في التاسع من ربيع الآخر من سنة 561 توفي في بغداد، عن 90 عاماً، الشيخ عبد القادر الجيلاني الحنبلي، الإمام العالم الزاهد العارف بالله، والذي تنسب إليه الطريقة الصوفية الجيلانية والقادرية. واسمه مع لقبه وكنيته هو محيي الدين، أبو محمد، عبد القادر بن عبد الله ابن جنكي دوست الجيلي. وجنكي دوست كلمة فارسية تعني: العظيم القدر. ونسبه يمتد إلى الإمام الحسن بن علي رضي الله عنهما.
ولد سنة 471 في منطقة جيلان، وإليها ينسب فيقال الجيلاني والجيلي والكيلاني، وهي بلاد متفرقة جنوبي بحر قزوين، وجيلان اليوم إحدى محافظات إيران الشمالية.
وقدم بغداد شابا سنة 488، فتفقه على القاضي أبي سعد المخرِمي، المبارك بن علي المتوفى سنة 514، وكان من كبار علماء الحنابلة في بغداد، حسن السيرة جميل الطريق، سديد الأقضية، جمع كتبا كثيرة لم يسبق إلى مثلها، وبنى مدرسة بباب الأزج فلما توفي درَّس بعده بها الشيخ عبد القادر الجيلاني ونسبت إليه.
وسمع الشيخ عبد القادر الحديث وأخذ عن كبار علماء ومحدثي عصره، مثل أبي غالب الباقلاني، محمد بن الحسن المتوفى سنة 500، والذي يوصف برقة النفس وكثرة البكاء، والقارئ الأديب البارع المحدث المسند، بقية المشايخ، أبو محمد جعفر بن أحمد السراج البغدادي، المولود سنة 417 والمتوفى سنة 500، وعن الشيخ الصالح المعمر الصدوق أبو سعد محمد بن عبد الكريم بن خشيش البغدادي، المولود سنة 413 والمتوفى سنة 502، والشيخ المعمَّر أحمد بن المظفر بن سوسن، المولود سنة 411 والمتوفى سنة 503، وعن الشيخ الصدوق المسند، رُحَلَة الآفاق، أبو القاسم علي بن أحمد بن محمد بن بيان بن الرزاز البغدادي، المولود سنة 413 والمتوفى سنة 510، وعن الحافظ يحيى ابن منده، المولود سنة 434 والمتوفى سنة 511، وصاحب كتاب تاريخ أصبهان، وكتاب مناقب الامام أحمد، وعن الشيخ الأمين، الثقة العالم المسند، أبي طالب اليوسفي، عبد القادر بن محمد، المتوفى سنة 516 وهو في الثمانين.
ودرس الشيخ عبد القادر الفقه الحنبلي على أبي الخطاب البغدادي، محفوظ بن أحمد الكلوذَاني، المولود سنة 432 والمتوفى سنة 510، وكان أحد أئمة المذهب وأعيانه، وصنف كتباً حساناً في المذهب والأصول والخلاف، وكان كامل الدين، غزير العقل، جميل السيرة، مرضي الفعال، محمود الطريقة، وهو مع ذلك حسن الأخلاق، ظريفًا، مليح النادرة، سريع الجواب، حادّ الخاطر.
ودرس على أبي الوفاء ابن عقيل، علي بن عقيل البغدادي، الموفود سنة 431 والمتوفى سنة 513، عالم العراق وشيخ الحنابلة، وكان قوي الحجة، مستقل الرأي، له تصانيف أعظمها كتاب الفنون، في 400 جزء.
ودرس الفقه كذلك على القاضي ابن أبي يعلى، محمد بن محمد أبي يعلى البغدادي، المولود سنة 451 والمتوفى قتيلاً سنة 526، وهو فقيه مؤرخ، له كتاب طبقات الحنابلة، وكتابي المفتاح والمفردات في الفقه.
ودرس الشيخ الأدب على إمام اللغة أبي زكريا التبريزي، يحيى بن علي المولود سنة 421 والمتوفى سنة 502، وهو صاحب شروح للحماسة والمفضليات والمعلقات العشر ومقصورة ابن دريد.
ثم توجه الشيخ رحمه الله لطريقة الصوفية في ملازمة الخلوة والرياضة والسياحة والمجاهدة والسهر والمقام في الخراب والصحراء، وكان يقتات بخرنوب الشوك وورق الخس من جانب النهر، والهدف من ذلك أن يغلب شيطانَ شهوته ويسيطر على نزوات نفسه، معرضاً عن الدنيا، مقبلاً على الآخرة، ملتذاً بالطاعة، وكان يقول: الخلق حجابك عن نفسك، ونفسك حجاب عن ربك، ما دمت ترى الخلق لا ترى نفسك، وما دمت ترى نفسك لا ترى ربك. وكان يقول: الدنيا أشغال، والآخرة أهوال، والعبد فيما بين الأشغال حتى يستقر قراره إما إلى جنة وإما إلى نار.
وكانت للشيخ عبد القادر الجيلاني أحوال نفسية و بدنية عجيبة، وقص الشيخ عبد القادر على تلميذه ومريده أبي محمد الجبائي ما مر به من معاناة نفسية، ثم كيف لحق بالمتصوف حماد بن مسلم الدباس، المتوفى سنة 525، فقال: كنت أومر وأنهى في النوم واليقظة، وكان يغلب علي الكلام، ويزدحم على قلبي إن لم أتكلم به حتى أكاد أختنق، ولا أقدر أسكت، ثم بعد ذلك طرقتني الأحوال، فكنت أتمنى من يكشفها لي، فاجتزت بالظفرية، ففتح رجل داره، وقال: يا عبد القادر، أيش طلبت البارحة؟ فنسيت، فسكتُّ، فاغتاظ ودفع الباب في وجهي دفعة عظيمة، فلما مشيت ذكرت، فرجعت أطلب الباب، فلم أجده، قال: وكان حمادا الدباس، ثم عرفته بعد، وكشف لي جميع ما كان يشكل علي، وكنت إذا غبت عند لطلب العلم وجئت، يقول: أيش جاء بك إلينا، أنت فقيه، مر إلى الفقهاء، وأنا أسكت، وكان الشيخ يؤذيني ويضربني، فطمع في أصحابه، وقالوا: أنت فقيه، أيش تعمل معنا؟ فلما رآهم يؤذونني، غار لي، وقال: لم تؤذونه؟ والله ما فيكم مثله، وإنما أوذيه لأمتحنه، فأراه جبلا لا يتحرك.
ثم بعد مدة، قدم رجل من همذان يقال له: يوسف الهمذاني، وكان يقال: إنه القطب، ونزل في رباط، فمشيت إليه، فلم أره، وقيل لي: هو في السرداب، فنزلت إليه، فلما رآني قام، وأجلسني، ففرشني، وذكر لي جميع أحوالي، وحل لي المشكل علي، ثم قال لي: تَكلَّم على الناس، فقلت: يا سيدي، أنا رجل أعجمي قح أخرس، أتكلم على فصحاء بغداد!؟ فقال لي: أنت حفظت الفقه وأصوله، والخلاف والنحو واللغة وتفسير القرآن، لا يصلح لك أن تتكلم؟! اصعد على الكرسي، وتكلم، فإني أرى فيك عذقا سيصير نخلة. وكان يجلس عندي رجلان وثلاثة، ثم تسامع الناس بي، وازدحم علي الخلق، حتى صار يحضر مجلسي نحو من سبعين ألفا، وأراد الله مني منفعة الخلق، فقد أسلم على يدي أكثر من خمس مئة، وتاب على يدي أكثر من مئة ألف، وهذا خير كثير، وترِدُ عليَّ الأثقال التي لو وضعت على الجبال تفسخت، فأضع جنبي على الأرض، وأقول: إن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا، ثم أرفع رأسي وقد انفرجت عني.
وقال محدث العراق في عصره أبو محمد عبد العزيز بن محمود ابن الأخضر المتوفى سنة 611: كنت أدخل على الشيخ عبد القادر في وسط الشتاء وقوة برده وعليه قميص واحد، وعلى رأسه طاقية، وحوله من يروحه بالمروحة، والعرق يخرج من جسده كما يكون في شدة الحر.
وعقد الشيخ عبد القادر أول مجلس له للوعظ في سنة 521، وأظهر الله الحكمة على لسانه، ثم جلس في سنة 528 في مدرسة أستاذه أبي سعد المخرمي للتدريس والفتوى.
وبرز الشيخ رحمه الله في درسه في مدرسة ابي سعد المخرمي، وكان يتكلم في الرقائق والوعظ والزهد، وكان عمله يطابق قوله، وأكرمه الله بسمت وصمت، وكان كثير الذكر، دائم الفكر، سريع الدمعة، فأقبل الناس على دروسه ومواعظه حتى ضاقت المدرسة بالناس، فكان يجلس عند سور بغداد مستندا إلى الرباط، ويحضر درسه الآلاف المؤلفة، ويتوب عنده في المجلس خلق كثير، وأصبح له سمعة وجماعة بين أهل بغداد، وأقام في مدرسته يدرس ويعظ إلى أن توفي فدفن في المدرسة ذاتها.
وظهر من الشيخ أحوال صالحة ومكاشفات كثيرة أكرمه الله بها، وتواترت عنه، فصار إمام زمانه وقطب عصره، ولكن مبالغات العامة ومغالاة المحبين، وخصوصاً بعد وفاته بقرون، نسبت إليه أقوالا وأفعالا ومكاشفات هو في غنى عنها، وأسمته سلطان الأولياء، بل جعله بعضها أحد أربعة مشايخ يتصرفون في قبورهم كتصرف الأحياء، وزعمت أنه كان في درسه يتكلم على كرسي عال، وربما خطا في الهواء خطوات على رؤوس الناس ثم يرجع إلى الكرسي! بل نسب إليه بعضها إحياء الطيور الميتة بإذن الله، وأذكر بعض المكاشفات مع شيء من التمحيص التاريخي إن استطعت، وأترك أمر الحكم عليها للقارئ الكريم.
قال أحمد بن ظفر بن هبيرة: سألت جدي الوزير يحيى بن هبيرة أن أزور الشيخ عبد القادر، فأعطاني مبلغا من الذهب لأعطيه، فلما نزل عن المنبر سلمت عليه، وتحرجت من دفع الذهب إليه في ذلك الجمع، فقال: هات ما معك، ولا عليك من الناس، وسلِّم على الوزير.
وتروي كتب التراجم عن أبي محمد ابن الخشاب النحوي قوله: كنت وأنا شاب أقرأ النحو، وأسمع الناس يصفون حسن كلام الشيخ عبد القادر، فكنت أريد أن أسمعه ولا يتسع وقتي، فاتفق أني حضرت يوما مجلسه، فلما تكلم لم أستحسن كلامه، ولم أفهمه، وقلت في نفسي: ضاع اليوم مني. فالتفت إلى ناحيتي، وقال: ويلك تفضل النحو على مجالس الذكر، وتختار ذلك؟! اصحبنا نصيرك سيبويه.
وهذا القول لا يصح فابن الخشاب، الحسين بن محمد، ولد سنة 443 وتوفي سنة 524، فهو أسن من الشيخ بسبع وعشرين سنة، فكيف يذهب إليه في شبابه؟!
ويروى عن أبي البقاء النحوي العُكبري الضرير، عبدالله بن الحسين المولود سنة 538 والمتوفى سنة 616، وكان ثقة متدينا، ذا تعبد وأوراد، حسن الاخلاق، قال: حضرت مجلس الشيخ عبد القادر، فقرؤوا بين يديه القرآن الكريم بالألحان، فقلت في نفسي: ترى لأي شئ ما ينكر الشيخ هذا؟ فقال: يجئ واحدٌ قد قرأ أبوابا من الفقه ينكر. فقلت في نفسي: لعل أنه قصد غيري، فقال: إياك نعني بالقول. فتبت في نفسي من اعتراضي، فقال: قد قبل الله توبتك.
ومن كبار أصحاب الشيخ عبد القادر أبو محمد الجبائي، عبد الله بن أبي الحسن الجبائي، من قرية الجبة من بْشَري من أعمال طرابلس، كان أبوه نصرانيا فأسلم هو في صغره، وحفظ القرآن، وقدم بغداد سنة 540 وله 21 سنة فصحب الشيخ عبد القادر حتى وفاته، وتوفي الجبائي بأصبهان سنة 605.
وروى الجبائي كثيراً من أحوال الشيخ قبل مشيخته وبعدها، وذكر كثيراً من مكاشفاته، قال الجبائي: كنت أسمع في الحلية على ابن ناصر، الإمام المحدث الحافظ محمد بن ناصر السلامي الحنبلي البغدادي، المولود سنة 467 والمتوفى سنة 550، فرقَّ قلبي، وقلت: اشتهيتُ لو انقطعت، وأشتغل بالعبادة. ومضيتُ، فصليت خلف الشيخ عبد القادر، فلما جلسنا، نظر إلي، وقال: إذا أردت الانقطاع، فلا تنقطع حتى تتفقه وتجالس الشيوخ وتتأدب، وإلا فتنقطع وأنت فُريخ ما ريشت، فإن أشكل عليك شيء في أمر دينك، تخرج من زاويتك وتسأل عن أمر دينك؟! ما أحسن صاحب الزاوية أن يخرج من زاويته ويسأل الناس عن أمر دينه؟! ينبغي لصاحب الزاوية أن يكون كالشمعة يستضاء بنوره.
وممن أخذ عن الشيخ عبد القادر القطبُ الصوفي شهاب الدين السهروردي، عمر بن محمد، المولود في سهرورد سنة 539 والمتوفى ببغداد سنة 632، والذي صار فيما بعد شيخ الشيوخ ببغداد، وصاحب كتاب عوارف المعارف، فقد روى أنه قصده وهو شاب فوجهه للتصوف وترك علم الكلام، وذكر ابن تيمية أن السهروردي قال: كنت أتفقه في شبابي بالمدرسة النظامية، فخطر لي أن أقرأ شيئًا من علم الكلام، وعزمت على ذلك في نفسي من غير أن أتكلم به، واتفق أني صليت يوم الجمعة مع عمي أبي النجيب في الجامع، فحضر عنده الشيخ عبد القادر مسلِّماً، فسأله عمي الدعاء لي، وذكر له أني مشتغل بالفقه، وقمت وقبلت يده، فأخذ بيدي، وقال: يا عمر، ما هو من زادِ القبر! ما هو من زاد القبر! تب مما عزمت على الاشتغال به، فإنك تفلح. ثم سكت وترك يدي، ولم يتغير عزمي عن الاشتغال، حتى تشوشت عليَّ جميع أحوالي، وتكدر وقتي عليَّ، فعلمت أن ذلك لمخالفة الشيخ، فتبت إلى الله من ذلك اليوم، ورجعت عنه، فصلحت حالي، وطاب قلبي.
وانتشرت طريقة الشيخ عبد القادر لأن الله قيض لها من يحملها من بعده، ويُعدُّ أبو القاسم البزاز، عمر بن مسعود، المولود سنة 532 والمتوفى 608، من أعيان أصحاب الشيخ، إذ صحبه مدة طويلة وتفقه عليه، وسمع منه الحديث، وتخلق بأخلاقه وتأدب بآدابه وسلك طريقته، وكان حسن السمت، مليح الخلق والخلق، وكان له دكان يبيع فيه البز ويطلب الكسب الحلال، ثم أنه ترك ذلك وانقطع إلى زاوية له إلى جانب مسجد، وانضاف إليه جماعة من الاصحاب والاتباع، فاشتهر اسمه وشاع ذكره وقصده الناس لزيارته والتبرك به وكثر الفقراء حوله، وصار الناس يقصدونه بالنذور والصدقات والهبات والفتوحات، ويُنفِقُ ذلك على من عنده، وتاب عليه خلق كثير من مماليك الخليفة الترك الخواص، ولبسوا منه الخرقة وصلحت طرائقهم وانتفعوا بصحبته.
وأمد الله في عمر الشيخ عبد القادر واتسعت شهرته، وصار من أعلام عصره ونجوم مصره، فقصده المتصوفة وطلبة العلم على اختلاف مقاصدهم، يأخذون عن الشيخ مختلف العلوم، ونذكر على سبيل المثال أن منهم من درس الفقه الحنبلي عليه مثل ابن الحصري، محمد بن المبارك، المتوفى سنة 564، وكان كذلك من تلاميذ القاضي ابن أبي يعلى محمد بن محمد بن الفراء.
ومنهم كذلك محمد بن المنجا بن بركات بن المؤمل التنوخي الدمشقي، المولود سنة 519والمتوفى سنة606، قد جاء إلى بغداد وتفقه بها على الشيخ عبد القادر وغيره، وهو صاحب تصانيف فقهية في المذهب الحنبلي مبنية على فروع ومسائل كثيرة غير معروفة في المذهب، نقلها من المذاهب الأخرى وخرَّجها على ما يقتضيه عنده المذهب.
ولم يقتصر الشيخ عبد القادر على الوعظ، بل روى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وممن أخذ عنه المؤرخ الرحالة المحدث، أبو سعد السمعاني، عبد الكريم بن محمد، المولود بمرو سنة 506 والمتوفى بها سنة 562، صاحب كتاب الأنساب وكتاب تاريخ مرو وغيرها، قال السمعاني: مضينا لزيارته، فخرج وقعد بين أصحابه، وختموا القرآن، فألقى درسا ما فهمت منه شيئا، وأعجب من ذا أن أصحابه قاموا وأعادوا الدرس، فلعلهم فهموا لإلفهم بكلامه وعبارته.
وممن أخذ عليه الإمام الفقيه الحنبلي موفق الدين ابن قدامة، عبد الله بن محمد بن قدامة الجماعيلي المقدسي ثم الدمشقي، المولود في جماعيل بفلسطين سنة 541 والمتوفى بدمشق سنة 620، وصاحب كتاب المغني وكتاب روضة الناظر، وكناب المقنع، فقد رحل إلى بغداد سنة 561 فأدرك فيها الشيخ عبد القادر، وقال عن لقائه بالشيخ عبد القادر: دخلنا بغداد فإذا الشيخ عبد القادر ممن انتهت إليه الرئاسة بها علمًا وعملاً ومالاً واستفتاء، وكان يكفي طالبَ العلم عن قصد غيره من كثرة ما اجتمع فيه من العلوم، والصبر على المشتغلين، وسعة الصدر، وكان ملء العين، وجمع الله فيه أوصافاً جميلة، وأحوالاً عزيزة، وما رأيت بعده مثله، أدركناه في آخر عمره، فأسكننا في مدرسته، وكان يُعنى بنا، وربما أرسل إلينا ابنه يحيى، فيسرج لنا السراج، وربما يرسل إلينا طعاما من منزله، وكان يصلي الفريضة بنا إماما، وكنت أقرأ عليه من حفظي من كتاب الخرقي غدوة، ويقرأ عليه الحافظ عبد الغني من كتاب الهداية في الكتاب، وما كان أحد يقرأ عليه في ذلك الوقت سوانا، فأقمنا عنده شهرا وتسعة أيام، ثم مات، وصلينا عليه ليلا في مدرسته، ولم أسمع عن أحد يُحكى عنه من الكرامات أكثر مما يُحكى عنه، ولا رأيت أحدا يعظمه الناس للدين أكثر منه، وسمعنا عليه أجزاء يسيرة.
وكان الناس يتيمنون برأي الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله، ومن بركات رأيه نشأ المحدث حنبل بن عبدالله بن فرج بن سعادة، المولود سنة 510 والمتوفى سنة 604، فقد كان والده إنساناً صالحاً وقف نفسه على مصالح المسلمين، والمشي في قضاء حوائجهم، وكان أكثر همه تجهيز الموتى على الطرق. قال حنبل بن عبد الله: لما ولدت، مضى أبي إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني، وقال له: قد ولد لي ابن ما أسميه؟ قال: سمه حنبل، وإذا كبر سمِّعه مسند أحمد بن حنبل، قال: فسماني كما أمره، فلما كبرت سمعني المسند، وكان هذا من بركة مشورة الشيخ.
وصار حنبل في زمانه من أعلى رواة مسند الإمام أحمد، وذهب إلى الشام ليرويه، ولما سألوه السفر أخذوا يرغبونه فقالوا له: يحصل لك مال، ويقبل عليك وجوه الناس ورؤساؤهم، فقال: دعوني، فوالله ما أسافر لأجلهم، ولا لما يحصل منهم، وإنما أسافر خدمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أروي أحاديثه في بلد لا تروى فيه.
وكانت المنافسات القائمة على المذهب أو الاعتقاد شديدة في أيام الشيخ عبد القادر، يدخل فيها العوام ويتولون تسعيرها، وعلى سبيل المثال جاء إلى بغداد أبو الفتوح الإسفراييني محمد بن الفضل بن محمد، الواعظ المتكلِّم، المتوفى سنة 538، فصار في وعظه يتطرق للصفات ويظهر صحة المذهب الأشعريّ، فالتف حوله الشافعية، ولكن ذلك أثار فتنة كبيرة بين الحنابلة وبين الأشعرية، فأخرج على إثرها من بغداد، وتولى الشيخ عبد القادر ملأ الفراغ الذي خلفه الإسفراييني، وجلس للوعظ، وعكف الناسُ عليه. وإذا صحت الرواية التالية فهذا يعنى أن المنافسة وصلت إلى حد استبعاد القرب من الله لمن لا يتبع مذهباً بعينه، فقد روي عن الشيخ الزاهد علي بن إدريس البعقوبي المتوفي سنة 619، أنه سأل الشيخ عبد القادر، فقال: يا سيدي، هل كان لله وليٌّ على غير اعتقاد أحمد بن حنبل؟ فقال: ما كان، ولا يكون!
وللشيخ عبد القادر الجيلاني كتب، منها كتاب الغُنية لطالب طريق الحق عزوجل، وهو في الآداب الشرعية ومعرفة الخالق بالآيات والعلامات ومعرفة أخلاق الصالحين، وكتاب الفتح الرباني والفيض الرحماني، فيه 62 مجلساً ألقاها على تلامذته سنة 545 و546، وله أيضاً كتاب الفيوضات الربانية في الأوارد القادرية، وكتاب فتوح الغيب.
توفي الشيخ رحمه الله ببغداد، ويقال إن آخر كلامه عند موته كان: رِفقًا رفقًا. ثم قال: وعليكم السلام، وعليكم السلام. أجيء إليكم، أجيء إليكم.
وصلى عليه ولده عبد الوهاب، ودفن في مدرسته ببغداد رحمه الله تعالى، ووفقاً لمعاصره أبي الفرج ابن الجوزي، ولم يكن بينهما ود، فقد دُفِن أولاً في مقابر الصوفية لأنه أقام عندهم مدة في حياته فبقي على ذلك خمسة أيام، وما زال الحنابلة يلومون ولده على هذا، يقولون: مثل هذا الرجل الحنبلي أي شيء يصنع عند الصوفية؟ فنقله بعد خمسة أيام بالليل.
ورثاه نصر النميري غداة دفنه بقصيدة منها:
ذو المقام العليِِّ في الزهد ... لا ينكر قولَ المحبِ فيه الحسودُ
والفقيه الذي تعذر أن ... يُلقى له في الورى جميعاً نديد
كتب كثيرون في بلدان مختلفة وعصور متعاقبة عن الشيخ عبد القادر الجيلاني وبخاصة مناقبه، ولموسى بن محمد اليونيني كتاب مناقب الشيخ عبد القادر الجيلاني، ولمحمد بن يحيى التاذفي كتاب قلائد الجواهر في مناقب الشيخ عبد القادر، وللملا علي القاري الهروي كتاب سيرة الشيخ عبد القادر، ولعبد القادر الأربلي كتاب تفريج الخاطر في مناقب الشيخ عبد القادر، وللمفتي جعفر بن حسن بن عبد الكريم البرزنجي الشافعي المدني كتاب الجنى الداني في مناقب الشيخ عبد القادر الجيلاني، وغيرها كثير. وللمستشرق مرجليوث الانجليزي رسالة في ترجمته نشرها ملحقة بالمجلة الآسيوية الانكيزية.
وممن كتب في مناقب الشيخ رحمه الله أبو الحسن الشطنوفي، علي بن يوسف، المولود سنة 644 والمتوفى سنة 713، فقد ألف في ذلك كتاب بهجة الأسرار ومعدن الأنوار، والكتاب أنموذج لكثير من الكتب والحكايات التي عمادها المغالاة والمبالغات، وانتقده الإمام الذهبي، وكفى به ناقداً، فقال: كتب عمن أقبل وأدبر، فراج عليه فيها حكايات كثيرة مكذوبة. وقال ابن رجب الحنبلي في ذيل طبقات الحنابلة: ولكن قد جمع المقرىء أبو الحسن الشطنوفي المصري، في أخبار الشيخ عبد القادر ومناقبه ثلاث مجلدات، وكتب فيها الطم والرم، وكفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع، وقد رأيت بعض هذا الكتاب، ولا يطيب على قلبي أن أعتمد على شيء مما فيه، فأنقل منه إلا ما كان مشهوراً معروفاً من غير هذا الكتاب، وذلك لكثرة ما فيه من الرواية عن المجهولين، وفيه من الشطح والطامات والدعاوى والكلام الباطل، ما لا يحصى، ولا يليق نسبة مثل ذلك إلى الشيخ عبد القادر رحمه الله، ثم وجدت الكمال جعفر الأدفوي قد ذكر: أن الشطنوفي نفسه كان متهمًا فيما يحكيه في هذا الكتاب بعينه.
وتزوج الشيخ من أهل الأزج من ابنة المبارك بن الحسين بن محمود الخياط، وكان خال أولاده أبو محمد الوراق، عفيف بن المبارك، شيخا صالحا يورِّق للناس بالاجرة، ولد في سنة 512 وتوفي سنة 575، وتزوج الشيخ غيرها بلا شك فقد قال عبد الرزاق ولده: وُلِدَ لوالدي 49 ولداً، 27 ذكراً والباقي إناث. ولعل هذا يفسر كثرة المنحدرين من سلالته وانتشارهم في البلدان، حيث لا تخلو حاضرة من حواضر الإسلام من آل الجيلاني أو الكيلاني أو القادري، إضافة إلى أتباع طريقته الصوفية والذين قد يحملون هذا اللقب كذلك.
وحدث عن الشيخ من أولاده: عبد الوهاب، وعبد الرزاق، وعبد العزيز، وموسى، وعيسى، ويحيى، ومحمد، ولكن حظوظهم في العلم متفاوتة، وأمثلهم علماً وعملاً ابنه عبد الرزاق المولود سنة 528 والمتوفى سنة 613، وكان محدثاً حافظاً متقناً، ثقة صدوقاً، حسن المعرفة بالحديث، فقيهاً على مذهب أبي عبد الله أحمد بن حنبل، ورعاً متديناً، كثير العبادة، منقطعاً في منزله عن الناس، لا يخرج إلا في الجمعات، محباً للرواية، مكرماً لأهل العلم، سخياً بالفائدة، ذا مروءة، مع قلة ذات يده، وأخلاق حسنة، وتواضع وكيس، وكان خشن العيش، صابراً على فقره، عزيز النفس عفيفاً، على منهاج السلف.
أما ابنه عبد الوهاب، المولود في سنة 522 والمتوفى سنة 593، فكان فقيهاً واعظاً، وأسمعه والده الحديث في صباه، وقرأ الفقه على والده حتى برع فيه، ودرَّس نيابة عن والده بمدرسته وهو حي، وقد نيف على العشرين من عمره، ثم استقل بالتدريس بها بعده، وكان حسن الكلام في مسائل الخلاف، له لسان فصيح في الوعظ، وإيراد مليح مع عذوبة ألفاظ، وكان كيِّساً ظريفاً مليح النادرة، ذا مزح ودعابة وكياسة.
و تفقه ابنه موسى على أبيه وحدث ووعظ وأفتى، وزار مصر، فحدث بالقاهرة وتخرج به جماعة من علمائها، وتوفي بها سنة 573.
أما ابنه موسى المولود سنة 539 فأسمعه والده الحديث من محدثي زمانه، وسكن دمشق وحدث بها، وتوفي بها سنة 618، وهو آخر من مات من ولد الشيخ.
وتولى حفيده نصر بن عبد الرزاق المولود سنة 564 والمتوفى سنة 633، منصب قاضي القضاة في بغداد للخليفة الظاهر بأمر الله، في جميع مملكته، وجعل له النظر في الاوقاف العامة وأوقاف مدارس الشافعية والحنفية وغيرها، وكان أول قاض للقضاة من الحنابلة.
وانتشرت سلالة الشيخ عبد القادر الجيلاني ابتداءً من أولاده في أرجاء بلاد الإسلام، وآل الجيلاني أو الكيلاني أو القادري في الغالب بيت رئاسة وحشمة، وسؤدد ومروءة، معروفين بالخير والإحسان، ولهم مكانة واحترام لالتزام غالبهم بحبل الدين القويم وفاضل الأخلاق الكريمة، وهو أمر بقي فيهم أجيالاً كثيرة، ونورد بعض الأمثلة على ذلك، فمنهم في المشرق العربي محمد بن شِرشيق ابن محمد بن عبد العزيز بن عبد القادر الجيلاني المعروف بشيخ الحيال، وهي بلدة من أعمال سنجار، والمولود سنة 651 والمتوفى سنة 739، وكان فقيهاً محدثاً، ذا هيبة ووقار، وزهد وتقوى، لم تمس يده منذ عاش إلى أن توفي ذهباً ولا فضة، وله وجاهة عند الملوك، يناصحهم ويكاتبهم ولا يكترث بهم، وتحدر من ذريته صلحاء وعلماء رحل بعضهم إلى مصر، وصارت له وجاهة عند ملوك المماليك.
ومنهم في المغرب العربي النسابة عبد السلام القادري، المولود سنة 1058 والمتوفى سنة 1110، عبد السلام بن الطيب بن محمد القادري الحسني المغربي الفاسي، له نحو ثلاثين كتابا، منها كتاب الدر السني، في من بفاس من أهل النسب الحسني ، وكتاب العرف العاطر في من بفاس من أبناء الشيخ عبد القادر.
وقد نسبت إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني أشعار كثيرة تمتلأ بها كتب التصوف وتعثر على بعضها في ثنايا كتب الأدب، ومنها قوله:
ولما تعرض بي زائراً ... وما كان عندي له موعد
سهرت اغتناماً لليل الوصال ... لعلمي به أنه ينفد
فقال وقد رق لي قلبه ... وأيقن اني به مكمد
إذا كنت تسهر ليل الوصال ... فليل الصدود متى ترقد
ومن شعر الشيخ عبد القادر قوله:
ما في المناهل منهل يستعذب ... إلا ولي منه الألذ الأطيب
أنا بلبل الأفراح أملأ دوحها ... طرباً وفي العلياء باز أشهب
وقد سمع هذه الأبيات تنشد الشاعر علاء الدين الأصفوني المصري، علي بن أحمد، المتوفى سنة 731، وكان في حالة ضيق ونكد فقال:
ما في الموارد مورد يستنكد ... إلا ولي فيه الأمَرُّ الأنكد
أنا قُنبر الأحزان أملأ طَلحها ... حزناً وفي السفلى غراب أسود
ومن أقوال الشيخ عبد القادر رحمه الله التي تعبر عن نظرته العملية لصالح الأعمال: فتشت الأعمال كلها، فما وجدت فيها أفضل من إطعام الطعام، أود لو أن الدنيا بيدي فأطعمها الجياع.
وقيل للشيخ عبد القادر: إن في مريديك الجيد والرديء؟! فأجاب: أما الجيد فهو لنا، وأما الرديء فنحن له!
رحمه الله تعالى ونفعنا ببركته
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين
ذات صلة
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول