الديبل حتى البنجاب: « لا تقتلوا أحداً غير المسلح المحارب، ومن كان بيده السلاح وهو هارب فخذوه أسيراً، ومن أراد الأمان وأعلن الطاعة فاتركوه، ولا تدخلوا البيوت الآمنة» .
أما صلاح الدين الأيوبي فقد ضرب أروع الأمثلة بحسن معاملة الأسرى، وكان يخص البارزين منهم بحسن المعيشة، ويعطيهم الثياب، وحينما أحضر الناس قتلاهم بعد معركة حطين أكرم المتقدمين منهم، وألبس مقدمي عسكر فرنسيس فروة خاصة، وأمر لكل واحد من الباقين بفروة خرجية لأن البرد كان شديداً.
وهكذا كان أجدادنا وأسلافنا الذين حملوا الرسالة الإسلامية الخالدة، وفتحوا البلدان، فكانوا رحمة على أهلها حتى قال المؤرخ الشهير جوستاف لوبون: (ما عرف العالم فاتحاً أعدل ولا أرحم من العرب).
وها هو أحد المستشرقين الغربيين الكونت هنري ديك استري يكتب عن المسلمين بعد أن درس سيرتهم وأخلاقهم فيقول:« إن الدولة الإسلامية لما استقرت في الشرق لم تعارض المسيحية، ولم تضع أمام بنيها عائقاً، وظلت روما حرة في مراسلاتها مع الأساقفة الخاضعين لحكم الإسلام»، ويقول أيضاً:« لقد درست تاريخ النصارى في بلاد الإسلام، وخرجت منه بحقيقة مشرقة، هي أن معاملة المسلمين للنصارى تدل على لطف معاشرة، وترفع عن الغلظة، وعلى حسن مسايرة ورقة مجاملة، وهذا إحساس لم يؤثر عن غير المسلمين، فإن الشفقة والحنان كانا يعتبران لدى الأوربيين عنواناً للضعف، وهذه ملاحظة لا أرى وجهاً للطعن بها»( ).
وها نحن في هذه الأيام الشديدة العصيبة في سورية الحبيبة نشهد من أولئك الذين ادعوا كذبا وزوراً لعقود أنهم في خندق الممانعة، وأنهم حماة لقضايا الأمة، وأن جيشهم يحمي الديار، ويدفع العار.
فإذا بنا اليوم نشهد منهم هدماً للديار، وتدميراً للبنيان، وقتلاً وسحلاً وتشويهاً للإنسان، بل وتجاوزاً لكل الحدود والعهود والمواثيق التي عرفها الإنسان من غابر الزمان، وكل ذلك تحت إطار من الدعاوى الكاذبة المفبركة لسحق أولئك الذين طالبوا بحريتهم وكرامتهم المسلوبة منذ عقود من الزمان.
 وما انشقاق الشرفاء من الجيش السوري إلا لما رأوه من ظلم وطغيان، وما حَمْلُهم للسلاح إلا للدفاع المشروع ضد أولئك الذين تجاوزوا كل حقوق الإنسان، وليدافعوا عن حقوق وكرامة إخوانهم وأعراضهم وممتلكاتهم، التي أضاعها جلاوذة النظام .
فلم يتورع هؤلاء القتلة الساديين من أمن وجيش أسدي وشبيحة مرتزقة من إعلان حرب مفتوحة على الشعب الأعزل، فعمدوا إلى قصف المناطق الآمنة الآهلة، في كل أرجاء قطرنا الحبيب، مما أدى إلى قتل النساء والشيوخ والولدان، وهدم المنازل فوق رؤوس أصحابها، وتدمير البنية التحتية للمدن والأرياف، بل وقصف المساجد والمشافي والمرافق العامة والمنشآت المدنية والأسواق، بأكثر الأسلحة فتكاً ودماراً، مع ممارسة سياسة الحصار والتجويع من أجل التركيع، وتدمير وسرقة للممتلكات.
وأما إذا ما تحدثنا عما يحدث في كواليس وأقبية الأمن وسجونها، فسنسمع العجب العجاب، من قتل وسحل، واغتصاب، وهتك للحرمات، وذبح للكرامة الإنسانية، بعيداً عن أعين الرقباء والعدسات.
وبذلك يكون الأسد وعصاباته من جيش وأمن وشبيحة قد انتهكوا كل الاتفاقيات والأعراف الدولية، وثبت بما لا يدع مجالاً للشك أنهم ارتكبوا كل أنواع جرائم الحرب، والإبادة بحق الإنسانية.
وليست هذه الجرائم بغريبة على هذا النظام، ففي 2/2/1982م ارتكب مذبحة شنيعة في مدينة حماة راح ضحيتها أكثر من ثلاثين ألفاً، من الرجال والنساء والولدان، ولكن دون أن يحرك العالم ساكناً، أو أن يرفع صوته بالاستنكار.
بالإضافة إلى عدد كبير من المجازر التي ارتكبها في عدد من المدن السورية، خصوصاً في سجن تدمر، وفي مدينة حلب الشهباء.
وإذا ما رجعنا إلى حقوق الإنسان التي أقرتها المجامع الدولية نجدها قد نصت في المادة (23) منها على أنه: يمنع قتل الأطفال والنساء والشيوخ والعبّاد، ونصت على عدم قطع الأشجار ونهب الأموال.
كما نجد في اتفاقية جنيف الأولى في المــادة (3):
1ـ أن الأشخاص الذين لا يشتركون مباشرة في الأعمال العدائية، بمن فيهم أفراد القوات المسلحة الذين ألقوا عنهم أسلحتهم، والأشخاص العاجزون عن القتال بسبب المرض أو الجرح أو الاحتجاز أو لأي سبب آخر، يعاملون في جميع الأحوال معاملة إنسانية، دون أي تمييز ضار يقوم على العنصر أو اللون، أو الدين أو المعتقد، أو الجنس، أو المولد أو الثروة أو أي معيار مماثل آخر.
ولهذا الغرض، تحظر الأفعال التالية فيما يتعلق بالأشخاص المذكورين أعلاه، وتبقى محظورة في جميع الأوقات والأماكن:
أ ـ الاعتداء على الحياة والسلامة البدنية، وبخاصة القتل بجميع أشكاله، والتشويه، والمعاملة القاسية، والتعذيب.
ب ـ أخذ الرهائن والاعتداء على الكرامة الشخصية، وعلى الأخص المعاملة المهينة والحاطة بالكرامة.
2ـ يجمع الجرحى والمرضى ويعتني بهم، ويجوز لهيئة إنسانية غير متحيزة، كاللجنة الدولية للصليب الأحمر، أن تعرض خدماتها على أطراف النزاع،
وعلى أطراف النزاع أن تعمل فوق ذلك، عن طريق اتفاقات خاصة، على تنفيذ كل الأحكام الأخرى من هذه الاتفاقية أو بعضها.
وفي المادة (12) من هذه الاتفاقية نجد أنه يجب في جميع الأحوال احترام وحماية الجرحى والمرضى من أفراد القوات المسلحة وغيرهم من الأشخاص المشار إليهم في المادة التالية، وعلى طرف النزاع الذي يكونون تحت سلطته أن يعاملهم معاملة إنسانية، وأن يعنى بهم دون أي تمييز ضار على أساس الجنس أو العنصر أو الجنسية، أو الدين أو الآراء السياسية، أو أي معايير مماثلة أخرى.
ويحظر بشدة أي اعتداء على حياتهم أو استعمال العنف معهم، ويجب على الأخص عدم قتلهم أو إبادتهم أو تعريضهم للتعذيب أو لتجارب خاصة بعلم الحياة، أو تركهم عمداً دون علاج أو رعاية طبية، أو خلق ظروف تعرضهم لمخاطر العدوى بالأمراض أو تلوث الجروح.
وتقرر الأولوية في نظام العلاج على أساس الدواعي الطبية العاجلة وحدها.
وتعامل النساء بكل الاعتبار الخاص الواجب إزاء جنسهن.
وعلى طرف النزاع الذي يضطر إلى ترك بعض الجرحى أو المرضى لخصمه أن يترك معهم، بقدر ما تسمح به الاعتبارات الحربية، بعض أفراد خدماته الطبية والمهمات الطبية للإسهام في العناية بهم.
وتنص المــادة (35) فيما يتعلق بالنقل الطبي: على أنه يجب احترام وحماية وسائل نقل الجرحى والمرضى أو المهمات الطبية شأنها شأن الوحدات الطبية المتحركة....
فقارنوا يا رعاكم الله بين ما تنص عليه العهود والمواثيق الدولية وبين ما يمارسه أعوان النظام البائد بإذن الله، لتروا إلى أي درك وصل هؤلاء المجرمون، بحيث انحطوا عن قوانين الغاب والحيوانات، ليصبحوا مثالاً فريداً في الوحشية والسادية والإجرام.
نسأل الله تعالى أن يفرج أن أهلنا في سورية الحبيبة ما هم به من شدة وكربة وغدر، وأن يعجل لنا النصر، إنه سميع قريب.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين