الخاتمة السيئة والحسنة - أسباب سوء الخاتمة وحسنها

هاتان خطبتا جمعة ألقيتهما منذ أكثر من عشرين سنة في جامع الرضا بجدة الذي كنت أخطب فيه منذ ١٤٠٩ إلى عام ١٤٢٠، لتكون تذكرة لنفسي ولإخواني، ولتعبر عن منهجي في اختيار بعض الموضوعات التربوية التي تزكي النفوس، وترفع الهمم إلى معالي الأمور. سائلاً المولى سبحانه أن يحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها. والشكر للأخ الكريم طارق عبد الحميد الذي قام بتنضيد هذه الخطب وتجديد نشرها.

بسم الله الرحمن الرحيم

الخاتمة السيئة والحسنة

نبَّه الله سبحانه في كتابه جميع المؤمنين إلى أهمية حُسن الخاتمة فقال تعالى:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ] {آل عمران:102} .وقال تعالى:[وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ] {الحجر:99}.

فالأمر بالتقوى والعبادة مستمر حتى الموت لتحصل الخاتمة الحسنة.

وقد بيَّن صلى الله عليه وسلم أن بعض الناس يجتهد في الطاعات ويبتعد عن المعاصي مدة طويلة من عمره، ولكنه قبيل وفاته يقترف السيئات والمعاصي مما يكون سبباً في أن يختم له بخاتمة السوء والعياذ بالله.

روى البخاري ومسلم عنه صلى الله عليه وسلم:« إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ».

روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:« إن الرجل ليعمل الزمان الطويل بعمل أهل الجنة ثم يختم له عمله بعمل أهل النار، وإن الرجل ليعمل الزمان الطويل بعمل أهل النار ثم يختم له عمله بعمل أهل الجنة».

وروى ابن حبان في صحيحه عن معاوية، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما الأعمال بخواتيمها، كالوعاء إذا طاب أعلاه طاب أسفله، وإذا خَبُث أعلاه خبث أسفله».

وروى البخاري ومسلم من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، أن رجلاً من المسلمين في إحدى المعارك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبلى بلاء حسناً، فأعجب الصحابة ذلك، وقالوا: ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أما أنه من أهل النار». فقال بعض الصحابة: أينا من أهل الجنة إن كان هذا من أهل النار؟!. فقال رجل من القوم: أنا صاحبه، سأنظر ماذا يفعل فتبعه. قال: فجرح الرجل جرحاً شديداً فاستعجل الموت، فوضع سيفه في الأرض وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل على سيفه فقتل نفسه. فرجع الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد أنك رسول الله. قال: وما ذاك؟ قال: الرجل الذي ذكرت آنفاً أنه من أهل النار، فقال صلى الله عليه وسلم عند ذلك: « إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة، وإنما الأعمال بالخواتيم».

فينبغي أن يكون الخوف من سوء الخاتمة ماثلاً أمام عين العبد في كل لحظة لأن الخوف باعث على العمل، وقد قال صلى الله عليه وسلم: « من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إنَّ سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة».

ولذلك كان موت الفجأة مذموماً في بعض الأحيان لأنه يباغت صاحبه ولا يمهله فربما كان على معصية فيختم له بالخاتمة السيئة.

ولذلك ينبغي على المسلم أن يحرص على أن يتخلص من حقوق الناس ومظالمهم، لأنه سيطالب بها يوم القيامة، فإن كان له حسنات أخذت منه، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات من ظلم وطرحت عليه.

من أسباب سوء الخاتمة:

1 ـ التسويف بالتوبة: التوبة واجبة على كل مسلم:[ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] {النور:31} .

روى مسلم عنه صلى الله عليه وسلم:« يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب في اليوم مئة مرة»، وهو الذي غُفِر له ما تقدَّم من ذنوبه وما تأخر.

ومن أنجح مداخل إبليس التي يحتال بها على الناس: التسويف في التوبة، فيوسوس للعاصي أن يتمهّل في التوبة، فإن أمامه زمناً طويلاً وعمراً مديداً.. وأنه لو تاب الآن ثم رجع لا تقبل توبته بعد ذلك. أو يوسوس له بإنه إذا بلغ الخمسين أو الستين مثلاً عليه أن يتوب توبة نصوحاً، ويلزم المسجد ويكثر من تلاوة القرآن، أما الآن فإنه في زهرة عمره ومقتبل شبابه، فليمتع نفسه ولا يشق عليها بالتزام الطاعات.

2 ـ طول الأمل: وهو سبب شقاء كثير من الناس، ينسى الآخرة ولا يتذكر الموت، وإذا ذكره يوماً برم منه، لأنه ينغِّص عليه لذاته، ويكدِّر عليه صفو عيشه.

وإما إذا قصر الأمل بادر إلى الأعمال الصالحة واغتنام موسم العمر. قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: « أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل » وكان ابن عمر رضي الله عنه يقول: « إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك» رواه البخاري.

ومما يبعد عن الإنسان طول الأمل ويبصِّره بحقيقة الدنيا: أن يذكر الموت ويزور القبور ويشيع الجنائز ويزور المرضى فإنها توقظ القلب من غفلته وتبصره بما سيقدم عليه.

أ ـ أما ذكر الموت فإنه يزهد في الدنيا ويرغِّب في الآخرة، ويحمل على الاجتهاد في العمل الصالح، وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي وابن ماجه:« أكثروا من ذكر هادم اللذات».، وعلى الإنسان أن يفكر في الموتى: ألم يكونوا أقوياء الأبدان يملكون الأموال ويأمرون وينهون، واليوم قد تسلط عليهم الدود، فنخر عظامهم.

ب ـ وزيارة القبور عظة بليغة، فإذا رأى المساكن المظلمة المحفورة، ورأى هذه النهاية التي يحثو فيها أحباء الميت عليه التراب بعد إدخاله في لحد ضيق وإغلاقه عليه بلبنات من طين ثم يرجعون عنه ويقتسمون أمواله ويُنسى بعد مدّة يسيرة بعد أن كان صاحب الكلمة يأمر ويطاع، وينهى فلا يعصى.

جـ ـ وتغسيل الموتى وتشييع الجنائز عظة بليغة، وكان عثمان رضي الله عنه إذا شيَّع الجنازة ووقف على القبر بكى فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي وتبكي إذا وقفت على القبر، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه صاحبه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشدُّ منه»، رواه أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجه والحاكم وصححه.

3 ـ ومن أسباب سُوء الخاتمة: حبُّ المعصية واعتيادها: فالشيطان يستولي على قلبه وعلى تفكيره حتى في اللحظات الأخيرة من حياته، فإذا أراد أقرباؤه أن يلقنوه الشهادة ليكون آخر كلامه: (لا إله إلا الله) طغت هذه المعصية على تفكيره فتكلم بما يفيد انشغاله بالمعصية.

وربما أدركه الموت في المعصية نفسها، فيلقى الله على تلك الحال التي تغضبه.

روى الحاكم وصححه: « من مات على شيء بعثه الله عليه».

ولهذا فإن أهل الكفر والفجور يحرمون الثبات في أشد الأوقات كربة فلا يستطيعون التلفظ بالشهادة عند الموت،وهذا من علامات سوء الخاتمة.

قيل لرجل: قل:لا إله إلا الله فقال:

يا رب قائلة يوماً وقد تعبت=كيف الطريق إلى حمام منجاب

كما قيل لرجل: قل: لا إله إلا الله، فجعل يحرك رأسه يميناً وشمالاً، يرفض قولها.

وآخر يقول عند موته: هذه قطعة جيدة، وهذه مشتراها رخيص.

ورابع يذكر أسماء قطع الشطرنج.

وخامس يدندن بألحان أو كلمات أغنية، أو ذكر معشوق.

ذلك لأن مثل هذه الأمور أشغلتهم عن ذكر الله في الدنيا.

وقد يرى من هؤلاء سواد وجه أو نتن رائحة، أو صرف عن القبلة عند خروج أرواحهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

قال ابن رجب:« عن عبد العزيز بن أبي رواد قال: حضرت رجلاً عند الموت يلقَّن الشهادة: لا إله إلا الله فقال: هو كافر بما تقول. ومات على ذلك، فسألت عنه فإذا هو مدمن خمر، وكان عبد العزيز يقول: اتقوا الذنوب فإن الذنوب هي التي أوقعته».

وقيل لرجل: قل لا إله إلا الله قال: اشرب واسقني.

وقيل لرجل: قل لا إله إلا الله قال: شاه، رخ، غلبتك (وشاه ورخ أسماء لحجرين من أحجار الشطرنج).

وهذه قصة شاب يسابق الشيطان إلى المعاصي والآثام، حتى كانت نهايته تعيسة، وخاتمته سيئة فقد كان همه الكأس والغانية، ثم تطور حاله إلى الحشيش والمخدرات، فجاء اليوم الذي ودَّع فيه الحياة، فشرب في ذلك اليوم شراباً كثيراً، فلم يكد يميز بين السماء والأرض، وزاد في شربه حتى تناول المُخدِّر، وأخذ يلتهم منه حتى تقيء ما فيه بطنه، ومات بعد ذلك.

وشخص آخر كان دائم السفر إلى بلاد جنوب شرق آسيا، وكان متزوجاً ولديه أطفال وعمره يناهز الثلاثين.. إلا أنه لا يفكر إلا في شهواته وملذاته، سواء أكانت في الحلال أم في الحرام...

وفي إحدى الليالي الساهرة هناك مع إحدى الراقصات العاهرات، وفي إحدى الشقق المفروشة كان بانتظاره ملك الموت، وجاءت اللحظة الحاسمة... ونادى المنادي: الرحيل الرحيل... فقبضه ملك الموت ويرجع إلى بلاده محملاً بالتابوت،وإذا بالمفاجأة الكبرى، وهي أن وجهه أصبح لونه أسود من سواد القار».

فالجزاء من جنس العمل ومن حَسُنت بدايته، حسنت نهايته ومن ساءت بدايته ساءت نهايته ».

أسباب حسن الخاتمة ووسائل الثبات والهداية:

1 ـ التزام شرع الله والعمل الصالح: قال تعالى:[يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ] {إبراهيم:27} .قال قتادة: « أما الحياة الدنيا فيثبتهم بالخير والعمل الصالح».

ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يثابر على الأعمال الصالحة، وكان أحب العمل إليه أدومه وإن قل، وكان أصحابه إذا عملوا عملاً أثبتوه.

2 ـ الإقبال على القرآن: فهو حبل الله المتين، والنور المبين، من تمسك به عصمه الله ومن اتبعه أنجاه الله، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم. [إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ] {فاطر:29}.

والقرآن مصدر التثبيت والهداية لأنه يزرع الإيمان ويقوي الصلة بالله، وفرق كبير بين الذين ربطوا حياتهم بالقرآن وأقبلوا عليه تلاوة وحفظاً وتفسيراً وتدبراً، وبين من جعلوا كلام البشر جُلَّ همهم وشغلهم الشاغل.

3 ـ فعل الطاعات وترك المخالفات: فالصلاة والصيام، والبذل والإنقاق، والتحبب إلى الله تعالى بنوافل الطاعات، والعمل عما يرضيه والبعد عن مخالفاته ومعاصيه، والحب فيه والبغض فيه.. كل ذلك ينور القلب ويزكي النفس، ويزيد الإيمان رسوخاً في القلب.

4ـ الدعاء: من صفات عباد الله المؤمنين أنهم يتوجَّهون إلى الله بالدعاء أن يثبتهم: [رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ] {آل عمران:8}.[ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ] {البقرة:250} .

ولما كانت قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: « يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك».

5 ـ ذكر الله: وهو من أعظم أسباب التثبيت، وتأمل هذا الاقتران بين الأمرين في قوله عزَّ وجل:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] {الأنفال:45} . وبماذا استعان يوسف عليه السلام في الثبات أمام فتنة المرأة ذات المنصب والجمال لما دعته إلى نفسها؟ ألم يدخل في حصن «معاذ الله » فتكسرت أمواج جنود الشهوات على أسوار حصنه؟.

قال الله تعالى:[الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ] {الرعد:28}.ومن داوم على ذكر الله وختم به جميع أعماله، وكان آخر ما يقول من الدنيا: لا إله إلا الله نال بشارة النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة» رواه أبو داود 3116، والحاكم 1/351.

6 ـ الصحبة الصالحة: من العلماء الصالحين والدعاة المؤمنين، فإخوانك الصالحون والقدوات والمربون هم العون لك في الطريق والركن الشديد الذي تأوي إليه، فيثبتوك بما معهم من آيات الله والحكمة... الزمهم وعِشْ في أكنافهم، وإياك والوحدة، فتتخطَّفك الشياطين، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية».

[وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ] {الأنعام:68} . قال الله تعالى:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ] {التوبة:119}.

وفي الحديث الشريف: « لا تصحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي». رواه أحمد

وكما أن عدوى الخير تسري فكذلك عدوى الشر، فمن صحب أهل المعاصي والغفلات، أوصلته صحبتهم إلى ما وصلوا إليه من المعاصي والمخالفات التي تضعف الإيمان، ثم إلى الكفر البواح، وعاقبة ذلك الندامة يوم القيامة: [وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا] {الفرقان:27}.

وفي الحديث الشريف: « المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل». أبو داود

عن المرء لا تسأل وسل عن =قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي

7 ـ التوبة: واجبة في كل لحظة. يقول سبحانه:[وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] {النور:31} .

روى مسلم قال صلى الله عليه وآله وسلم:« يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة».

وقد بيَّن صلى الله عليه وسلم أن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.

حال المؤمن بين الخوف والرجاء:

ينبغي أن يكون الخوف من سوء الخاتمة ماثلاً أمام عين العبد في كل لحظة لأن الخوف باعث العمل.

لكن إذا قاربت وفاة الشخص واشرف على الموت فينبغي له حينئذ أن يغلب جانب الرجاء، وأن يشتاق إلى لقاء الله، فإن من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه.

روى مسلم في صحيحه قال صلى الله عليه وسلم:« لا يموتَّن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عزَّ وجل».

لكن كثيراً من جهلة المسلمين اعتمدوا على واسع رحمة الله وعفوه ومغفرته، فاسترسلوا في المعاصي ولم ينتهوا عن السيئات.

روى الإمام أحمد والترمذي عن شدَّاد بن أوس قال: قال صلى الله عليه وسلم:« الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني».

قال المناوي 5/67: «الكيس: العاقل، من دان نفسه: حاسبها وأذلها واستعبدها وقهرها يعني جعل نفسه منقادة لأوامر ربها.

والعاجز: المقصِّر في الأمور من أتبع نفسه هواها فلم يكفّها عن الشهوات ولم يمنعها عن مقارفة المحرّمات واللذات، وتمنى على الله الأماني، فهو مع تقصيره في طاعة ربه، واتباع شهوات نفسه لا يستعد ولا يعتذر ولا يرجع بل يتمنّى على الله العفو والعافية والجنة مع الإصرار وترك التوبة والاستغفار.

قال الحسن: إن قوماً ألهتهم الأماني حتى خرجوا من الدنيا وما لهم حسنة. يقول أحدهم: إني أحسن الظن بربي وكذب: لو أحسن الظن لأحسن العمل:[وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الخَاسِرِينَ] {فصِّلت:23}.

قال الحافظ ابن رجب في «نور الاقتباس» ص62ـ63:

فإذا عُلم أن التعرف إلى الله في الرخاء يوجب معرفة الله لعبيده في الشدة، فلا شدة يلقاها المؤمن في الدنيا أعظم من شدة الموت، وهي أهون مما بعدها، إن لم يكن مصير العبد إلى خير، وإن كان مصيره إلى خير فهي آخر شدة يلقاها.

فالواجب على العبد الاستعداد للموت قبل نزوله بالأعمال الصالحة، والمبادرة إلى ذلك وذكر الأعمال الصالحة مما يُحسِّن ظنَّ المؤمن بربه ويهوِّن عليه شدة الموت ويقوي رجاءه.

وكانوا يستحبون أن يكون للمرء خبيئة من عمل صالح ليكون أهون عليه عند نزول الموت.

وكانوا يستحبون أن يموت المرء عقب طاعة عملها من حج أو جهاد أو صيام.

وقال النخعي: كانوا يستحبون أن يلقنوا العبد محاسن عمله عند موته، لكي يحسن ظنه بربه.

قال أبو عبد الرحمن السلمي في مرضه: كيف لا أرجو ربي وقد صمت له ثمانين رمضان.

ولما احتُضر أبو بكر بن عياش وبكوا عليه قال: لا تبكوا فإني ختمت القرآن في هذه الزاوية ثلاث عشرة ألف ختمة.

وروي عنه أنه قال لابنه: أترى أن الله يضيع لأبيك أربعين سنة، يختم القرآن كل ليلة؟

وقال بعض السلف لابنه عند موته ورآه يبكي: لا تبك فما أتى أبوك فاحشة قط.

وختم آدم بن أبي إياس القرآن، وهو مُسجَّى للموت، ثم قال: بحبي لك إلا رفقت بي في هذا المصرع، كنت أؤملك لهذا اليوم، كنت أرجوك، لا إله إلا الله ثم قضى ـ رحمه الله تعالى ـ.

وكان عبد الصمد الزاهد يقول عند موته: سيدي لهذه الساعة خبَّأتك، ولهذا اليوم اقتنيتك، حقِّق حُسْن ظني بك.

وقال ابن عقيل عند موته، وقد بكى النسوة: قد وقَّعت عنه خمسين سنة، فدعوني أتهنأ بلقائه.

أهمية اليقظة والحذر من الغفلة:

لحظةً يا صاحبي إن تغفل ألف ميلٍ زاد بُعد المنزل

رامَ نقشُ الشوك حيناً رجل فاختفى عن ناظريه المحمل

أن إنساناً كان تائهاً في مفازة يمشي على قدميه، فشهد على بعد منه محملاً أمل فيه أسباب النجاة، فأسرع متعجلاً، يقصده حافياً، فأصاب الشوك قدميه، فصرف بصره عن المحل لحظة، لنزع الشوك من قدمه، فغاب عنه المحمل!، ومات أمله ولبسته الحسرات!! فحقُّ من يطلب شيئاً أن لا يتحول عنه حتى يناله ولو لقي في سبيله الشدائد والألاقي.رسالة المسترشدين ص115.

إن كيفية الوفاة وموعدها ومكانها وسببها من الأمور الغيبية التي لا يعلمها إلا الله تعالى، إلا أن هناك نهايات إن خُتم بها عمل ابن آدم، ومات عليها فإنها تعد من قبيل البشارات بأن هذا المتوفى قد مات ميتة حسنة، والغالب على من كانت له حسن السريرة وصالح العمل أن تكون نهايته طيبة.

وهذا الإمام الجنيد ـ رحمه الله تعالى ـ يقول الجريري واصفاً وفاته:« كنت واقفاً على رأس الجنيد في وقت وفاته وهو يقرأ القرآن، فقلت له: أرفق بنفسك فقال لي: يا أبا محمد أرأيت أحداً أحوج إليه مني في هذا الوقت، وها أنا ذا تطوى صحيفتي وكان قد ختم القرآن الكريم ثم بدأ بالبقرة فقرأ سبعين آية ثم مات ـ رحمه الله تعالى ـ (طبقات الشافعية4/283).

من مات وهو في الصلاة:

1 ـ عامر بن عبد الله بن الزبير، قال مصعب: سمع عامر المؤذن وهو يجود بنفسه، فقال: خذوا بيدي، فقيل: إنك عليل، قال: أسمع داعي الله فلا أجيبه، فأخذوا بيده، فدخل مع الإمام في المغرب، فركع ركعة ثم مات، سير 5/220.

2 ـ حميد بن أبي حميد: قال القطان: مات حميد، وهو قائم يصلي...سير 6/167.

3 ـ حماد بن سلمة: مات حماد بن سلمة في الصلاة في المسجد. سير7/448.

4 ـ إسماعيل بن أبي بكر الإسماعيلي الجرجاني: توفي ليلة الجمعة في صلاة المغرب وهو يقرأ: [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] {الفاتحة:5} .ففاضت نفسه ـ رحمه الله تعالى ـ. سير17/88.

5 ـ شيخ الحنابلة علي بن الحسين بن جدا العكبري مات وهو يصلي. سير 18/392

6 ـ نصر المقدسي المتوفى سنة 490: قال الفقيه نصر عن شيخه نصر أنه قبل موته بلحظة: قال: يا سيدي أمهلوني، أنا مأمور وأنتم مأمورون، ثم سمعت المؤذن بالعصر، فقلت: يا سيدي المؤذن، يؤذن، فقال: أجلسني، فأجلسته، فأحرم بالصلاة، ووضع يده على الأخرى، ثم توفي من ساعته ـ رحمه الله تعالى ـ ». سير 19/142.

من مات وهو ساجد:

إن المؤمن إذا مات بكى عليه مُصلَّاه من الأرض، ومصعد عمله من السماء، وهذا الإمام إبراهيم بن هانئ أبو إسحاق النيسابوري توفي وهو صائم يقول أحد أصدقائه: « حضرت وفاة أبي إسحاق النيسابوري فجعل يقول لابنه إسحاق: يا إسحاق ارفع الستر، قال: يا أبت الستر مرفوع قال: أنا عطشان، فجاءه بماء، قال: غابت الشمس؟ قال: لا. قال: فرده. ثم قال: لمثل هذا فليعمل العاملون. ثم خرجت روحه». تاريخ بغداد 6/206.

فاضت روحه وهو صائم، وفي الحديث: « إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ».

وهذا الشيخ ابن قدامة حفظ القرآن والفقه والحديث، وكان مقرئاً زاهداً عابداً منيباً إلى الله، كثير النفع لخلق الله، ذا أوراد وتهجد واجتهاد، وأوقاته مقسّمة على الطاعات من الصلاة والصيام والذكر وتعلم العلم، والفتوة والخدمة«شذرات» 5/27.

لا يكاد يسمع دعاء إلا ـ حفظه الله تعالى ـ ودعا به ولا يسمع ذكر صلاة إلا صلاها، ولا يسمع حديثاًَ إلا عمل به، وكان لا يترك قيام الليل، وقلل الأكل في مرضه قبل موته حتى عاد كالعود، ومات وهو عاقد على أصابعه يسبح.

ودفن في يوم شديد الحر، فأتت غمامة فأظلت الناس إلى قبره وهم يشيعون جنازته، شذرات 5/28.

إن أهل الصلاح والاستقامة، فإن الله يوفقهم للثبات عند الممات، فينطقون بالشهادتين وقد يُرى من هؤلاء تهلل وجه أو طيب رائحة ونوع استبشار عند خروج أرواحهم.

وهذا مثال لواحد ممن وفقهم الله للثبات في نازلة الموت، إنه أبو زرعة الرازي أحد أئمة أهل الحديث، وهذا سياق قصته:

قال أبو جعفر محمد بن علي وراق أبي زرعة: حضرنا أبا زرعة بما شهران ( من قرى الري) وهو في السَّوْق ( أي: عند احتضاره ) وعنده أبو حاتم وابن واره والمنذر بن شاذان، فذكروا حديث التلقين: لقنوا موتاكم لا إله الله، واستحيوا من أبي زرعة أن يلقنوه فقالوا: تعالوا نذكر الحديث. فقال ابن داره: حدثنا أبو عاصم حدثنا عبد الحميد بن جعفر عن صالح، وجعل يقول: ابن أبي ولم يجاوزه، فقال أبو حاتم: حدثنا بندار حدثنا أبو عاصم عن عبد الحميد بن جعفر عن صالح ولم يجاوز ـ والباقون سكتوا.

فقال أبو زرعة وهو في السَّوْق ـ وفتح عينيه ـ:، حدثنا بندار حدثنا أبو عاصم، حدثنا عبد الحميد عن صالح بن أبي عريب، عن كثير بن مرة، عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة، وخرجت روحه ـ رحمه الله تعالى ـ سير النبلاء 3/76.

ومثل هؤلاء قال الله فيهم: [إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ] {فصِّلت:30} .

1 ـ أبو ثعلبة الخشني، صاحب النبي صلى الله عليه وسلم: روى ابن أبي عاصم بسنده إلى أبي ثعلبة يقول: إني لأرجو الله ألا يخنقني الله كما أراكم تخنقون، فبينما هو يصلي في جوف الليل قُبض وهو ساجد.

2 ـ مجاهد بن جبر، قال أبو نُعيم: مات مجاهد وهو ساجد سنة اثنتين ومائتين.

3 ـ أبو بشر اليشكري: قال نوح بن حبيب: كان أبو بشر ساجداً خلف المقام حين مات ـ رحمه الله تعالى ـ سير5/466.

4 ـ أبو الفضل جعفر بن الحسن الحنبلي المتوفى سنة 506: مات في الصلاة ساجداً في ربيع الآخر. سير 19/415.

5 ـ أبو الحسن علي بن المسلَّم بن محمد السُّلَمي الدمشقي الشافعي: قال ابن عساكر: توفي في ذي القعدة سنة ثلاث وثلاثين وخمس مئة ساجداً في صلاة الفجر. سير 2/33. طبقات الشافعية 4/283، وهذه الوفاة من حسن الخاتمة، فالعبد أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد، فكيف وهو في صلاة الفجر في جماعة.

بشائر تدل على حسن الخاتمة:

 النطق بكلمة التوحيد عند الموت.

 أن يموت شهيداً من أجل إعلاء كلمة الله.

 أن يموت غازياً في سبيل الله أو محرماً بحج.

 أن يكون آخر عمله طاعة الله من صيام أو صدقة.

 أن يموت صابراً محتسباً بسبب أمراض ألمت به.

 الموت ليلة الجمعة أو نهارها.

المؤمن والخوف

رهبة الموت وسكراته.

القبر وعذابه.

الخوف من أهول يوم القيامة.

الخوف من الرياء.

الخوف من النفاق.

الخوف من المعاصي والكبائر.

الخوف من الصغائر.

الخوف من العمل وعدم قبوله.

الخوف من سوء العاقبة.

الخوف من مناقشة الحساب.

الخوف من موقف السؤال.

الخوف من المقام أمام رب العالمين.

المؤمن والرجاء

شهادة التوحيد.

رحمة الله الواسعة.

الأعمال الصالحة مكفرة للسيئات.

فتح باب التوبة.

الشفاعة المحمدية.

نشرت 2010 وأعيد تنسيقها ونشرها 8/10/2020

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين