من أدب الأقران ـ 2 ـ - الالفة والمحبة بين أتباع المذاهب الفقهية
من أدب الأقران ـ 2 ـ
بقلم: حمزة البكري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه:
فقد سـرَّحتُ نظري في هذا الموقع الفريد، فاكتحلت عيني بمـا رأته فيه من مقالات علمية ودعوية، فيها النفع والفائدة، ولم أكن لأتفاجأ بذلك إذ كنتُ أعلم أنه بإشراف شيخنا العلامة البحاثة المفيد الأستاذ مجد بن أحمد مكي حفظه الله تعالى ورعاه.
ومن المقالات التي استهوتني: ما كتبه شيخنا الفاضل العلامة المؤرخ الأستاذ محمد بن عبد الله آل رشيد حفظه الله تعالى ونفعنا به، تحت عنوان (من أدب الأقران)، فذكرني هذا العنوان بقصَّة لطيفة، جديرةٌ أن تكون الحلقة الثانية لـ(أدب الأقران)، وها أنا أورِدُها هنا للفائدة:
بين الإمامين : الدامغاني والشيرازي :
ذكر العلامة السيد محمد يوسف البنوري رحمه الله تعالى في شرحه على (جامع الترمذي) المسمى (معارف السنن) 1 : 163 نقلاً عن شيخه إمام العصر مولانا أنور شاه الكشميري: أن الإمام الدامَغَاني الحنفي مرَّ يوماً بمسجد الإمام أبي إسحاق الشيرازي الشافعي، وكان وقت الصلاة، فدخل الدامغاني المسجد للصلاة، فلمـا رآه أبو إسحاق أمر المؤذن أن لا يُرجِّع في أذانه، ثم قدَّمه أبو إسحاق ليؤمَّهم، فلما أمَّهم الدامغاني صلى بهم صلاةَ الشافعية.
قلت: أما الدامغاني فهو الإمام الكبير قاضي القضاة أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد الدامغاني، المولود بدامغان ـ وهي بلدة بين الري ونيسابور ـ سنة 398، والمتوفى ببغداد سنة 478، رحمه الله تعالى، تفقه ببلده، ثم قدم بغداد فتفقه على الإمامين أبي عبد الله الصَّيْمري وأبي الحسين القدوري، حتى انتهت إليه رئاسة الحنفية في زمانه، وتولى قضاء بغداد من سنة 447.
وأما أبو إسحاق الشيرازي فهو الإمام الفقيه الزاهد إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزآبادي الشيرازي، المولود بفيروزآباد من بلاد فارس سنة 393، والمتوفى ببغداد سنة 476، رحمه الله تعالى.
تفقه ببلده، ثم انتقل منها إلى البصرة، ثم إلى بغداد سنة 415، وما زال بها حتى انتهت إليه رئاسة الشافعية في زمانه، وبنى له نظام الملك المدرسة النظامية ببغداد فدرس بها، وكان رحمه الله مضرب المثل في الزهد والقناعة، له مجموعة من المؤلفات أشهرها (المهذب) و(التنبيه) في الفقه، و(اللمع) في أصول الفقه.
ومن لطيف ترجمتيهما:
ـ ما قيل في القاضي أبي عبد الله الدامغاني من أنه كان يُشبَّه بالقاضي أبي يوسف حشمةً وجاهاً وسؤدداً وعقلاً، وما قيل في الإمام أبي إسحاق من أنه لو رآه الإمام الشافعي لتجمَّل به.
فانظر إلى هذا الذي بلغاه بفضل العلم، كيف أصبح كل واحد منهما يُقارَن بإمامه.
ـ ومنه أيضاً: ما ذكره القاضي محمد بن محمد الماهاني قال: إمامان ما اتفق لهما الحج: الشيخ أبو إسحاق، والقاضي أبو عبدالله الدامغاني، أما أبو إسحاق فكان فقيراً، ولكن لو أراده لـحُمِلَ على الأعناق، وأما الدامغاني فلو أراد الحج على السندس والإستبرق لأمكنه، لكن ما اتفق لهما.
ـ ومنه أيضاً: ما ذكره الذهبي في (سير أعلام النبلاء) قال: كان القاضي أبو عبد الله الدامغاني يورد في درسه من المداعبات والنوادر نظير ما يورد الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، فإذا اجتمعا، صار اجتماعهمـا نزهة([1]).
الشيرازي يأمر المؤذن أن لا يُرجِّع في أذانه:
قلت: فمن الفوائد المستحسنة أن نرى الشيرازي، وهو إمام الشافعية في عصره، يأمر المؤذن أن لا يُرجِّع في أذانه ـ والترجيع في الأذان: أن يأتي المؤذن بالشهادتين سراً قبل أن يأتي بهما جهراً، وهو مذهب الشافعية ـ احتراماً للدامغاني لأنه حنفي لا يقول بالترجيع في الأذان.
الدامغاني يصلي بهم صلاة الشافعية:
 ثم نرى الدامغاني ـ وهو إمام الحنفية في عصره ـ لا يستنكف أن يُصلي بهم صلاة الشافعية، أي: بالسنن والـهيئات التي قال بها الشافعية ولم يقل بها الحنفية.
فأين هؤلاء الذين يشيعون القول بأن اتباع المذاهب الفقهية يؤدي إلى الفرقة والاختلاف والتنافر والتشاحن والتعصب، أين هم من هذه الحادثة وأمثالها؟!
مناظرتان فقهيتان:
ولتدرك تماماً ما كان عليه هذا الإمامان الجليلان من الأدب العلمي الرفيع مع الاختلاف الفقهي الواقع بينهما، فاقرأ المناظرتين الواقعتين بينهما، وقد أوردهما السبكي في ترجمة الشيرازي من (طبقات الشافعية الكبرى).
أما الأولى فكانت في مجلس عزاء في بغداد، اجتمع فيه هذان الإمامان، فتناظرا في الذمي إذا أسلم هل تسقط عنه الجزية لما مضى أم لا؟
وكذلك الثانية كانت في مجلس عزاء في بغداد، وقد حضرها الإمام أبو الوليد الباجي ونقلها، وذلك أن زوجة القاضي أبي الطيب الطبري ـ أحد أئمة الشافعية ـ توفيت، فحضر العزاء القاضي أبو عبد الله الصيمري ـ أحد أئمة الحنفية ـ ، فرغب جماعة من الحاضرين أن يتكلم الإمامان في شيء من العلم، أما أبو الطيب فأظهر الإسعاف بالإجابة، وأما الصيمري فامتنع وقال: من كان له تلميذ مثل أبي عبد الله ـ يريد الدامغاني ـ لا يخرج إلى الكلام، وها هو حاضر، فمن أراد أن يكلمه فليفعل، فقال أبو الطيب عند ذلك: وهذا أبو إسحاق من تلامذتي ينوب عني، فجرت المناظرة بينهما في مسألة الإعسار بالنفقة، هل يوجب الخيار للزوجة أم لا؟
وفي المناظرتين ترى ما كان عليه الفقهاء من غوص في دقائق العلم، مع أدب العلم والتعلم.
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم             إن التشبه بالكرام فلاحُ
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
 
حمزة بن محمد وسيم البكري
عفا الله تعالى عنه
 


([1]) انظر ترجمة الدامغاني في (سير أعلام النبلاء) للذهبي 18 : 485 ـ 487، و(الجواهر المضية) للقرشي 3 : 269 ـ 271، و(الفوائد البهية) للكنوي ص182 ـ 183، وترجمة الشيرازي في (سير أعلام النبلاء) 18 : 452 ـ 465، و(طبقات الشافعية الكبرى) للسبكي 4 : 215 ـ 236.
 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين