ابن المبارك

الشيخ: محمود النواوي

في بطون التاريخ وأسفاره نفائس من كنوز المثل العليا في العلم والأدب، والزهد والاستقامة والخلق العظيم، جدير بكل طموح أن ينظر فيها ويتزود منها لتدفع به إلى فوق. ومن هؤلاء ذلك الإمام الجليل ( عبد الله بن المبارك).
لقد كان عبد الله بن المبارك مثال الرجل العالم الجامع لأشتات العلم في عهده من الحديث والفقه والعربية وأيام الناس. وإن كانت شهرته بالحديث والفقه هي التي بقيت له.
ولقد كان على جانب خصيب من الزهد والمروءة والسخاء العجيب، موطَّأ الأكناف رحب الذراع مع شجاعة نادرة في نفس مؤمنة صادقة يجاهد في الله حق جهاده حتى استوت له شخصية زاحمت شخصيات الملوك والخلفاء،ووضع في النفوس أسمى من السماء.
ولد ابن المبارك سنة ثماني عشرة ومائة وتوفي سنة اثنتين وثمانين ومائة، فهو من أعلام القرن الثاني، وأفذاذ العصر العباسي الذهبي، الذي كان يموج بالعلوم والمعارف موجاً على اختلافها، والذي استقرت فيه علوم الشريعة الإسلامية باستقرار الملك والخلافة لآل العباس فظهر الفقه الناضج المرتب على أصوله، وتنافس الناس في سنَّة النبي صلى الله عليه وسلم وهي أعز شيء بعد الكتاب عند المسلمين وهي أساس التفسير والفقه ومطلع شمس الهداية في أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد امتاز الموالي في ذلك العهد بأن الكثرة الكاثرة من حملة ألوية العلم والثقافة كانت منهم لأنهم شاءوا أن ينافسوا العرب بما يرفع الإسلام وهو العلم و الخلق، وكان ابن المبارك من هؤلاء الموالي، وكانت أمه خوارزمية وأبوه تركياً، وكان عبداً لرجل من التجار من همذان، وعاملاً في بستان.
فقد نشأ إذاً نشأة الموالي المتواضعة المنافسة في عهد عُبِّدت فيه سبل العلم وسهل مشارعه وشجع الخلفاء رجاله بالمال الوفير وإسناد المناصب الخطيرة في الدولة إليهم، وابن المبارك على استعداد عجيب نادر يمر وهو في المكتب بخطيب يخطب فيحفظ خطبته ويلقيها كما سمعها.
وقد شغف بالعلم شغفاً شديداً، وطلبه عند رجاله من أئمة العلم في مرو وخوارزم وبغداد، يرحل إليهم حيثما كانوا، يأخذ عنهم ويكتب بين يديهم ويناقشهم، فتتلمذ لإمام دار الهجرة مالك وأخذ عنه الموطأ، وتتلمذ لسفيان الثوري وأخذ عنه ما عنده من الفقه والحديث، وتتلمذ لأعلام تفاخر بهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، من أمثال الليث بن سعد وشعبة، والأعمش، والأوزاعي وابن جريح، وكان أكثر أخذه عن سفيان الثوري، ومالك بن أنس، وما زال في روايته وحفظه، ودرسه وفقهه وانتفاعه بعلمه حتى صار من الأئمة الربَّانيين في العلم الموصوفين بالحفظ المذكورين بالزهد، وبلغ من الشهرة والصيت مبلغاً جعله لا يزاحم ولا يختلف الناس في أمره، وساعد على ذلك أدب وطيب نفس، وسخاء وشجاعة وتضحية، وزهد مع الثراء من التجارة التي كان يلجأ إليها يستعين بها على الإحسان و العطاء.
وقد تتلمذ له في العلم من صاروا أئمة في عصره وبعد عصره من أمثال سفيان بن عيينة، ويحيى بن معين، وابن أبي شيبة، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الرزاق بن همام، ويعمر بن بشر، وغيرهم من أئمة الدين في الحديث والفقه.
المحدث: وبلغ من منزلته في الحديث أن كتب عشرين ألف كتاب فيه كمانقلوا عنه، فهب أنها كراسات صغيرة، أو أن في النقل بعض المبالغة غير أنها تدل على منزلة خطيرة في السنة والرواية.ولا عجب إذا كان ذلك الزاهد الحافظ الورع يبلغ في السنة هذه المنزلة، وقد روي أن سائلاً قال له:
أتحفظ الحديث؟ فقال: أنا لا أتحفظ، ولكن إذا أعجبني شيء علق بي.
وقد تناقل الناس علمه بالسنة وحفظه إياها في عصره حتى حضر يوماً عند إمام من أئمة الحديث من ملأ من تلامذته، وهو حماد بن زيد، وكان حماد من العلماء الربانيين المعروفين بالحفظ البارعين في معرفة الأثر وطرق الروايات وأحوال الشيوخ، فقال أصحاب حماد لحماد: سله أن يحدثنا. فقال حماد: يا أبا عبد الرحمن تحدثهم؟ فقال عبد الله: سبحان الله يا أبا عبد الرحمن أحدث وأنت حاضر ؟ قال: أقسمت لتفعلن. فقال عبد الله: خذوا.
وكان أصحاب الحديث بالكوفة إذا تشاجروا في الحديث قالوا: مروا بنا إلى ذلك الطبيب لنسأله.
وكان أبو أسامة من أئمة الحديث يقول: ابن المبارك في أصحاب الحديث مثل أمير المؤمنين في الناس، وشهادات الناس له في الحديث ومنزلته فيهم معروفة مبسوطة في كتب الأثر فلا نطيل بها، وحسبك أن تعلم مبلغ استعداده وتفرغه ونهمه وأن هذا العصر كان عصر إحياء الحديث ورجاله.
الفقيه: كان من الذكاء والقدرة على استنباط الأحكام في منزلة خولت له أن يكون فقيهاً يزاحم مالكاً وأبا حنيفة، ويحتج لمذاهبه بما لا يدفع، وكتب كتباً كانت مراجع للعلماء في عصره، وبعد عصره حتى قال الإمام يحيى بن آدم: كنت إذا طلبت الدقيق من المسائل فلم أجده في كتب ابن المبارك آيست منه. وحتى عدَّه عبد الرحمن بن مهدي إماماً من أربعة لا يذكر غيرهم في الفقه: فهو يقول: الأئمة أربعة: سفيان الثوري، ومالك بن أنس، وحماد بن زيد، وابن المبارك، وكان يقدمه على سفيان الثوري، فقيل له: إن الناس يخالفونك، فيقول: إنهم لم يجربوا، ما رأيت مثل ابن المبارك، وجائز أن الناس كانوا يقدمون سفيان لأنه أسبق، ولأنه من شيوخ عبد الله، على أن إمامة سفيان و فضله وتقدمه لم يمنعه أن يعترف لتلميذه اعترافاً دل على مبلغ فضله، فقد جاء رجل يسأله عن مسألة، فقال له سفيان: من أين أنت؟ قال: من أهل المشرق قال: أو ليس عندكم أعلم أهل المشرق عبد الله بن المبارك؟ قال: هو أعلم أهل المشرق؟ قال سفيان: والمغرب. وكان إبراهيم بن شماس يقول: رأيت أفقه الناس، وأورع الناس، وأحفظ الناس، فأما أفقه الناس فابن المبارك، و أما أورع الناس ففضيل بن عياض، وأما أحفظ الناس فوكيع بن الجراح، ونحن لا يعنينا أن نبالغ في وصف العلماء وتقديمهم، وإنما يعنينا ما فيهم من مثل صالح وقدوة تحفز على النشاط وتفريغ أنفسنا للعلم وكسبه وهو أكثر من أن يحاط به.
الفاضل الزاهد السخي المجاهد:
كل أولئك وأكثر منهن قد اجتمعت في عبد الله بن المبارك فقد بلغ من زهده في الدنيا وجوده بها. أن كان يتعهد الناس ويلتمس أرباب العثرات فيجبرها ويخفي ذلك ما استطاع، وقد استفاضت أخباره في ذلك وعرف الكثير من أمره بعد موته لأنه يرجو تجارة مع الله لن تبور كما أدّبته السنة، و كما علمه الكتاب الكريم، وقد دل على ذلك إجماع الناس على حبه وحفاوتهم به، ولقد كان يتّجر في تجارات واسعة وهو صائم الدهر لا لشيء إلا لينفق على الفقراء ولاسيما طلبة العلم ورجال الدين. وليسع رجال التصوف والمنقطعين لله عزوجل، وهل رأيت رجلاً يشهد له المعاصرون من أهل المنافسة في حكم العادة فيقول قائلهم: (الإمام إسماعيل بن عياش): ما على وجه الأرض مثل ابن المبارك، ولا أعلم أن الله خلق خصلة من خصال الخير إلا وقد جعلها فيه.
ويستدل لبعض ذلك فيقول: حدثني أصحابي أنهم صحبوه من مصر إلى مكة فكان يطعمهم الخبيص وهو الدهر صائم.
وخرج من بغداد يريد بلداً تسمى المصيصة ـ هي من ثغور المرابطة والجهاد بين بلاد الشام وبلاد الروم ـ فصحبه الصوفية فأراد أن يكرمهم ويخفي ذلك ما استطاع: قال لهم إن لكم أنفساً تحتشمون أن ينفق عليكم: يا غلام، هات الطست، فألقى على الطست منديلاً، ثم قال: يلقي كل منكم تحت المنديل ما معه، فجعل الرجل يلقي عشرة دراهم، والرجل يلقي عشرين فأنفق عليهم إلى المصيصة، فلما وصل إليها أخذ يقسم ما بقي فيعطي الرجل عشرة، ويعطي الرجل عشرين ديناراً، فيقول الرجل: يا أبا عبد الرحمن إنما أعطيت عشرين درهماً، فيقول وما تنكر أن يبارك الله للغازي في سبيله.
وفي أخباره ما يدل على أنه كان يفعل مثل ذلك في أيام الحج، يخرج من مرو وقد اجتمع أصحابه ويأخذ ما مع كل منهم فيضعه في صندوق ثم يركبهم من مرو إلى بغداد ويطعمهم أطيب الطعام، ثم يكسوهم في بغداد ويخرجهم في أحسن زي، فإذا وصلوا إلى المدينة سأل كل منهم عما يطلب أهله وعياله من المدينة فيشتريه له، ويفعل ذلك في مكة بعد قضاء الشعائر.
فإذا عادوا زخرف لكل منهم بابه وداره، ثم صنع لهم وليمة بعد ثلاثة أيام ودفع لكل منهم صرته كما هي في الصندوق، وله في كتب الأدب والتاريخ أخبار في قضاء الديون وإقالة العثرات، والإنفاق على طلبة العلم والصالحين يخرج استقصاؤها عن القصد والاعتدال.
ويروي البغدادي إجمالاً من ذلك يقول فيه إنه كان ينفق على الفقراء كل سنة مائة ألف درهم، وكان يقول للإمام العابدي في عهد الفضيل بن عياض: لولا أصحابك ما تاجرت.
ولما لامه بعض الناس في تفريقه الأموال في البلدان قال: إني أعرف مكان قوم لهم فضل وصدق طلبوا الحديث فأحسنوا الطلب،الناس بحاجة إليهم ،احتاجوا فإن تركناهم ضاع علمهم وإن أعناهم بثوا العلم لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا أعلم بعد النبوة أفضل من بث العلم.
أيها القارئ الكريم: هذه هي نفس العالم الذي يقال فيه إنه من خلفاء الأنبياء يتعهد الناس بقدر طاقته، ويحسن خلافة محمد صلى الله عليه وسلم في أمته، فيكون نفَّاعاً ما استطاع.
هذا هو العلم الصحيح النافع الذي يزهد في الدنيا ويرغب في الآخرة، ويعلم النصح للأمة فأين العلماء؟ لهذا وغيره من صفات هذا العالم العارف بالله والحق يقول عبد الرحمن ابن مهدي: ما رأيت أنصح لهذه الأمة من عبد الله بن المبارك.
فأما شجاعته وجهاده بنفسه في سبيل الله فقد دلت عليه أخباره في تاريخه وأنه كان يشهد المعارك، ويبارز الأعداء مبارزة عالم خبير بالحرب والفروسية.
ومن ذلك ما رواه عبدة بن سليمان المروزي: قال كنا في سرية مع ابن المبارك في بلاد الروم، فلما التقى الصفان خرج رجل من العدو فدعا إلى البراز فخرج إليه رجل فقتله، ثم دعا إلى البراز فخرج إليه رجل فقتله، ثم دعا إلى البراز فخرج إليه رجل فطاعنه فقتله، فازدحم الناس عليه فإذا هو لثم وجهه بكمه، فأخذت بطرف كمه فإذا هو عبد الله بن المبارك.
وهكذا أيضاً تأبى عظمة نفوس العلماء الفضلاء على العلماء الفضلاء إلا أن ينتفعوا بما في هذا العلم من كنز ثمين في رفعة شأن الدين والدنيا فلقد كفل السعادة للناس في كل شيء من أمرهم وليس هو بالوضوء والصلاة وغير ذلك من الأعمال التي تحسنها العامة.
إن الدين معاملة وإنفاق وجلاد وتضحية وإيمان، وبالله الهداية والتوفيق.
والظاهر أن ابن المبارك كان يتَّسم بالقِدْح المُعَلَّى في الجهاد والجلاد، وقد اشتهر بذلك وكان قدوة صالحة ومثلاً للعالم النبيل في عصره، حتى روي أن فضيل بن عياض رآه في المنام فقال: أي الأعمال وجدت أفضل؟ قال: ما كنا فيه. قال الفضيل: الجهاد والرباط، قال: نعم. قال: واي شيء صنع بك ؟ قال: غفر لي مغفرة ما بعدها مغفرة.
الشخصية:
لعلك بعد هذا كله تستطيع أن تدرك مبلغ شخصية ابن المبارك وسمو منزلته في الناس حتى قال عبد الرحمن الجهضمي قال لي الأوزاعي: رأيت ابن المبارك؟ قلت: لا. قال: لو رأيته لقرت عينك. وقال شعبة لأحد العلماء المعاصرين: رأيت ابن المبارك؟ قال: نعم. ما قدم علينا من ناحيتكم مثله، وقال أبو عصمة: شهدت سفيان وفضيل بن عياض وقد مات ابن المبارك، فقال سفيان لفضيل: يا أبا علي أي رجل ذهب؟ فقال فضيل: يا أبا محمد، وبقي بعد ابن المبارك من يستحى منه! وقال عبد الوهاب بن عبد الحكم: بلغني أن هارون الرشيد قال لما مات سفيان: مات سيد العلماء.
وبعد فحسبي أن أنقل لك هذه الحادثة وأختم بها حديثي عن ذلك الإمام:
قدم الخليفة هارون الرشيد الرقة في مناسبة، وكان ابن المبارك يسير في طريقه، فانجفل الناس خلف ابن المبارك، وتقطعت النعال، وارتفعت الغبرة، فأطلت أم ولد لأمير المؤمنين من برج لها فقالت: ما هذا ؟ قالوا: عالم من أهل خراسان، فقالت: هذا والله الملك، لا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بشرط.
أيها العلماء والطلبة ويا رجال الدين أجمعين: هذا والله الملك، يجمعه الله في توفر العالم على علمه واعتداده بنفسه، واعتزازه بالله وحده، وفي نصحه للمسلمين، و زهده في الدنيا، وفيما يتنافس المنافس فيه بالرياء والنفاق والتزاحم على أبواب الحكام ومن لهم في الدنيا نصيب، فاتقوا الله واطلبوا هذا الملك الذي خول الله لكم، ولا تزدروا نعمة الله عليكم فتخسروا الدنيا والآخرة، أسأل الله لي ولكم التوفيق والهداية.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر: مجلة الأزهر مجلد 24شوال1372هـ الجزء العاشر.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين