حدث في الثاني من ربيع الآخر

في الثاني من ربيع الآخر من سنة 296 توفي مقتولاً في بغداد، عن 47 عاماً، الأمير العباسي، وخليفةُ يومٍ وليلة، عبد الله بن المعتز، الأديب الشاعر.

وقبل أن نتحدث عن حياة ابن المعتز وأدبه وشعره، نذكر الأسباب التي أدت إلى تنصيبه خليفة ثم قتله، ونبدأ من سنة 289 حين توفي، عن 47 سنة، الخليفة العباسي المعتضد بالله، أحمد بن طلحة، وكان خليفة حازماً مدبراً أعاد للخلافة هيبتها وللدولة العباسية عزّها.
وعند وفاة المعتضد كان ابنه وولي عهده علي غائباً بالرقة، فنهض بأعباء البيعة له الوزير أبو الحسين القاسم بن عبيد الله، وكتب إليه فوصل، وبويع له وتلقب بالمكتفي، وكان عمره 25 عاماً، فقام بشؤون الملك قياما حسناً، وتابع توطيد أركان الدولة وقمع الثائرين عليها، وتوفي في 12 من ذي القعدة من سنة 295 عن 31 عاماً، وخلَّف في خزائنه مئة ألف ألف دينار عيناً، وأمتعة وعقاراً وأواني بمثلها.
ولما توفي المكتفى بويع لأخيه جعفر وتلقب بالمقتدر بالله، وعمره إذ ذاك 13 سنة، ولم يل الخلافة أحد قبله أصغر منه، وكان تعيينه بنفوذ الوزير العباس بن الحسن، فقد كانت الدولة من الضعف والخلافة من الهزال بحيث يتحكم الوزراء في تعيين الخليفة، ولتعيينه وهو حَدَث صغير قصة ينبغي إيرادها.
لما مات المكتفي بالله، جمع الوزير العباس بن الحسن كتابه وخواصه، وخلا بهم وشاورهم فيمن يقلده الخلافة، فأجمعوا على عبد الله بن المعتز، إلا أبا الحسن بن الفرات فإنه أمسك. فقال له العباس: لما أمسكت، ولم تورد ما عندك؟ فقال: هو أيها الوزير، موضع إمساك. قال: ولم؟ قال: إنه وجب أن ينفرد الوزير - أعزه الله - بكل واحد منا، فيعرف رأيه، وما عنده، ثم يجمع الآراء، ويختار منها بصائب فكره، وثاقب نظره ما شاء، فأما أن يقول كل واحد رأيه بحضرة الباقين، فربما كان عنده ما يسلك سبيل التقية في كتمانه وطيه.
قال: صدقت والله، قم معي. فأخذ يده، ودخلا وترك الباقين بمكانهم، فقال له ابن الفرات: قررت رأيك على ابن المعتز؟ قال: هو أكبر من يوجد. قال ابن الفرات: وأي شيء تعمل برجل فاضل متأدب، قد تحنك وتدرب، وعرف الأعمال، ومعاملات السواد، وموقع الرغبة في الأموال، وخبر المكاييل والأوزان، وأسعار المأكولات و المستغلات، ومجاري الأمور والمتصرفات، وحاسب وكلاءه على ما تولوه وضايقهم وناقشهم، وعرف من خياناتهم واقتطاعاتهم أسباب الخيانة والاقتطاع التي يدخل فيها غيرهم، فكيف يتم لنا معه أمر، إن حمل كبيراً على صغير، وقاس جليلاً على دقيق، هذا لو كان ما بيننا وبينه عامراً، وكان صدره علينا من الغيظ خالياً، فكيف وأنت تعرف رأيه؟!
قال العباس: وأي شيء في نفسه علينا؟ قال: أنسيت أنه من ثلاثين سنة يكاتبك في حوائجه فلا تقضيها، ويسألك في معاملاته فلا تمضيها، وعمالك يصفعون وكلاءه فلا تنكر، ويتوسل في الوصول إليك ليلاً، فلا تأذن، وكم رقعة جاءتك بنظم ونثر فلم تعبأ بها، ولا أجبته إلى مراده فيها، وكم جاءني منه، ما هذا سبيله، فلم أراع فيه وصولاً إلى ما يريد إيصاله، وهل كان له شغل عند مقامه في منزله، وخلوته بنفسه، إلا معرفة أحوالنا، والمساءلة عن ضِياعنا ودخلنا وحسدنا على نعمتنا؟! هذا، وهو يعتقد أن الأمر كان له ولأبيه وجده، وأنه مظلوم منذ أن قُتِل أبوه، مهضوم مقصود مضغوط، فكيف يجوز أن نسلم إليه نفوسنا فضلاً عن أموالنا؟ تُقلِّدْ جعفر بن المعتضد، فإنه صبي، لا يدري أين هو، وعامة سروره، أن يُصرَف من المكتب، فكيف أن يجعل خليفة، ويملك الأعمال والأموال، وتدبير النواحي والرجال، ويكون الخليفة بالاسم، وأنت هو على الحقيقة، وإلى أن يكبر، قد انغرست محبتك في صدره، وحصلت محصل المعتضد في نفسه.
قال: فكيف يجوز أن يبايع الناس صبياً، أو يقيموه إماماً؟ فقال له: أما الجواز فمتى اعتقدتَ أنت، أو نحن، إمامةَ البالغين من هؤلاء القوم؟ وأما إجابة الناس، فمتى فعل السلطان شيئاً فعورض فيه، أو أراد أمراً فوقف؟ وأكثرُ من ترى صنائع المعتضد، وإذا أظهرت أنك اعتمدت في ذلك مراعاة حقه، وإقرار الأمر في ولده، وفرقت المال وأطلقت البيعة، وقع الرضا وسقط الخلاف، وطريق ما تريده أن تواقف بعض أكابر القواد، وعقلاء الخدم على المضي إلى جعفر بن المعتضد وحمله إلى دار الخلافة، وأن تستر الأمر إلى أن يتم التدبير، وإن اعتاص معتاص، مد بالعطاء والإحسان.
فقال العباس: هذا هو الرأي، واستدعى في الحال مؤنساً مولى المعتضد، وأورد عليه ما أشار به أبو الحسن من الوفاء للمعتضد، ورعاية ما كان منه في اصطناع الجماعة، ورسم له حمل جعفر إلى دار الخلافة، والسلام عليه بها، ففعل. وماج الجند، ففرق فيهم مال البيعة، ودخل عليهم من طريق الوفاء للمعتضد، وتم التدبير.
ولما جلس المقتدر في منصب الخلافة صلى أربع ركعات ثم سلم ورفع صوته بالدعاء والاستخارة، ثم بايعه الناس بيعة العامة، وكان المقتدر جيّد العقل والرأي، لكنه كان مؤثراً للعب والشهوات، غير ناهضٍ بأعباء الخلافة، وكانت أمه وخالته والقهرمانة يتدخلن في كبار الأمور والولايات والحلّ والعقد من أمور الخلافة، وفتنة القرامطة قد ذرّت بقرنها وبدت نذر قيامتها، فأثار ذلك استياء رجالات الدولة من القواد والكتّاب، فاجتمعوا على خلع الخليفة المقتدر، وتناظروا فيمن يجعلونه موضعه، فأجمعوا رأيهم على عبد الله بن المعتز، وحدثوه بذلك، فأجابهم إليه على أنه لا يكون في ذلك سفك دم ولا حرب، فأخبروه أن الأمر يسلم إليه عفواً، وأن جميع من وراءهم من الجند والقواد والكتاب قد رضوا، فبايعهم على ذلك، وكان الرأس في ذلك محمد بن داود بن الجراح، وأبا المثنى أحمد بن يعقوب القاضي، والأمير حسين بن حمدان.
وتواطأ محمد بن داود مع جماعة من القواد على الفتك بالمقتدر وبالأمير فاتك قائده، وبالعباس بن الحسن وزير المقتدر يومئذ، وكان العباس بن الحسن نفسه قد مال أولاً إلى خلع المقتدر والبيعة لعبد الله بن المعتز، فلما رأى أمره مستوسقاً له مع المقتدر على ما يحب، غيّر رأيه فيما كان قد عزم عليه، فحينئذ قرر الآخرون قتله.
فلما كان في التاسع عشر من ربيع الأول، ركب الحسين بن حمدان والوزير والأمراء، فشد ابن حمدان على الوزير فقتله، فأنكر فاتكٌ قتله، فعطف على فاتك فألحقه بالوزير، ثم ساق ليثلث بالمقتدر، وهو يلعب بالصوالجة، فسبقه الحاجب المنصور فأخبر المقتدر فدخل وأغلقت الأبواب، وتمركز جنوده حول سور دار الخلافة.
واجتمع قرابة 5000 من أنصار ابن المعتز في دار سليمان بن وهب عند المغرب، فيهم كبار رجال الدولة والقضاة والعدول، وأدار الاجتماع الوزير محمد بن داود بن الجراح، فأثنى على عبد الله بن المعتز، وأظهر كتاباً خلع فيه المقتدر، واحتج بأن إمامته لا تجوز لقصوره من بلوغ الحلم وصغره عن الخلافة، واستحقاق عبد الله إياها لكماله وحنكته ومعرفته في أمور المسلمين وعلمه بشرائع الدين، فشهد العدول على ما في الكتاب ومن حضر من أشراف بغداد، وبايعوا ابن المعتز الذي تلقب بالمرتضي بالله، ثم تكلم عبد الله بن المعتز وذكر المقتدر وأنه لا صلاة للناس معه ولا حج ولا غزو، وقال: قد آن للحق أن يتضح، وللباطل أن يفتضح.
وأرسل ابن المعتز إلى المقتدر رسالة قال فيها: إن المرتضي بالله أمير المؤمنين قد أمَّنك، وأمرك بلزوم دار ابن طاهر مع أمك وجواريك. فجاء الجواب مع رسول من المقتدر، قال: إن أمير المؤمنين المقتدر يقول: ارجع إلى منزلك، وأبق على نفسك وحرمك، فإني أؤمنك، فلا تلهب نار الفتنة. فقال ابن المعتز للرسول: قل لمولاك: يا بني: هذا كتابي إليك فاقرأه وامتثل ما أمرتك فيه.
وأمر ابن المعتز الحسين بن حمدان أن يهاجم دار الخلافة، ولكن حاشية المقتدر بذلت الأموال لتستميل الناس، واستعد مماليك المقتدر ومن بقي معه من جنود الخلافة للقتال، فلما هاجمهم ابن حمدان أمطروه بوابل من الأسهم اضطر إزاءها للانسحاب، وقامت العامة بضرب المنسحبين من الأسطحة، فضج أصحاب المقتدر بالتكبير، وارتفعت معنوياتهم، واستمر القتال شديداً من غدوة إلى انتصاف النهار.
ثم قام الخادم مؤنس بحركة مباغتة فاجأت الخصوم وضعضعت صفوفهم، وهي أنه أرسل محموعة من جنوده في المراكب في دجلة، حتى وصلوا إلى دار ابن وهب وفيها ابن المعتز ومحمد بن داود، فباغتوهم من حيث لم يحتسبوا ورشقوهم بالنشاب، فتفرقوا وهرب من كان في الدار من الجند والقواد والكتاب، وهرب ابن المعتز على فرس ومعه وزيره وحاجبه وعدد قليل من أنصاره، وخرج من بغداد شاهراً سيفه، وهو ينادي: معاشر العامة، ادعوا لخليفتكم، وقصد سامراء ليثبت بها أمره، فلم يتبعه كبير أحد، فخذل ونزل عن فرسه، واختفى في دار أحد كبار التجار ويدعى ابن الجصاص.
وبادر بعض الذين بايعوا ابن المعتز فلحقوا بالمقتدر، فاعتذروا إليه بأنهم كانوا كالمحجور عليهم، واستخفى بعضهم ومنهم الوزير محمد بن داود، الذي نهبت العامة دوره.
واضمحل أمر ابن المعتز، وعاد المقتدر إلى سدة الخلافة، وكان من توفيقه أن استوزر أبا الحسن علي بن الفرات، وكان موصوفاً بالعدل وحسن التدبير، ومن أول ما ظهر من محاسنه أنه حُمِل إليه من دار ابن المعتز صندوقان عظيمان، فقال: أعلمتم ما فيهما؟ قيل: نعم، جرائد بأسماء من بايعه، فقال: لا تفتحوهما، ودعا بنار فطرح الصندوقين فيها، فلما احترقا قال: لو فتحتهما وقرأت ما فيهما، فسدت نيات الناس بأجمعهم علينا، ومع ما فعلناه قد هدأت القلوب وسكنت النفوس.
وكان من أول ضحايا هذه الفتنة محمد بن داود بن الجراح، الذي خسرت بمقتله اللغة والأدب العربي أديباً عالماً يعلم قدره من قرأ كتابه الشعر والشعراء وكتابه الوزراء، وغيرها من الكتب، رحمه الله تعالى. فقد أراد الظهور من مخبئه فراسل ابن الفرات فأشار عليه بالتريث، ولكن ابن الجراح ارتاب بقول ابن الفرات، وظن أنه يريد أن تستمر عليه النكبة، فقال: أي ذنب لي أحتاج معه إلى زيادة في الانتظار؟! ومضى إلى سوسن الحاجب، فلما استؤذن عليه لم يصدق، وظن أنه رسول منه، واستثبت حاجبه واستفهمه، فخرج وعاد وقال: قد حضر هو بنفسه، فعجب من ذلك وأدخله، وأنهى خبره إلى المقتدر بالله، فأمره بتسليمه إلى مؤنس الخازن، فسلمه إليه، فقتله وطرحه على باب سقاية حتى أخذه أهله ودفنوه، وعرف أبو الحسن بن الفرات خبره فغمه أمره وقال: كان على عداوته لي فاضلاً راجحاً ومتقدماً في الصناعة بارعاً، وقد جرى عليه من القتل صبراً أمر عظيم.
أما عبد الله بن المعتز فبقي مختبأً في دار أبي عبد الله الجصاص الجوهري، وكان من أغنى تجار العراق، ثم وشى به خادمٌ صغير إلى صافي الحرمي فأخبره أن ابن المعتز في دارهم، فأنفذ المقتدر صافياً في قوة كبست الدار وجاءت بابن المعتز وابن الجصاص.
أما ابن الجصاص فعاقبوه بغرامة مالية باهظة بلغ مقدارها بضعة ألف ألف من الدنانير، فأداها وانصرف.
وأما ابن المعتز فبقي مسجوناً ليلتين ثم خُنِق، وأخرجه مؤنس إلى منزله ملفوفاً فسلمه إلى أهله، فدفنوه في خراب بإزاء داره.
أما الحسين بن حمدان، وهو عم سيف الدولة الحمداني، وأول من ظهر أمره من ملوك بني حمدان، فرحل بأهله إلى الموصل، فطلبه المقتدر فلم يظفر به، فبعث إليه بالأمان فعاد إلى بغداد، فولاه بلدة قم، فسار إليها، ثم امتنع على المقتدر، فسير الجيوش في طلبه، ثم رضي عنه بعد ذلك فولاه ديار ربيعة، ثم عاد فخرج عن الطاعة، فقبض عليه فحبسه المقتدر ثم قتله سنة 306.
وتمكن الوزير ابن الفرات تمكناً وثيقاً من إدارة الدولة ومن المقتدر، فقد كان الوزير يقف بين يدي المقتدر بالله، وهو صبي، قاعد على السرير، فيخاطب الناس والجيش عنه، فإذا انصرفوا أمرت والدة المقتدر بأن يُعدَل بالوزير إلى حجرة فيجلس فيها، ويخرج المقتدر فيقوم إليه، فيقبل يده ورأسه، ثم يقعد ويقعده في حجره، كما يفعل الناس بأولادهم. وتقول له السيدة من وراء الباب: هذا يا أبا الحسن ولدك، وأنت قلدته الخلافة، أولاً، وثانياً، تعني ما تقدم من مشورته على العباس به، وبتقلده الخلافة، من بعد إزالة فتنة ابن المعتز. فيقول ابن الفرات: هذا مولاي وإمامي ورب نعمتي، وابن مولاي وإمامي.
استلم المقتدر بالله الخلافة، وكان في بيت مال الخاصة خمسة عشر ألف ألف دينار، وفي بيت مال العامة ستمئة ألف دينار ونيف، وكانت الجواهر الثمينة في الحواصل من لدن بني أمية وأيام بني العباس، قد تناهى جمعها، فما زال يفرقها في حظاياه وأصحابه حتى أنفدها، وعلَّق على ذلك ابن كثير في البداية والنهاية فقال: وهذا حال الصبيان وسفهاء الولاة! وفي النهاية ثار عليه أهل الحكم وقتل في سنة 320، وقد بلغ 38 عاماً.
نعود إلى حياة عبد الله بن المعتز الخليفة الذي لم يمتع بالخلافة، والأمير الذي كان آمناً في سربه، منعكفاً على طلب العلم والشعر، قد اشتهر عند الخلفاء أنه لم يؤهل نفسه للخلافة، فكان مستريحاً إِلى أن حمله على تولي الخلافة القومُ الذين خذلوه بعد بيعته، فصارت خلافته تضرب مثلاً فيما لا تطول مدته، وكان شأنه كما قال راثيه الوحيد علي بن محمد بن بسام:
لله درك من مَلِك بمَضيعة ... ناهيكَ في العلم والآداب والحسب
ما فيه لولا ولا ليت فتنقصه ... وإنما أدركته حرفة الأدب
ولد عبد الله بن المعتز سنة 249، لآباء عريقين في الملك، فهو خليفة بن خليفة إلى الجد السادس، ووالده الخليفة العباسي المعتز بالله محمد، ابن المتوكل جعفر، ابن المعتصم محمد، ابن الرشيد هارون، بن المهدي. وتولى والده الخلافة سنة 251 وتوفي سنة 255 وهو في الثالثة والعشرين من عمره، وكانت أيامه أيام فتن وشغب، وجاءه قواده الأتراك فطلبوا منه مالاً لم يكن يملكه، فاعتذر، فلم يقبلوا عذره، ودخلوا عليه فضربوه، ثم أحضروا القاضي والعدول، فأشهدهم أنه قد خلع نفسه، وأقدموا محمد بن الواثق، وكان المعتز قد أبعده، فبايعوه، ولقب بالمهتدي بالله. وسلم القادة المعتز إلى من يعذبه، فمات بعد أيام شابا، وكان فصيحا، مليحاً.
بدأ ابن المعتز تعليمه مبكراً، وسرعان ما برز فيه نبوغه، فقد روى النسابة الراوية الكبير الزبير بن بكار، المولود سنة 172والمتوفى سنة 256 أنه التقى به وهو دون السابعة فأنشده في مناسبة ما يليق بها من محفوظاته الشعرية، قال الزبير: وفدت على المتوكل فقال لي ادخل على عبد الله بن المعتز، فدخلت وهو صبي، فسألني عن الحجاز واستنشدني؛ ثم نهضت فعثرت فسقطت، فقال: يا زبير:
وكم عثرة لي باللسان عثرتُها ... تُفرِّقُ من بعد اجتماع من الشمل
يموت الفتى من عثرة بلسانه ... وليس يموت المرء من عثرة الرجل
فعثرته مِن فِيهِ تُذهِب نفسه ... وعثرته بالرِجل تبرا على مهل
درس ابن المعتز الأدب واللغة على كبار علماء عصره في اللغة والأدب، فدرس على ثعلب إمام الكوفة في النحو واللغة، أحمد بن يحيى، المولود سنة 200 والمتوفى سنة 291، وكان راوية للشعر، محدثا، مشهورا بالحفظ وصدق اللهجة، ثقة حجة، شرح دوواين بعض شعراء الجاهلية، وكتابه مجالس ثعلب مشحون بالفوائد، وكثيراً ما رجع إليه ابن المعتز يسأله في بيان بعض ما أشكل أو غمض عليه، وحدث أن اعتذر ثعلب بضعفه عن القدوم إلى ابن المعتز الذي كتب له أبياتاً منها البيت السائر:
إنا على البعاد والتفرق ... لنلتقي بالذكر إن لم نلتقي
ودرس ابن المعتز كذلك على المبرَّد إمام العربية ببغداد، أبي العباس محمد بن يزيد، المولود سنة 240 والمتوفى سنة 286، وأحد أئمة الادب والاخبار، وصاحب الكتب النفيسة مثل إعراب القرآن، والكامل، والتعازي والمراثي، وطبقات النحاة البصريين، وكان الأستاذ فيما بعد يتردد كثيراً إلى مجلس تلميذه الأدبي وتجري بينهما مطارحات أدبية جميلة، وروى الأستاذ كثيراً من أشعار تلميذه للأدباء والنحويين.
وكان مدرسه الخاص أبو الحسن أحمد بن سعيد الدمشقي، المتوفى سنة 306، الذي نزل بغداد وأخذ عن علمائها وأدبائها، ثم تولى تأديب ولد المعتز، واختص بعبد الله بن المعتز وأصبح وثيق العلاقة به، وأثار هذا غيرة معاصره أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري، النسابة الجغرافي المتوفى سنة 279، الذي أراد أن يكون له نصيب من شرف تدريس الأمير الشاب، فتوسط لدى والدته، واسمها قبيحة، بقوم سألوها أن تأذن له في أن يدخل إلى ابن المعتز وقتاً من النهار، فأجابت أو كادت تجيب، فلما اتصل الخبر بأحمد بن الحسن الدمشقي جلس في منزله غضبان مفكراً لهذا الخبر السيء، وبلغ ذلك تلميذه الشاب فكتب إليه هذه الأبيات، وكان عمره 13 سنة، يشكر لأستاذه تدريسه الذي جعل منه في الخطابة قس بن ساعدة الإيادي، وفي الشعر الحارث بن حلزة صاحب المعلقة، وفي المواريث زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه، وفي الفقه والرأي أبا حنيفة النعمان:
أصبحتُ يا ابن سعيد حزتُ مكرمةً ... عنها يقصِّر من يَحفى وينتعل
سربلْتَني حكمة قد هذبت شِيَمي ... وأججت غَرْب ذهني فهو مشتعل
أكونُ إن شئتُ قساً في خطابته ... أو حارثاً وهو يوم الفخر مرتجل
وإن أشأ فكزيد في فرائضه ... أو مثل نعمان ما ضاقت بي الحيل
أو الخليلَ عَروضياً أخا فطن ... أو الكِسائيَ نحوياً له علل
وفي فمي صارم ما سله أحد ... من غمده فدرى ما العيش والجذل
عقباك شكر طويل لا نفاد له ... تبقى معالمه ما أطَّت الإبل
وبقي التلميذ ممتناً لأستاذه رغم مساعي الحساد والنمامين، فقد نقل هؤلاء إلى ابن المعتز أن الدمشقي انتقص من ابن المعتز، ووصل ذلك الزعم إلى مسامع الاستاذ الذي خشي أن يكون في ذلك فصم العلاقة الوثيقة، فكتب لابن المعتز معتذراً يبين بهتان هذه الفرية، فأجابه ابن المعتز بكتاب قال فيه: والله لا قابل إحسانَك مني كفر، ولا تبع إحساني إليك مَنٌّ، فلك مني يد لا أقبضها عن نفعك، وأخرى لا أبسطها إلى ظلمك، فتجنب ما يسخطني فإني أصون وجهك عن ذل الاعتذار.
وكتب أحمد بن سعيد الدمشقي إلى ابن المعتز كتاباً استزاده فيه من المساعدة، فأجابه ابن المعتز: قيِّد نعمتي عندك بمثل ما كنتَ استدعيتَها به، وذُبَّ عنها أسباب الظن، واستدم ما تحب مني، بما أُحبُ منك.
ودرس ابن المعتز على محمد بن هبيرة الأسدي، أبي سعيد النحوي المعروف بصعوداء والمتوفى سنة 295، من أهل الكوفة ومن أعيان علمائها بالنحو واللغة وفنون الأدب، قدم بغداد، وكان مختصاً بعبد الله بن المعتز، وعمل له رسالة فيما انكرته العرب على أبي عبيد القاسم بن سلام ووافقتْهُ فيه.
ودرس عبد الله بن المعتز على أبي جعفر النحوي المؤدب، محمد بن عمران بن زياد الضبي، المتوفى سنة 255، وكان في أول أمره مؤدباً للصبيان، وكان صاحب ذوق وكياسة، لما حفَّظ عبدَ الله بن المعتز سورة النازعات قال له: إذا سألك أمير المؤمنين في أي سورة أنت؟ فقل له: في السورة التي تلي عبس، فسأله ابوه ذلك فقال: من علمك هذا؟ قال: معلمي. فأمر له بعشرة آلاف درهم.
وكان ابن المعتز عمدة شعراء وأدباء زمانه يغشون مجلسه فيلقون فيه كل أنس وإكرام، فينشدون الأشعار، ويروون الأخبار، ويتبادلون فيه العرض والنقد، وهو الذي لقب بجحظة الشاعرَ أحمد بن جعفر بن موسى بن يحيى بن خالد بن برمك البرمكي النديم، وذلك أن ابن المعتز لقيه يوماً فقال له: ما حيوان إذا قُلِبَ صار آلة للبحرية؟ فقال: عَلَق، إذا عُكِس صار قلعاً، فقال: أحسنت يا جحظة، فلزمه اللقب، ومعناه من في عينيه نتوء شديد، وكان قبيح المنظر، ومولده في سنة 224 وتوفي في سنة 324.
وأخذ عن ابن المعتز كثير من أدباء زمانه نظراً لسعة اطلاعه واهتمامه بأخبار الشعراء والأدباء، وابن المعتز هو أول من أسس علم البديع والنقد الشعري في كتابه الذي سماه البديع، وألفه وعمره 25 عاماً، وذكر أن اسم البديع اسم لفنون من الشعر يذكرها الشعراء ونقاد المتأخرين بينهم، فأما العلماء باللغة والشعر القديم، فلا يعرفون هذا الاسم، ولا يدرون ما هو، وقال: وما جمع فنون البديع غيري، ولا سبقني إليه أحد، وألفته في سنة 274، وأول من نسخه مني علي بن يحيى بن أبي منصور المنجم.
وإضافة إلى هذا الكتاب، وديوانه المطبوع، فإن لابن المعتز كتباً أخرى منها كتاب الزهرة والرياض، وكتاب مكاتبات الإخوان بالشعر، وكتاب الجوارح والصيد، وكتاب سرقات الشعراء، وكتاب أشعار الملوك، وكتاب الآداب، وكتاب حلي الأخبار، وكتاب الجامع في العلم، وكتاب طبقات الشعراء.
ومما كتبه ابن المعتز في مقدمة كتابه طبقات الشعراء:
وبعد: فيقول أفقر العباد إلى الله عبد الله بن المعتز بالله بن المتوكل على الله بن محمد المعتصم بالله بن الرشيد بن هارون بن المهدي محمد بن أبي جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس رضي الله عنه: عَقَدَ الفكرُ طرفي ليلة بالنجوم، لوارد ورد عليّ من الهموم ، نفض عن عيني كحل الرقاد، وألبس مقلتي حلل السهاد، فتأملت، فخطر على الخاطر في بعض الأفكار، أن أذكر في نسخة ما وضعته الشعراء من الأشعار، في مدح الخلفاء والوزراء والأمراء من بني العباس، ليكون مذكوراً عند الناس، متابعاً لما ألفه ابن نجيم قبلي بكتابه المسمى طبقات الشعراء الثقات، مستعيناً بالله المسهل الحاجات، وسميته طبقات الشعراء المتكلمين، من الأدباء المتقدمين ... وبالله الاستعانة والتوفيق، وإليه المرجع والمآب، وما توفيقي إلا بالله، وعليه فليتوكل المتوكلون، ومنه يطلب الطالبون، وهو حسبي ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير.
ولازم ابنَ المعتز الأديبُ الكبير أبو بكر الصولي، محمد بن يحيى، المتوفى سنة 335، وروى عنه في كتبه مثل أخبار أبى تمام، وكتاب أشعار أولاد الخلفاء، و أخبار الراضي والمتقي، وأخبار الشعراء المحدثين، وأدب الكُتَّاب.
ومن أصدقاء ابن المعتز الأديب الأمير عبيد الله بن عبد الله بن طاهر الخزاعي، ولي الشرطة ببغداد وإليه انتهت رياسة أهله، وهو آخر من مات منهم رئيساً، وكانت بينه وبين ابن المعتز مراسلات جمعها في كتاب، وله من الكتب كتاب الإشارة في أخبار الشعراء، ورسالة في السياسة الملوكية، وكتاب البراعة والفصاحة، وتوفي سنة 300.
ومات زوجة عبيد الله وأم أولاده فكتب إليه ابن المعتز يعزيه فقال: ومثلك، أيدك الله، لا يُحضُّ على حفظ دينه، لأنك تعلمه وترغب فيه وتسارع إليه. لكن المصائب ربما عصفت بالجازع حتى يَذكر أو يُذكَّر، فيراجع الرضا بحكم من لا يجور، ويسبق الصبر على المصيبة مختاراً، للسلوة التي لا بد من أن يصير إليها اضطراراً. ورب خِيرة مرة، وحميد في مكروه، وهو الدهر الذي نعرفه ولا تؤتى من غرةٍ به، هذه سجيته وبهذا تقدمت سيرته كذلك حتى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. وأعظم الله أجرك، وأجزل ثوابك، ودل على سبيل العزاء قلبك، وكفاك مكارهك، ووفقك لما يوافقك، ورحم التي توفيت، وجعل ما اتصلت به من الآخرة خيراً مما انقطعت عنه من الدنيا، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وكان ابن المعتز ممن يعتقدون بتقديم بني هاشم على غيرهم، ولكنه لم يطعن في أحد من الصحابة، ولا عرَّض بذلك ولا أومأ إليه، ولا يُذكَر له أحد منهم إلا عدَّد فضائله وناضل عنه ونصره، ولكنه دخل في الخلاف القديم بين بني العباس وبني أبي طالب حتى ظُنَّ به ميلٌ عن علي رضي الله عنه، فأعلن براءته من هذه التهمة، وعمل أشعاراً يعتذر فيها ويمدح أمير المؤمنين علياً وولده عليهم السلام، وتمنى لو استطاع أن ينهي هذا التحزب والانقسام، قال أحد جلسائه من العلويين: كنت أجالس عبد الله ابن المعتز وكان يحلف لي بالله لئن ملك من هذا الأمر شيئاً ليجعلن البطنين بطناً واحداً، وليزوجن هؤلاء من هؤلاء وهؤلاء من هؤلاء، وقال: لا أدع طالبياً يتزوج بغير عباسية، ولا عباسي بغير طالبية، حتى يصيروا شيئاً واحداً، وأجري على كل رجل منهم عشرة دنانير في الشهر، وعلى كل امرأة خمسة دنانير، وأجعل من الدنيا ناحية تفي بذلك.
وقال رحمه الله يتلهف على رأب هذا الصدع:
بني عمنا عودوا نَعُدْ لمودَّة ... فإنَّا إلى الحسنى سِراعُ التعطفِ
وإلا فإني لا أزال عليكم ... مُحاِلفَ أحزان كثيرَ التلهفِ
لقد بلغَ الشيطانُ من آل هاشم ... مَبالغَهُِ من قبل في آل يوسفِ
وقال يناشدهم الكف عن الخروج على بني العباس:
يا بني عمِّنا إلى كمْ وحتى؟! ... ليسَ ما تفعلونه يستقيمُ
وعزيزٌ عليَّ أن يصبُغَ الأرضَ دمٌ منكمُ عليَّ كريمُ
ولابن المعتز شعر في الذروة من حيث الصور الجميلة والمعاني المبتكرة والألفاظ الرشيقة السهلة، وتعددت مواضيع شعره فمن الغزل والنسيب إلى الوصف والصيد، إلى الحكمة والزهد، إلى المدح والرثاء، وهو كشاعر يهيم في كل وادٍ من وديان الشعر، ولكنه بعيد عن الخنا والحرام، قال أحد ندمائه وهو القاسم بن محمد النميري: ما رأيت شاباً ولا كهلاً من ولد العباس أصون لنفسه، وأضبط لجأشه، وأعفَّ لساناً وفرجاً من عبد الله بن المعتز، وكان ربما عبثنا بالهزل في مجلسه، فجرى معنا فيما لا يقدح به عليه قادح. وكان أكثر ما يشغل به نفسه سماع الغناء.
أما عن جمال شعره فقد قال ابن رشيق القيرواني في العمدة في كتابه محاسن الشعر وآدابه: وما أعلم شاعراً أكمل ولا أعجب تصنيعاً من عبد الله بن المعتز؛ فإن صنعته خفية لطيفة لا تكاد تظهر في بعض المواضع إلا للبصير بدقائق الشعر، وهو عندي ألطف أصحابه شعراً، وأكثرهم بديعاً وافتتاناً، وأقربهم قوافي وأوزاناً، ولا أرى وراءه غاية لطالبها في هذا الباب.
ونورد هنا بعضاً من هذه الأشعار التي سار بعضها مسار الأمثال:
تقول العاذلات: تَعَزَّ عنها ... وأطْفِ لهيبَ قلبك بالسُّلوِ
وكيف وقبْلَةٌ منها اختلاسا ... ألذ من الشماتة بالعَدُو؟
وقوله:
ضعيفةٌ أجفانه ... والقلب منه حَجَرُ
كأنما ألحاظه ... من فعله تعتذر
وقال في قبر نبتت عليه الزهور:
مررتُ بقبر مشرِق وسط روضة ... عليه من الأنوار مثلُ الشَّقائقِ
فقلت: لمن هذا؟ فقال لي الثَّرى: ... ترَحّمْ عليه إنه قبرُ عاشق
وقال من قصيدة طردية تقال عادة في وصف مناسبات الصيد:
قد أغتدي والليل في جلبابه ... كالحبشي فر من أصحابه
والصبح قد كشر عن أنيابه ... كأنما يضحك من ذهابه
وقال في الهلال:
وانظر إليه كزورقٍ من فضةٍ ... قد أثقلته حموله من عنبر!
ومن جميل شعره في قصيدة طردية يصف فرسه:
قد أغْتَدِي بِقَارح ... مُسَوَّم يَعْبُوبِ
ينفي الْحَصى بحافرٍ ... كالقَدَح المكبوب
قد ضحكت غُرَتُهُ ... في موضع التقطيبِ
ومن قوله في الحسود وهو من الأبيات التي انتشرت:
اصبر على حسد الحسود فإنَّ صبرك قاتُلهْ
فالنار تأكل نفسها ... إن لم تجد ما تأكله
وقال في انتهاز الفرص والحزم في الأمور:
وإن فرصة أمكنت في العِدا ... فلا تَبدَ فعلك إلا بها
فإن لم تلج بابها مسرعا ... أتاك عدوك من بابها
وإياك من ندم بعدها ... وتأميل أخرى، وأنَّى بها؟
وله من أبيات:
وكم نعمةٍ للّه في صرف نقمةٍ ... ومكروه أمر قد حلا بعد إمرار
وما كلّ ما تهوى النفوس بنافعٍ ... وما كلّ ما تخشى النفوس بضرّار
وقوله:
عجبا للزمان في حالتيه ... وبَلاَءٍ دُفِعتُ منه إليه
رُبَّ يوم بكيت فيه فلما ... صرت في غيره بكيت عليه
وقوله:
تولَّى الجهل، وانقطع العتاب، ... ولاح الشيب، وافتضح الخضابُ
لقد أبغضتُ نفسي في مشيبي ... فكيف تحبني الخُود الكعاب؟
وقال:
أخذتْ من شبابيَ الأيامُ ... وتولى الصبا عليه السلامُ
وارعوى باطلي وبان حديث النفس مني وعفَّت الأحلام
وله يسأل الله من فضله:
يا من أعِزُّ بذُّلي في الخطوب له ... إذا تعزز مخلوق بمخلوق
يا رازق الخلق صنِّي بانفرادك لي ... بالرزق عن كل مرزوق بمرزوق
لم يعصه أحد إلا بتخليةٍ ... منه ولم يُرضِهِ إلا بتوفيق
وقال في الموت:
نسير إلى الآجال في كل ساعة ... فأيامنا تطوى وهُنَّ مراحل
ولم أر مثل الموت حتى كأنه ... إذا ما تخطته الأماني باطل
وما أقبح التفريط في زمن الصبا ... فكيف به والشيب في الرأس شاعل
ترحل من الدنيا بزاد من التقى ... فعمرك أيام تعد قلائل
وقال في شكوى الزمان:
لهذا الزمان الصعب يا نفس فاصبري ... فما ناصحات المرء إلا تجاربه
ولا تحزني إن أغلق الصبر بابه ... فبعد انغلاق الباب يأذن حاجبه
وقال في شكوى الأصدقاء:
بلوتُ أخلاءَ هذا الزمانِ ... فأقللتُ بالهجرِ منهم نصيبي
وكلهمُ إنْ تأملتهمْ ... صديقُ الحضورِ عدوُّ المغيبِ
وقال يوطن نفسه على الصبر وعزة النفس:
وكانت على الأيام نفسي عزيزةً ... فلما رأت صبري على الذل ذلتِ
فقلت لها يا نفس موتي كريمةً ... فقد كانت الدنيا لنا ثم ولت
وفي سنة 288 توفي الوزير عبيد الله بن سليمان وزير المعتضد، فدخل عبد الله بن المعتز على ابنه القاسم يعزيه فأنشأ يقول:
إني معزيك لا أني على ثقة ... من الخلود ولكن سُنَّة الدينِ
فما المعزى بباق بعد صاحبه ... ولا المعزي وإن عاشا إلى حين
فلما أُدرِجَ في أكفانه، أنشأ يقول:
قد استوى الناس ومات الكمال ... وقال صرف الدهر: أين الرجال
هذا أبو القاسم في قبره ... قوموا انظروا كيف تزول الجبال
يا ناصر الملك بآرائه ... بعدك للمُلك ليال طوال
فلما حملته الرجال على أعناقها، أنشأ يقول:
وما كان ريح المسك ريح حنوطه ... ولكنه هذا الثناء المخلف
وليس صرير النعش ما تسمعونه ... ولكنه أصلاب قوم تقصف
فلما وُضع للصلاة عليه، أنشأ يقول:
قضوا ما قضوا من أمرهم ثم قدموا ... إماما لهم والنعش بين يديه
فصلوا عليه خاشعين كأنهم ... وقوف خضوع للسلام عليه
ولابن المعتز نثر بديع، ومراسلات إخوانية مع أهل وِدِّه وأحبابه، ومن نثره الموجز قوله لعليل: أذِنَ الله بشفائك، وتلقَّى داءك بدوائك، ومسحك بيد العافية، ووجه إليك وافد السلامة، وجعل علتك ماحية لذنوبك، مضاعفة لثوابك.
وقال يصف القلم: القلم يخدم الإرادة، ولا يملّ الاستزادة؛ يسكت واقفاً، وينطق ساكتاً؛ على أرض بياضها مظلم، وسوادها مضيء.
ووصف الكتاب فقال: هو والج الأبواب، جريء على الحجاب، مُفهِّمٌ لا يفهم، وناطق لا يتكلم.
وله كتاب الفصول القصار، في الحكم، ومنها:
الأماني تُعمي الأبصار والبصائر.
الحكمة شجرة تنبت في القلب، وتثمر من اللسان.
الساعي كاذب لمن سعى إليه، أو خائن لمن يسعى به.
كفى بالظلم داعياً لنِقَمِه، وطارداً لنِعَمه.
إذا حضرت الآجال افتُضِحت الآمال.
لا تذكر الميت بسوء فتكون الأرض أكتم عليه منك.
مصائب الدنيا أكثر من نبات الأرض.
المعروف رق، والمكافأة عتق.
انتظر عند الظلم عدل الله فيك، وعند المقدرة قدرة الله عليك، ولا يحملك اللجاج على اقتراف إثم، فتشفي غيظك، ويسقم دينك.
أعرف الناس بالله أرضاهم بأقداره.
تَرِكة الميت عزاءٌ للورثة عنه.
غضب الجاهل في قوله، وغضب العاقل في فعله.
علم المنافق في قوله، وعلم المؤمن في عمله.
زَلة العالِم كانكسار السفينة يغرق معها خلقٌ كثير.
عِلْمُ الإنسان ولده المخلد.
إن الناس قد مسخوا خنازير، فإذا وجدت كلباً فتمسك به.
العيون طلائع القلوب واللحظ طرف الضمير.
مشاورة المشفق الحازم ظفر، ومشاورة المشفق غير الحازم خطر.
المشورة راحة لك وتعب على غيرك.
من شارك السلطان في عز الدنيا، شاركه في ذل الآخرة.
ونختم بآخر أبيات قالها ابن المعتز لما أرادوا قتله، وكأنه تنبأ بقتل الخليفة المقتدر بعد حين:
وقل للشامتين بنا رويداً ... أمامَكم المصائب والخ

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين



التعليقات