الهدى والضلال ـ7 ـ

 

الشيخ مجد مكي
الدعاء وأثره في الهداية
5 ـ ومن أسباب الهداية: الدعاء: فقد علَّم الله تعالى عباده أن يسألوه الهداية في قوله:[اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ] {الفاتحة:6}.
وذلك في كلَّ ركعة من ركعات الصلاة وفي غيرها من الأحوال.
وربَّ قائل يقول: كيف يسأل المؤمن الهداية في كلِّ وقت من صلاة وغيرها، وهو متَّصف بها؟
فالجواب: لأنَّ المؤمنَ مفتقرٌ إلى هداية ربِّه في كلِّ لحظةٍ وفي كل حال. فأرشده الله أن يسأله في كلِّ وقت أن يثبته على الهداية، فإن من شأن المؤمنين أن يسألوا الله تعالى دوام الهدى.
قال الله تعالى على لسان المؤمنين أولي الألباب:[رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ] {آل عمران:8}.والقلب المؤمن يُدرك قيمة هذا الاهتداء بعد الضلال، وقيمة الرؤية الواضحة بعد الظلام، وقيمة الاستقامة على الدرب بعد الحيرة، وقيمة التحرر من العبودية للعبيد بالعبودية لله عزَّ وجل، ومن ثم يشفق من العودة إلى الضلال،كما يشفق السائر في الدرب المستقيم المنير من أن يعود إلى التخبط في المنعرجات المظلمة، وكما يشفق من ذاق نداوة الظلال أن يعود إلى الهجير القائظ والشواظ... وفي بشاشة الإيمان حلاوة لا يدركها إلا من ذاق جفاف الإلحاد وشقاوته المريرة...
وفي طمأنينة الإيمان حلاوة لا يدركها إلا من ذاق شقوة الشرود والضلال... ومن ثَمَّ يتَّجه المؤمنون إلى ربهم بهذا الدعاء الخاشع:[رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا] {آل عمران:8}. وينادون رحمة الله التي أدركتهم بالهدى بعد الضلال،ووهبتهم هذا العطاء الذي لا يعدله عطاء:[ وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ] {آل عمران:8}. فهم يعرفون أنهم لا يقدرون على شيء إلا بفضل الله تعالى ورحمته، وأنهم لا يملكون قلوبهم فهي في يد الله تعالى، فيتّجهون إليه بالدعاء أن يثبتهم على الهدى، وألا يزيغ قلوبهم بعد الهدى، وأن يسبغ عليهم رحمته وفضله.
 روى الترمذي(2066)، وابن ماجه (3824)، وأحمد (11664) عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تَخَافُ عَلَيْنَا، وَقَدْ آمَنَّا بِكَ، وَصَدَّقْنَاكَ بِمَا جِئْتَ بِهِ، فَقَالَ: (إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ يُقَلِّبُهَا) .
وروى أحمد (23463) عن عائشة رضي الله عنها قَالَتْ: دَعَوَاتٌ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَدْعُوَ بِهَا: يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ. قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ تُكْثِرُ تَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ؟ فَقَالَ: (إِنَّ قَلْبَ الْآدَمِيِّ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِذَا شَاءَ أَزَاغَهُ، وَإِذَا شَاءَ أَقَامَهُ).
 ومتى استشعر القلب المؤمن وقع المشيئة على هذا النَّحو لم يكن أمامه إلا أن يلتصق بركن الله في حرارة، وأن يتشبَّث بحماه في إصرار، وأن يتَّجه إليه يناشدُه رحمتَه وفَضْلَه لاستبقاء الهدى الذي وهبه، والعطاءِ الذي أولاه.
فالدعاء سلاح المؤمن في الشَّدائد، فلا تَسْأم من الاستكثار من الدعاء، ولا تقل: دَعَوْتُ دَعَوْتُ ولم يستجب لي، فدعاؤك محفوظ، فإما أن يعطيكَ الله، ما دعوت، أو يصرف عنك من السُّوء مثله، أو يدَّخر لك دعوتك حين تلقاه، وأنت في أشدِّ الحاجة إليها:[وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ] {غافر:60}.
يقول الله تعالى في الحديث القدسي: (يا عبادي كلُّكم ضالٌّ إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم) رواه مسلم (4674) من حديث أبي ذر.
والنبيُّ صلى الله عليه وسلم كان لا يفْتُر من الدعاء، وهو المغفور له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر: فكان يدعو حين القيام لصلاة الليل: (اللهمَّ ربَّ جبريل وميكائيلَ واسرافيلَ، فاطرَ السموات والأرض، عالمَ الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اللهم اهدني لما اختلف من الحقِّ بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم) رواه أحمد (23188) ، وأبو داود (653) ، والترمذي (3342) ، والنسائي (1607) من حديث عائشة رضي الله عنه .
***

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين