قتيبة بن مسلم البطل الشهيد ـ 1 ـ

الشيخ: محمد رجب بيومي

ندمتم على قتل الأغر ابن مسلم=وأنتم إذا لاقيتم الله أندم
وقد كنتمو من غزوه في غنيمة=وأنتم لمن لاقاكم اليوم مغنم
على أنه أفضى إلى حور جنة=وتطبق بالبلوى عليكم جهنم ـ جرير ـ
كان العهد الأموي مسرحاً للحروب الدامية داخلية وخارجية، ومجالاً رائعاً للبطولة الباهرة، والفروسية النادرة، فاتجه شباب العرب إلى النهوض بأعباء القتال، وأظهروا من فنون الشجاعة أعاجيب خارقة.
ونستطيع أن نطالع في تاريخ هذه الحقبة الدقيقة أسماء مختلفة لأبطال ممتازين من كماة العرب وفرسانهم، غنموا لأمتهم ذخراً كبيراً، وكسبوا لدينهم مجداً تالداً، ووثبوا إلى القمة العالية منتصرين ظافرين.
وفي طليعة هؤلاء المغاوير قتيبة بن مسلم الباهلي، ذلك العملاق الفذ الذي ضم للإسلام دولاً شاسعة فيما وراء النهر، فأخرج ـ بكفاحه الباسل ـ القطيع الوثني في هذه الوثني في هذه الأصقاع الدامسة، من ظلمات الشرك إلى نور الإيمان، ومشرق التوحيد.
ولقد نشأ قتيبة بن مسلم في بيت يهيم بالفروسية والبطولة، فأبوه مسلم بن عمرو بن الحصين الباهلي، كان مضرب المثل في الفتوى والبسالة، وكان له فرس من عتاق الخيل يسمى بالحرون، لا يمتطيه غير ذوي البأس والثبات من فرسان البادية المغاوير، فشب قتيبة ولده طامحاً للمجد والرئاسة عن طريق الفتوى والبطولة.
وإذا كان الإسلام الخالد قد جاء بالمساواة العادلة بين القبائل والشعوب فإن فريقاً ممن سرت في عروقهم دماء الجاهلية كانوا ينظرون إلى قبيلة باهلة نظرة شزراء، ويرونها دون القبائل العربية مجادة وبطولة فنظموا في هجائها الأبيات الفاحشة، وعدوا بوحي من عصبيتهم ـ الانتساب إليها ضعة مهينة.
ولكن قتيبة ووالده من قبله ـ قد رفع هذه القبيلة المتواضعة ـ بما كسبه من مجد باذخ ـ إلى مصاف القبائل العريقة، ولولا المساواة العادلة التي سنها الإسلام في الشعوب والقبائل ما اختارت الدولة الإسلامية من باهلة قائداً يفخر بأمجاده كل عربي يعتز بلغته ودينه، ثم هو في الوقت نفسه برهان عملي يقدمه الإسلام على صدق دعوته الرفيعة إلى تكافؤ الفرص والمساواة.
وكانت معارك الخوارج الرهيبة مجالاً رائعاً لبطولة قتيبة في شبابه الغض، فقد خاض لججها الدامية بجنان ثابت وعزم صبور، وأظهر من فنون الصيال وعجائب الإقدام ما جعل الحجاج بن يوسف الثقفي يقدر بطولته الخارقة، وينوط به العظائم الفادحة، فينهض بأعبائها أكمل نهوض.
وكانـ إلى قوة بأسه وشدة مراسه ـ عالي الهمة جريء اللسان، ينتقد رؤساءه في صراحة تامة، وثقة بالغة، فحين فاجأ شبيب بن يزيد بطل الخوارج الكوفة، عقد الحجاج مجلساً حربياً من قواد الجيش وأخذوا يتشاورون فيما يجب أن يقوموا به إزاء شبيب، فقام قتيبة وكلم الحجاج كلاماً قاسياً ينبئه عن تقصيره في الأهبة، وينعي عليه حيرته و تردده. فقال الحجاج: وما الرأي يا قتيبة ؟ فقال: الرأي أن تخرج أنت وتقود الجيش ونحن وراءك.
وكان ما أراد البطل الباهلي، فخرج الحجاج في طليعة الجيش، وأبلى قتيبة بلاء رائعاً، وقد ظهر في لباس حربي أخاذ، وانهزم الخوارج هزيمة ساحقة، فتردد صيت الفارس الشاب، في كل مكان، ولم تكن هزيمة شبيب وأصحابه بالأمر اليسير، فهم على قلة عددهم يقتحمون الحتوف دون مبالاة بلبها المبيد، ثم هم يلجأون إلى المكايد الواسعة والحيل الرهيبة، فيسعفهم الرأي البصير، بما تتقاصر عنه القوة الحافلة، والعدة الصارخة، حتى اقتحموا الكوفة، ودخلوا على الحجاج عرينه المنيع، فطلب المدد من الشام، وغشيه القلق الساهد.
ولولا كفاح قتيبة الرهيب، وتقدمه الصفوف في طريق من الأشلاء، ما تم النصر للحجاج في معركة كانت ـ بالنسبة إليه خاصة ـ معركة فناء واستئصال.
أخذ الحجاج بعد مقتل شبيب يضع قتيبة في الصف الأول بين جنوده وأعوانه، ويراه كفئاً لكل كريهة دامية تتطلب الكمي الباسل، وكان يكن لآل المهلب عداوة شنيعة، ويرى في استثارهم بخراسان نكبة فادحة، فهم أهل عزيمة جبارة، وأبطال كفاح قاهر، ومن الجائز أن يقتطعوا خراسان من الأمويين، وينادوا بأنفسهم خلفاء كالزبيرين، فكتب إلى عبد الملك بن مروان يزين إليه عزل يزيد بن المهلب، وأمير المؤمنين يعلم ما بين الرجلين من تطاحن مريب، فيزيد ينظر إلى الحجاج نظرة جاهلية تنطوي على الاستهانة بأصله المتواضع، ونشأته في ثقيف، ويرى وهو السيد العريق أن  مكانه من قبائل الأزد القوية ذات الحشد الهائل، والأرومة المتغلغلة يجعله فوق الحجاج مرتبة وكفاية.
والحجاج يرى طموح يزيد وصولته، فيتأكد من عصيانه ومروقه، ويصارح بضرورة عزله وغقصائه، حتى تم له ما أراد ووافق عبد الملك على خلعه وتأمير قتيبة بن مسلم مكانه، ذلك القائد الذي رشحه الحجاج فنهض بالعبء وملك الزمام.
سار قتيبة إلى خراسان لوقته، فاستعرض الجند ورتب شؤون الإمارة والحكم، وتأهب لفتح ممالك ما وراء النهر، ليشغل الخراسانيين بالغزو والجهاد، ثم بد له أن يعدل من سياسة يزيد في اختيار القادة والأعوان حيث كان يعتمد في استشاراته ومهامه الحربية على العرب وحدهم، دون أن يشرك الفرس في إحكام خطة، أو قيادة كتيبة، مما فسح المجال للتفرقة وغرس بذور الخلاف في الجيش الواحد.
وقد شاء القائد الجديد أن يرأب هذا الصدع، فوثق في كفاية الفارسيين، و قدمهم في المناصب والقيادة، وأصبح الجيش الإسلامي إلى حد ما كتلة واحدة، تقف أمام العدو متراصة متساندة، واستطاع قتيبة أن يرضي نفوساً كثيرة، لم تكن لتجاهد بإخلاص وعزيمة وهي مهدرة الحق ضائعة المكانة بين الناس.
سار الجيش الإسلامي بقيادة قتيبة، فعبر النهر إلى أرمينية وبخارى والتركستان، وكانت هذه الممالك فيما بينها متنافرة متدابرة يغمرها الجور والفساد، وقد وقع الرعب في نفوس ملوكها الضعاف، وحاروا فيما يصنعون إزاء الخطر الداهم، فمنعم من أذعن وصالح، ومنهم من قاوم ودافع، وقد سارع ملك الصغانيان فقدم التحف والهدايا، وأعلن خضوعه واستسلامه، فتقدم الجيش إلى مملكتي أخرون وسومان، فصالحهما على الجزية، وسار قتيبة مثقلاً بما حمل من مال وعتاد.
ولكن الحجاج لم يعجب بخطة المصالحة والهدنة، فليس المراد من الغزو الإسلامي تكديس الثروات وجمع الأموال، بل إن نشر الإسلام وحده هو الهدف الأول في بلاد تغمرها الوثنية بظلامها الكثيف، وإذ ذاك بعث إلى قتيبة يلفته إلى المهمة الأساسية للغزو والجهاد، ولم يكن قتيبة غافلاً عن رسالته في الغزو، ولكنه كان لأول عهده يختبر الدروب، ويستطلع المسالك في مطارح نازحة تستدعي المصانعة والتريث، حتى إذا ملك أمره، وتبين طريقه عمد إلى تحقيق هدفه في ثبات واطمئنان، وهذا ما كان منه بعد الجولة الأولى، فقد أعد العدة الكافية لمهاجة الحصون المنيعة في بخارى والصعد، ودقت طبول الحرب في أصقاع التركستان.
كان الخطر مزعجاً داهماً، فتجمعت كلمة الملوك، ووقفوا صفاً واحداً أمام العدو المشترك وزحفت جمع الوثنية إلى قتيبة، فحاصروه حصاراً أليماً، ولقي ضروباً قاسية من الأهوال في مطارح نائية لا عهد له بوهادها المضطربة وآكامها الممتدة، ولكنه لم يغفل لحظة واحدة عن خصومه، بل هجم هجوم المستميت، وركز نضاله في جبهة واحدة، فتفرق حماتها أباديد، ووقع الرعب في الجيش الوثني، فتبعه قتيبة مثخناً مجهزاً، و تحقق له ظفر مبدئي كان فألاً طيباً للقائد العظيم.
أجل لم يكن النصر حاسماً قاطعاً رغم ما استولى عليه المسلمون من الغنائم والأسلاب، وما جمعوه من الأواني الذهبية والتحف النادرة، بل إن فلول الجيش المنهزم قد استغاثت بأشياعها وأحلافها، وتكدست الوثنية مرة ثانية أمام قتيبة، فأجمع ملوك الصغد، والترك وأهل فرغانة وكش ونسف على مقاتلة المسلمين، فلم يكترث بهم قتيلة وتقدم إلى فتح بخارى ملقياً بجنوده أمام الطوفان الهائل من من القطيع المتلاحم، ودارت معركة رهيبة هزم فيها المسلمون بادئ ذي بدء، وكان الوثنيون يتحصنون بنهر كبير، فحشد القائد العربي قوته وعبر النهر إلى أعدائه، من حيث يأمنون، فساد الفزع والاضطراب، وتلقفتهم أمواج النهر ورماح الغزاة، وسقطت بخارى المنيعة بعد أن حصدت أمامها الرؤوس، وسالت بها جداول الدماء.
 ـ يتبع ـ
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر: مجلة الأزهر المجلد 26، جمادى الأولى 1374هـ، العدد العاشر.
 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين