من أعلام اليمن: طاووس بن كيسان

للعلامة الشيخ يوسف القرضاوي حفظه الله تعالى

اسمه: طاووس بن كيسان، وكنيته أبو عبد الرحمن.
ولد باليمن السعيد ونشأ به، ونشر به علم الإسلام، فلا غرو أن ينسب إليه ويعرف بطاووس اليماني، ويسجل تاريخ الرجال أنه فقيه اليمن غير منازع.
أدرك نحو خمسين من الصحابة، وتلقى عنهم ما وسعه من العلم والهدى الذي بعث الله به رسوله، فروى عن أبي هريرة، وعائشة وزيد بن ثابت، وجابر بن عبد الله، و ابن عمر، وأكثر الرواية والصحبة لابن عباس رضي الله عنهم، وكان من أجلِّ تلامذته وخاصَّة أصحابة .
وقال فيه: "إني لأظن طاووساً من أهل الجنة"، وقال سفيان بن عيينة: قلت لعبد الله ابن أبي يزيد: مع من كنت تدخل على ابن عباس؟ قال: مع عطاء والعامة، وكان طاووس يدخل مع الخاصة.
وتلقى عنه العلم جمع غفير من التابعين وأتباعهم ( منهم ابنه عبد الله) رأوا فيه ثبتاً أميناً فيما يروي، فقيهاً مسدَّداً فيما يرى. قال عمرو بن دينار: ما رأيت مثله، وقال الزهري: لو رأيت طاووساً علمت أنه لا يكذب. وقال هو لأحد تلاميذه: إذا حدَّثتك حديثاً قد أثبته فلا تسأل عنه غيري، ومثل هذا لا يقوله إلا واثق من نفسه، مطمئن إلى علمه وأمانته.
وذكر في تاريخ صنعاء: أنه ولي قضاء صنعاء والجَنَد... إلى جانب ما يقوم به من رواية وإفتاء وتعليم وتذكير.
علم وعمل:
ولكن شخصية هذا الإمام لم يبرزها العلم وحده ـ وإن له لفضلاً ـ وإنما أبرزها الإيمان الصادق، والعمل الصالح، والخلق العظيم.
كان وثيق الصلة بالله تعالى، قانتاً آناء الليل ساجداً، و قائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه، يجد في قيام ليلة قرة لعينة وزاداً لقلبه، وأنساً بمولاه، لا يشغله عنه عذاب السفر ولا نَصَب البدن.
كان في قافلة الحجَّاج مرة، فعرض للناس أسد حبسهم في الطريق ليلة مروَّعين، ودقَّ بعضهم بعضاً من الفزع، فلما كان السحر ذهب عنهم الأسد فنزل الناس يميناً وشمالاً يبتغون النوم والراحة، وقام طاووس من بينهم يصلي، فقال له ابنه: ألا تنام فإنك قد سهرت ونصبت الليلة؟ فقال: ما كنت أظن أحداً ينام في السحر، وكان رقيق القلب مرهف الوجدان دقيق الحس، حتى رووا عنه أنه إذا مر بروّاس ( بائع الرؤوس) فرأى الرؤوس المشوية لم ينم تلك اللية.
وكان كثير الحج إلى بيت الله الحرام، في عصر ما كان الحج فيه من اليمن إلى مكة سفراً قاصداً، ولا نزهة تستروح فيها النفس، كان يسير شهراً ذاهباً، وشهراً راجعاً، لكن هذا العناء كان يسيراً عليه حبيباً إليه ما دام من ورائه شرف الغاية وحُسن الثواب، فهو يقول لابنه: إن الرجل إذا خرج في طاعة، لا يزال في سبيل الله حتى يرجع إلى أهله.
والحق أن الحج لم يكن لطاووس ونظرائه عبادة روحيَّة فحسب، بل كان ـ فوق ذلك ـ مجمعاً لعلماء الإسلام من كل الأقاليم، في ساحته يلتقون، ويتساءلون ويتذاكرون ويتعاونون، فيأخذ بعضهم عن بعض، ويراجع بعضهم بعضاً قبل أن تعرف الدنيا معنى التعاون العلمي على هذا النطاق الفسيح.
الإسلام الإيجابي:
وكان الإسلام في رأسه وقلبه واضحاً مستقيماً، بعيداً عن الضعف والسلبيَّة، دافعاً إلى البناء والإيجابية، متَّسماً بروح القوة وقوة الروح.
لم يكن كإسلام المتكلمين ـ فيما بعد ـ بما غلب عليه من جدل ونظريات، ولا كإسلام المتصوفة بما فيه من سلبية وانعزالية، ولا كإسلام أتباع المذاهب الفقهية بما طغى عليه من جفاف وتفريع وتعقيد.
فليس كل صمت خيراً، ولا كل كلام شراً كما يدَّعي بعض الورعين المتزمتين، بل كما قال طاووس لأبي نجح: ( من قال واتقى الله خيراً ممَّن صمت واتقى).
والدعاء خير، ولكن لا يكن همك تسول الدعاء من غيرك، و باب الله مفتوح لك على مصراعيه، فلا عجب أن يرد الذين يعتقدون فيه الزلفى إلى الله، ويسألون الدعاء لهم ـ وقد عرف بين الناس أنه مستجاب الدعوة ـ قال له رجل: ادع الله فقال: أدع لنفسك فإنه يجيب المضطر إذا دعاه.
 
وقال لآخر: لا أجد بقلبي حسبة فأدعو لك.
والمؤمن يرضى بالقضاء، ويصبر على البأساء والضراء، ولكن الفقر والبأساء شيء، وإنما النظافة والزينة شيء آخر.
وقد رأى رجلاً مسكيناً في عينه عمش، وفي ثوبه و ساخة، فقال له: يا هذا إن كان الفقر من الله فأين أنت من الماء؟!
والتزيُّن وحسن الهندام مندوب إليه ولكن الترف والنعومة والطراوة ـ وبخاصة في الشباب ـ مفسدة للرجولة، وقتل لروح الجهاد.
 رأى فتياناً من قريش يرفلون في مشيتهم، فقال: إنكم لتلبسون لبسة ما كانت آباؤكم تلبسها، وتمشون مشية ما يحسن الزفانون ـ الزفن: هو الرقص ـ أن يمشوها.
كان قويَّ الفكر مؤمناً بسنن الله في الأسباب والمسبَّبات، ينفر من الخرفات ويكفر بالأوهام، وكان رجل يسير معه فسمع غراباً ينعب فقال: خيراً! فقال طاووس: أي خير في هذا أو شر ؟ لا تصحبني ولا تمشي معي.
ولم يكن كأولئك الذين سموا فيها بعد بالصوفية، الذي دعوا إلى الرهبنة، وخوفوا مريديهم من الزواج، بل كان يقول: لا يتم نسك الشاب حتى يتزوج، وقال لإبراهيم ابن ميسرة أحد تلامذته: لتتزوجن أو لأقولن لك ما قال عمر لأبي الزوائد: ما يمنعك عن النكاح إلا عجز أو فجور.
عجز أو فجور ذلك هو المانع من الزواج وكلاهما مما يستعاذ بالله منه، فالإنسان بطبيعته ضعيف أمام الغريزة، فإذا لم يغلبها بالحلال غلبته بالحرام.
وكان طاووس يفسر قوله تعالى:[ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا] {النساء:28}. فيقول: في أمور النساء، ليس يكون في شيء أضعف منه في النساء.
مدرسة أخلاقيه:
وكان مجلس طاووس ـ إذا جلس للتدريس ـ مدرسة تربوية عملية، يتلقى الناس فيها معارف الإسلام وأخلاق الإسلام معاً، فالناس عنده سواسية، الأمراء إذا حضروا حلقته كالعوام أو أدنى، لا يوجِّه إليهم فضل عناية ولا مزيد اهتمام، كان يعلم الناس بسلوكه أن العلم أرفع قدراً من المال والجاه، وأن العالم العامل أعز من الأمير والخليفة المطاع، وأن العلماء أمراء الأمراء.
قال سفيان بن عيينة: حلف لنا إبراهيم بن ميسرة، وهو مستقبل الكعبة ـ: ورب هذا البيت، ما رأيت أحداً، الشريف والوضيع عنده بمنزلة واحدة إلا طاووساً.
وجاء ابن لسليمان بن عبد الملك ـ وهو خليفة ـ فجلس إلى جنب طاووس فلم يلتفت إليه، فقيل له: جلس إليك ابن أمير المؤمنين فلم تلتفت إليه قال: أردت أن يعلم هو وأبوه أن لله عباداً يزهدون فيهم وفيما في أيديهم!
وقال الصلت بن راشد: كنا عند طاووس فجاءه مسلم بن قتيبة بن مسلم صاحب خراسان، فسأله عن شيء، فانتهره طاووس، فقلت: هذا مسلم بن قتيبة بن مسلم صاحب خراسان!
 فقال: ذاك أهون له علي!
وروى الزهري أن سليمان بن عبد الملك في حجة رأى رجلاً يطوف بالبيت له جمال وكمال، فقال: من هذا يا زهري ؟ قال: هذا طاووس، وقد أدرك عدة من الصحابة، فأرسل إليه سليمان، فأتاه فدخل عليه في قوة المؤمن، وإيمان القوي، لم ينخلع قلبه فزعاً، ولم يسل لعابه طمعاً.
فقال له: لو ما حدثتنا؟ وقال طاووس في نفسه: هذا مقام يسألني الله عنه، فلم يكن حديثه إلى الخليفة حديث الخائف أوالمادح، إن المدح والإطراء بضاعة الشعراء لا بضاعة العلماء، ومهمة العالم أن يوجه وينذر لا أن يحرق البخور، فماذا قال طاووس؟ قال: حدثني أبو موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أهون الخلق على الله عزَّ وجل من ولي من أمور المسلمين شيئاً فلم يعدل فيهم) والحديث ناطق ناصع لا يحتاج إلى تعليق.
فتغيَّر وجه سليمان وأطرق طويلاً، ثم رفع رأسه فقال: لو ما حدثتنا؟
قال: حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طعام في مجلس من مجالس قريش، ثم قال: إن لكم على قريش حقاً، ولهم على الناس حق، ما إذا استرحموا رحموا، وإذا حكموا عدلوا، وإذا ائتمنوا أدوا، فمن لم يفعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً).
وتغيَّر وجه سليمان للمرة الثانية وأطرق طويلاً ثم رفع رأسه إليه وقال: لو ما حدثتنا؟.
فقال: حدثني ابن عباس: أن آخر آية نزلت من كتاب الله: [وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ] {البقرة:281}
وكذلك يكبر العالم بعلمه وإيمانه ويرتفع حتى يصير كالجبل، ويتضاءل أمامه الأمراء والخلفاء حتى يصيروا كالذباب.
وإنما جرَّأه على هؤلاء أنه لم يكن يطمع في شيء عندهم، ولا يخافهم على شيء عنده، وفيم يطمع؟ وعلام يخاف؟ الناس يطمعون في دنيا الأمراء، وهو استدبرهم وراء ظهره، ويخافونهم على الرزق والأجل، وهو يعلم أن ليس في أيديهم من أمرهما شيء، حتى يأمل منهم الزيادة، أو يخشى منهم النقصان.
التحرر من الخوف والطمع، والرغبة في وجه الله وحده هما مفتاح تلك الشخصية الفارعة، وقد قيل: إن العالم إذا اراد بعلمه الناس والدنيا خاف من كل شيء، وإذا أراد بعلمه وجه الله خوَّف الله منه كل شيء.
قدم طاووس بمكة، وقدم إليها أمير المؤمنين فقيل لطاووس: إن من فضله، ومن.... ومن... فلو أتيته؟ قال: مالي إليه من حاجة، فقالوا: إنا نخافه عليك!قال: فما هو إذن كما تقولون! وصدق طاووس.
فأي فضل لحاكم يخشى الناس بطشه وأذاه أن يمتد إلى العلماء والهداة!!
وكان يقول لعطاء بن أي رباح فقيه مكة: يا عطاء. إياك أن ترفع حوائجك إلى من أغلق دونك بابه، وجعل دونه حجابه، وعليك بطلب من بابه لك مفتوح إلى يوم القيامة، طلب منك أن تدعو،ووعدك الإجابة.
إلى الآخرة:
عمَّر طاووس طويلاً حتى وهن العظم منه، واشتعل الرأس شيباً، بيد أن قلبه لم يهن وعقله لم يشخ، بل ظل متألق الفكر حاضر الذهن، قائماً بشعائر العبادة لربه، حتى آخر عمره.
روى ابن سعد عن ليث قال: رأيت طاووساً في مرضه الذي مات فيه يصلي قائماً على فراشه ويسجد عليه.
وقال أبو عبد الله الشامي: أتيت طاووساً فاستأذنت عليه، فخرج إليَّ شيخ كبير، فقلت أنت طاووس ؟ قال: لا أنا ابنه، قلت: إن كنت أنت ابنه فإن الشيخ قد خرف، فقال: إن العالم لا يخرف، فدخلت عليه، فقال طاووس: سل فأوجز، فقلت: إن أوجزت أثقلت ـ فقال: تريد أن أجمع لك في مجلسي هذا التوراة والإنجيل والفرقان فقلت: نعم. قال خف الله مخافة لا يكون عندك شيء أخوف منه، وأرجه رجاء أشد من خوفك إياه، و أحب للناس ما تحب لنفسك..
وما أصدقها وصيَّة جامعة في معاملة الله والناس!
وفي إحدى حجَّاته إلى مكة المكرمة، آن لهذا السراج الوهَّاج أن ينطفء فأدركه الموت على خير ما يدرك عليه المسلم: أدركه مُحرماً ملبِّياً طائفاً قانتاً لله... في البلد الحرام والشهر الحرام، في السابع من ذي الحجة من سنة ست ومائة من الهجرة، بعد بضع وتسعين سنة مباركة حافلة بالعلم والعمل والدعوة إلى سبيل الله.
وكان هشام بن عبد الملك قد حجَّ تلك السنة ـ وهو خليفة ـ فصلى على طاووس، و سار في جنازته خلق كثير حرصوا على تشييعه إلى مثواه الأخير، منهم عبد الله بن الحسن بن علي، الذي أخذ بقائمة سريره فما زايله حتى بلغ القبر، وقد سقطت قلنسوة كانت عليه ومُزِّق رداءه من خلفه، من كثرة الزحام، والناس يسترحمون ويقولون: رحم الله أبا عبد الرحمن، حجَّ أربعين حجة.
أجل، رحم الله أبا عبد الرحمن في الأوَّلين و نفع بعلمه في الآخرين.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر: مجلة الأزهر جمادى الآخرة 1382هـ، عدد 18.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين