فاطمة الزهراء

الشيخ: يوسف القرضاوي

عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت أحداً قط أفضل من فاطمة غير أبيها). ذكره ابن عبد البر في الاستيعاب.
 تعاون على أعباء الحياة:
دخل علي بفاطمة، ولم يكن الطريق أمامه مفروشاً بالأزهار والرياحين، بل كان مفروشاً بالأشواك، مضرجاً بالدماء.
كان علي رجلاً فقيراً، لم يرث عن أبيه صفراء ولا بيضاء، ولا ثاغية ولا راغية ـ الثاغية: الشاة، والراغية: الناقة ـ فكان عليه ـ لأمر دنياه ـ أن يشق طريقه في الصخر بيديه ليقوت نفسه وأهله.
وكان عليه ـ لأمر دينه ـ أن يستعدَّ لجهاد دام طويلاً لإرساء دعائم الإسلام ضد مشركين محاربين، ويهود متربصين، ومنافقين مذبذبين.
وكان على الزهراء رضي الله عنها أن تقاسم زوجها متاعب العيش، وتكاليف الجهاد، ووعثاء الطريق، وقد فعلت فأحسنت، وصبرت و صابرت، وكانت له خير عون على واجبات الدين ومطالب الدنيا.
وكان أول ما ينتظر أن تقوم به هو عمل البيت، ولم يكن في تلك العصور بالأمر الهيِّن اليسير، فالرغيف الذي يأتي اليوم من يد البائع إلى فم الآكل كان يحتاج إعداده إلى طحن بالرحا، وعجن باليد، وخبز بالوسائل البدائية حتى يصلح للطعام، ولم يكن في البيت خادم ولا مساعد إلا المرأة الفاضلة فاطمة بنت أسد أم علي، وكم كانت حيرته رضي الله عنه بين أم يحرص على برها وراحتها، وزوجة يرغب في تكريمها وصيانتها، والطاقة لا تسعفه، والقدرة لا تواتيه، بيد أنه قسم بينهما العمل تقسيماً ودياً، رضي به كل منهما، فقال لأمه: أكفي بنت رسول الله سقاية الماء والذهاب في الحاجة، وتكفيك العمل في البيت: الطحن، والعجن، والخبز...
ولم يعرف عن فاطمة الزوجة، وفاطمة الأم، إلا التعاون والحب والوثام، على غير ما تجري به العادة بين الزوجات والأحماء.
ولم يدَّخر أبو الحسن وسعاً في كسب لقمة العيش،وولوج كل باب تهب منه رياح الرزق الحلال، حتى إنه أجَّر نفسه مرة لامرأة من عوالي المدينة، ومرة أخرى لرجل يهودي، ينزع لهما بالدلو كل دلو بتمرة!.
هذه كانت حياة ابن عم رسول الله رضي الله عنه، وزوجته بنت رسول الله رضي الله عنها، هذا يشقى ويكدح خارج البيت، وتلك تتعب وتجهد داخله، فلما أفاء الله على رسوله، وجاءته بعض الأنفال الغنائم قال علي لفاطمة: لقد سنوت ـ استقيت وحملت الماء ـ حتى اشتكيت صدري، وقد جاء الله أباك بسبْي فاذهبي فاسأليه خادماً، فقالت: وأنا والله قد طحنت بالرحاء، حتى مجلت ـ أصابتها المجلة ، وهي قشرة رقيقة يجتمع فيها ماء من أثر العمل اليدوي ـ يداي.
فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما جاء بك يا فاطمة؟ قالت: جئت لأسلم عليك، واستحييت أن تسأله ورجعت، فقال علي: ما فعلت؟ قالت: استحييت أن أسأله! فقرر أن يأتياه جميعاً، فذهبا، فقال علي: يا رسول الله والله لقد سنَوت حتى اشتكيت صدري، وقالت فاطمة: لقد طحنت حتى مجلت يداي، وقد جاءك الله بسبي وسعة فأخدمنا ـ أعطنا خادماً ـ فماذا كان جواب الأب الرحيم؟ كان جوابه إعلاناً للمساواة، و تكافؤ الفرص للجميع، قال: والله لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تتلوى بطونهم، لا أجد ما أنفق عليهم!.
ورجعت فاطمة وزوجها يجران قدميهما جراً فأتاهما النبي صلى الله عليه وسلم، وقد دخلا في قطيفتهما ـ إذا غطت رؤوسهما تكشفت أقدامهما، وإذا غطت أقدامهما تكشفت رؤوسهما ـ فنهضا، فقال: مكانكما، ألا أخبركما بخير مما سألتماني ؟ قالا: بلى، قال: كلمات علمنيهنَّ جبريل: تسبِّحان الله في دبر كل صلاة عشراً، و تحمدان عشراً، وتكبران عشراً، وإذا آويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، وكبرا أربعاً وثلاثين، فهذا خير لكما من خادم.
قال علي: فوالله ما تركتهن منذ علمنيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ماذا صنع لهما النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن زاد عليهما واجباً جديداً؟ وأضاف إلى عملهما المادي عملاً روحياً آخر؟! لكن العارفين يعلمون أن انشغال المرء بالأهداف الروحية ينسيه المتاعب المادية والجسدية، فيحيا في الدنيا بقلوب أهل الآخرة، ويعيش في الأرض، وكأنه من أهل السماء، ومن ثم كان النبي صلى الله عليه وسلم يواصل الصيام ويقول: وأيكم مثلي؟ إني أبيت يطعمني ربي ويسقين!!
وقد كان يحدث أحياناً بين فاطمة وعلي ما يحدث بين كل زوجين من ملاحاة أو مغاضبة، فيبلغ الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فما هي إلا كلمة أو ابتسامة حتى تنطفئ شرارة الغضب، وتفقأ عين الشيطان، لم يجعل من نفسه محامياً للابنة، وممثل الاتهام للزوج، وإنما كان بينهما قاضياً عدلاً، بل طبيباً حكيماً، روى الشيخان أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء بيت فاطمة، فلم يجد علياً في البيت فقال لها: أين ابن عمك؟ قالت: كان بيني وبينه شيء فغاضبني فخرج ولم يقم عندي. فقال رسول الله لإنسان: انظر أين هو؟ فقال: يا رسول الله هو بالمسجد راقد، فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع قد سقط رداؤه عن شقه وأصابه تراب، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسحه ويقول: قم أبا تراب، قم أبا تراب!
وعاد أبو تراب إلى بيته وزوجه، وقد تقشَّع عنه الغضب كما ينقشع سحاب الصيف ، وعاد إلى سماء الزوجيَّة الصحو والصفاء.
وروى أبو عمر قال: كان بين علي وفاطمة كلام فدخل رسول الله فلم يزل حتى أصلح بينهما ثم خرج، فقيل له: دخلت وأنت على حال، وخرجت ونحن نرى البشر في وجهك؟ فقال: وما يمنعني وقد أصلحت بين أحب اثنين لي؟!
لقد عاشت فاطمة حياتها مع علي رضي الله عنهما مثال الزوجة المخلصة الحليمة ـ مع ما في علي من شدة وخشونة ـ الصابرة الراضية - برغم إعسار زوجها وضيق ذات يده ـ وقد عرف علي رضي الله عنه لها فضلها، وقدر لها جهدها في الحياة الزوجية، وظل يذكر ذلك طيلة حياته، قال مرة لابن أعبد: يا ابن أعبد: ألا أخبرك عني وعن فاطمة؟ كانت ابن رسول الله وأكرم أهله عليه، وكانت زوجتي، فطحنت بالرحا حتى أثَّر الرحا بيديها، واستقت بالقربة حتى أثرت القربة بنحرها، وقمَّت البيت ـ نظفته ـ حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت تحت القدر حتى دنست ثيابها وأصابها من ذلك ضر...
مكان فاطمة رضي الله عنها من رسول الله صلى الله عليه وسلم:
كانت فاطمة رضي الله عنها أصغر بنات النبي صلى الله عليه وسلم وأعزهنَّ عليه، وأحبهنَّ إليه، وكانت أشبه الناس به في خَلق وخُلق، وكانت هي آخر من بقي من أولاده جميعاً، فلا عجب أن يغمرها النبي صلى الله عليه وسلم بحبه، ويؤثرها بمزيد حنانه وقربه، وقد ذكرت ذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقالت: ما رأيت أحداً أشبه سمتاً ودلاً وهدياً برسول الله صلى الله عليه وسلم في قيامه وقعوده من فاطمة بنت رسول الله، قالت: وكانت إذا دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم قام إليها فقبّلها، وأجلسها في مجلسه، وكان النبي إذا دخل عليها قامت إليه فقبلته، وأجلسته في مجلسها.
وقد برزت هذه العاطفة الأبوية الدافقة في أجلى صورها حين استأذنه بنو هشام بن المغيرة أن يزوجوا علي بن أبي طالب ابنة أبي جهل، فأبى عليهم، ووقف على المنبر يقول: أن بني هشام بن المغيرة استأذنوني في أن يزوجوا ابنتهم علي بن أبي طالب فلا آذن، ثم لا آذن، ثم لا آذن... إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم، فإنما فاطمة بضعة مني، يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها، إني أخاف أن تفتن فاطمة في دينها، وإني لا أحرِّم حلالاً، ولا أحلُّ حراماً، ولكن والله لا يجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله في بيت واحد أبداً..
لكن هذه العاطفة الحارة سرعان ما تنكمش وتنطفئ إذا كانت بإزاء حد من حدود الله، ولقد كان عليه السلام حين يريد أن يقرر للناس أن أحكام الله وسننه في الدنيا والآخرة لا تحابي أحداً مهما يكن شأنه ومنزلته يضرب المثل بأعز الناس عليه: فاطمة.
فيقول في شؤون الدنيا: (وأيم الله، لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها).
ويقول في شؤون الآخرة: (يا فاطمة بنت محمد: اعملي، فإني لا أغني عنك من الله شيئاً، من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه).
واكرب أبتاه:
إن الحياة الرضية الهنية لا تصنع نفوساً كبيرة، إنما تتخرج النفوس الكبيرة في مدرسة الآلام، وتصنع القلوب العظيمة في مصهر الأحزان، وقد شاء الله أن يصهر قلب فاطمة في أتون الابتلاء، وينضجه بحرارة الحزن والأسى، فقد فجعت في أمها وهي فتاة صغيرة، وكوتها مشاعر الحزن على وفاة أخوتها وأخواتها جميعاً ذكوراً وإناثاً، وزادها ألماً على ألم فقدها لأبيها وحبيبها الأعظم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم...
شهدت مرضه الأخير، وكانت تذهب كل يوم لعيادته، فيقوم إليها ويقبِّلها كعادته في العافية، فلما اشتدَّت عليه وطأة المرض، خشي عليها هول الفجيعة بموته، فزفَّ إليها بشرى تهوِّن وقع المصاب عليها، قالت عائشة: أقبلت فاطمة تمشي ـ وكان مشيها مشي رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ فقال: مرحباً بابنتي، ثم أجلسها عن يمينه، ثم أسرَّ إليها حديثاً فبكت: ثم أسرَّ إليها حديثاً فضحكت، فقلت: ما رأيت كاليوم أقرب فرحاً من حزن!! وسألتها عما قاله، فقالت: ما كنت لأفشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم سرَّه، فلما قبض سألتها فأخبرتني، أنه قال: إن جبريل كان يعارضني بالقرآن في كل سنة مرة، وإنه عارضني هذا العام مرتين، وما أراه إلا قد حضر أجلي، وإنك أول أهل بيتي لحوقاً بي، ونِعْم السلف أنا لك! فبكيت، فقال: ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين؟ فضحكت.. رواه الشيخان.
وكانت حمَّى المرض تشتد أحياناً على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يغشى عليه ثم يفيق وهو يعاني أشد الكرب، وترى ذلك فاطمة، فينتقل الألم من جسد أبيها إلى نياط قلبها، فيحز فيه حزاً، وتصيح قائلة: واكرب أبتاه !! ويسمعها النبي صلى الله عليه وسلم فيرد عليها، ويقول: لا كرب على أبيك بعد اليوم... يريد أنه سينتقل من هذه الدنيا التي تغص بالشقاء والآلام إلى دار لا شقاء فيها ولا آلام...
ولحق النبي بالرفيق الأعلى مخلفاً ابنته الحزينة في نحو الثلاثين من عمرها، وما هي إلا أشهر ستة حتى صدقت نبوءته عليه السلام، وكانت فاطمة أول أهله لحوقاً به، ففي ليلة الثلاثاء لثلاث خلون من رمضان سنة إحدى عشرة من الهجرة، تلقت السماء تلك الروح الزكية، ودفن ذلك الجسد الطاهر في أرض البقيع المباركة ودفنت ليلاً كما أوصت، تاركة وراءها ذكراً حسناً في الآخرين، ومثلاً صالحاً للمؤمنات، وذريَّة طيبة موصولة بنسب الرسول الكريم رضي الله عنها، وجزاها خير ما يجزي به الصديقات...
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر: مجلة الأزهر السنة 16، العدد الأول، محرم 1378هـ.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين