تبصير وتصبير !!!

 

اتصلت به وطلبت رؤيته عاجلا ، سألني إن كان بي شيء؟ قلت :ألف شيء ..ألا يكفي مايحدث في سوريا ؟صمت ،لعله كان يبتسم كعادته عندما يرى علي الهلع ،أو لعله مل مني ومن كثرة اتصالي به ،قال لي: نصلي العصر في المسجد جانب بيتك ونجلس قليلا.
دخلت المسجد قبل صلاة العصر ،مازلت أحب الدخول إلى المسجد عندما يكون خاليا ،أقف وسطه تماما وأصلي ركعتين ،أشعر بخشوع غريب لا أعرف سببا له ،وهي عادة اعتدتها من صغري ومازلت أحاول كل فترة وأخرى أن أختلي بربي في بيت من بيوته،لعل هذا لا يتفق مع سنة الجماعة إلا أنني لا أقصد صلاة الفريضة ،فأنا غالبا ما أذهب قبل الأذان وأسر عندما لا أجد أحدا ، أشعر بأنني أسبح في بحر من نور ، على كل حال هي عادة اعتدتها ولا أعتبرها فضيلة أووسيلة للتقرب ،إنها مجرد ميل ، رغبة ، حنين ، لا أعرف ضبطا ،وأظن أني لا ألام عليه ،إلا عندما يخترق خلوتي مصل قد أتى مبكرا ،عندها أنقبض ،ولكنني سرعان ما أستغفر ربي عزوجل، أما صلاة الجماعة فلها في ذائقتي الروحية طعم آخر ، لعلي أستطيع التعبير عنه بالدخول على الله تعالى بمعية الصالحين ، والتوق إلى القبول مع الجماعة التي لا يشقى مشاركهم ،سيما عندما يكون في المسجد من الفقراء والمساكين من أرى أن لهم عند ربي مكانة خاصة ،مكانة الصبر والتسليم والرضى مع القلة التي قد تصل إلى حد الشدة ،فالدخول على الله تعالى بصحبة الفقراء لا يخيب حسب حسن ظني بمن طلب منا أن نحسن الظن به .
أذن المؤذن ،وبدأ الناس يتوافدون إلى المسجد ،لا شك أن كثيرا منهم لا يعاني كما نعاني نحن السوريين ،اللهم أدم الأمن والطمأنينة عليهم ،وأعدنا إلى بلادنا سالمين غانمين ، صليت ركعتي سنة العصر ،دخل من الباب بأناقته المعهودة ،و خلع حذاءه بحركة لا يقدر عليها إلا الشباب ، دخل وجال بنظره في المسجد حتى رآني ،اتجه إلي ،ووقف بجانبي ،حاولت أن أنهض لأسلم عليه ،فأشار بيده ثم دخل في الصلاة مباشرة ،كان خاشعا ،وكان ينتقل بين هيئات الصلاة برشاقة أحسده عليها ،أنهى صلاته وسلم علي ،ثم قمنا إلى صلاة الفريضة مؤتمين .
انتهت الصلاة وبعد الورد وضع يده على فخذي ،وقال:تحت أمرك .
- أنا الذي تحت أمرك ياسيدي
- بم تفكر؟
 
-بأهل حمص ،وحماة ،ودرعا ،وريف دمشق .
- ماأظن أنهم مهمومون كهمك.
-يذوقون المر من هؤلاء الوحوش وتقول ليسوا مهمومين؟!
- للمعركة أجواء من دخلها بإيمان هانت عليه الخطوب.
-والجوعى والمكلومون والخائفون المهددون بالقصف والقنص ؟؟
-يمدهم الله بمدد من عنده.
- سيدي أرى أن الأمور تزداد سوءا يوما بعد يوم ،والأراذل يزدادون قسوة وإجراما ، لعلنا نحتاج إلى مراجعة حساباتنا؟
- ماذا تقصد ؟!! أوافق، بشرط واحد ألا نكون عاطفيين ، وأن نفكر على مستوى الأمة لا على مستوى الأفراد.
- حاضر ياسيدي.
- أي حسابات تحتاج إلى مراجعة؟
-لعلنا في سوريا استعجلنا الثورة وأدخلنا أنفسنا في ورطة لا مرجع عنها .
-أربعون سنة وتقول استعجلنا؟ وكان عليك أن تقول تأخرنا كثيراً حتى غاص الشر بهؤلاء إلى أعماق حياتنا !!
-أقصد أننا لم ندرس جيدا عوامل النصر والهزيمة ،وإمكانات النجاح والفشل .
- هذا كلام المعوقين ،ولكن لأمش معك قليلا ،أنت تقول لعلنا استعجلنا ،من أنتم ؟ هل الثورة قامت منظمة ؟ أقصد هل هناك من قرر ووقَّت للثورة ؟أم أن الأمور سارت باتجاه الثورة دون أي تخطيط ،ولما تعامل النظام مع المعترضين بإجرامه انتشرت انتشار النار في الهشيم؟
- طيب ،عندما حاول بعض الرجال تهدئة الناس قمنا جميعا واعترضنا عليهم.
- وهل تظن أن الناس كانوا سيسمعون كلاما من هنا أو هناك وقد أهينوا في شرفهم وانتهكت حرماتهم واعتدي عليهم في أنفسهم وأموالهم ؟
-ولكن النتيجة اليوم ياسيدي أننا على أبواب حرب اقليمية.
- قلت لك لا نريد أن ننظر إلى الأمور بشكل عاطفي ،هناك حلف شيعي يتألف من ايران التي تكاد تصبح قوة عظمى ،وسوريا والعراق وحزب الله في لبنان ،هذا الحلف شديد الخطورة على المسلمين السنة خاصة وعلى العرب بشكل عام ،لقد شعر العرب أخيرا بخطر هذا الحلف ،وفهموا أن المعركة في سوريا هي معركة السعودية وقطر والامارات والكويت وغيرها مع نزوع فارسي شيعي يمكن أن يلتهم الأخضر واليابس ،وبشار المغرور الغبي هو نقطة ارتكاز هذا الحلف في سوريا ولبنان ،أي أن المسألة لم تعد مسألة شعب مقهور وحاكم ظالم ،كان يمكن لهؤلاء الأوغاد أن يريحوا ويستريحوا لو تنحَّوا عن السلطة ،ولكنهم أبوا إلا أن يخوضوا الحرب كاملة باسم ايران وروسيا ،هل تريد للفرس أن يبتلعوا الشرق الأوسط في هجمة تترية جديدة؟
-والنتيجة ؟
-النتيجة أن هزيمة هذا الحلف هي المقدمة على كل شيء.
-ولكن !!.. ستخرب البلد ،وسيقتل مئات الآلاف.
- ماسيخرب يعاد إعماره، ومن يقتل يقتل شهيدا، وهو عند الله يرزق بغير حساب ،أم أنك تريد لأولادك أن يعيشوا عبيدا أذلاء للفرس ومواليهم ؟
- سيدي أخشى أننا نتكلم بهذا الهدوء وهذا المنطق لأننا خارج سوريا ،الناس في الداخل ليسوا كذلك.
- الناس في سوريا أشجع وأقوى من ذلك بكثير . أتعرف لماذا ؟ لأنه ما من أحد –على الأغلب إلا وقد أسيء له ،اعتقل له ابن أو أخ ، قُتل له قريب أو جار ،حتى عندما يدخل شبِّيحتهم الى البيوت للتفتيش لا بد أن يسرقوا البيت الذي دخلوه ،مالا أو ذهبا أو حتى جهازا كهربائيا ، فضلا عن التخريب والتكسير والإيذاء والشتم والسب والإهانة .
- والكفر ياسيدي.
- نعم ، سمعت أنهم يمزقون المصاحف بل حتى الآيات القرآنية المعلقة على الجدران ويطالبون الناس بالكفر مؤلهين بشارهم الدجال.
- وذلك... يقول إن ثورة الناس هي ثورة على القرآن والسنة .
- برأيه بشار ومن معه يمثلون القرآن والسنة ؟؟!! هل هناك غباء أكبر من هذا ؟
-لا أظن .
- اسمع ،هؤلاء، مثلي ومن في عمري يعرفهم أكثر منكم ،هم مهووسون بالكفر ودفع الناس إليه ،منذ الستينيات لم يخجلوا من تأليه حزبهم وقادتهم وإعلان ذلك بكل صفاقة في كل مكان ،ثم إنهم كانوا ومازالوا يقدسون كبراءهم ،فالرئيس عندهم إله لا يسأل عما يفعل وهم يتباهون بذلك ، حزب البعث تاريخه أسود في العراق وفي سوريا ،مجموعة من البلطجية والأراذل الذين لا يأمن الواحد منهم حتى زميله ،تاريخهم مليء بالخيانات فيما بينهم ،ورجالهم من أسوأ البشر خلقا و قيما ومبادئ وسلوكا ، آن لهذه العصابة التي ابتلينا بها أن ينتهي زمانها .
- ما العمل إذن؟
- الايمان بأننا نخوض ثورة توحيد لله الحي القيوم ، معركة مع أصنام لا تقل عن أصنام الجاهلية ،بل هي أسوأ منها بكثير ، لم يعد مقبولا اليوم تأليه الزعيم ، رئيس الجمهورية صار موظفا يقوم على خدمة أمته وناسه ،وهؤلاء لا يريدون أن يفهموا ذلك .
- طيب.
- وأن نؤمن بأنه لا رجعة الى الوراء ، وأننا بإذن الله منتصرون .
- طيب.
- وأن نجود بالنفس ،فإن لم يكن فبالمال ، دون تقصير ،حتى لا نؤتى من خلفنا بما يؤتى به المنافقون .
- صحيح.
- وأن نتصرف بحكمة ، فكل حركة يجب أن تحسب منافعها ومضارها ، و أن لا نجبن ولا نتهور ، فالعاقل هو الذي يمشي خطواته بحكمة وحساب .
- ماذا تقصد؟
- أقصد أن الضجيج أحيانا يكون أكبر من العمل .
- لم أفهم .
- محاربة الأفاعي والذئاب الغادرة تحتاج إلى حنكة وذكاء لا إلى استعراض عضلات منفوخة بالهواء.
- فصِّل أكثر.
- بعضهم أراد أن يساعد المسحوقين من ظلم الطغاة في سوريا فأقام غداءاً خيريا نبَّه حتى الدبب النائمة إلى أصحابه .
- وماذا في هذا ؟
- ماالقصد من الغداء الخيري ،إن كان الدعم والمساعدة فلسنا في حاجة إليه ،وإن كان الاعتراض والتعبير عن الاحتجاج فهذا شيء آخر له حساباته الخاصة بكل فرد ،والناس ليسوا سواسية في ذلك.
- سيدي ،اعذرني ،أشم من كلامك شيئا اعذرني –كأنه – رائحة تشبه رائحة الجبن .
- أنت تعرف أني لست كذلك ،ولكنني أحب أن أحدد الهدف وأسعى إليه بأقل كلفة ممكنة ،إن كان الهدف هو الصدقة أو الزكاة أو الدعم سمِّه ماشئت ،فليس أحب إلى الله من إخفاء هذا العمل ،وبدون أن نفيد منه بالأسواق أو الولائم الخيريَّة التي أرى أنها بدعة ليست من ثقافتنا ،أما الاحتجاج فكل امرئ له ظروف لا بد من اعتبارها هنا ،ومثله هذه الحروب الالكترونية التي يشنُّها أمثال هؤلاء الشباب ،مع أن القنوات الفضائية المعتبرة كفتهم الكثير مما يعيدون عرضه عبثا ،لم لا يحاول كل منا أن يمثل إضافة حقيقية للثورة دون أن يكون مجرد ببغاء يكرر مايقال أو ناسخة تنسخ ماتراه وتعيده طبق الأصل ؟ دون رياء ودون عنتريات من يجلس الى اللاب توب خارج سوريا والى جانبه فنجان من القهوة قد يزعجه أن يبرد .
- سيدي كأنك تحوم حول المعنى ولا تريد أن تصرح به .
- أخشى أن يظن الواحد من هؤلاء أنه إن علق فيديو على صفحته أو علق تحت صورة يكون بهذا قد قام بما عليه وأنه كمن يخاطر بحياته ليلتقط صورة حية في شوارع سوريا ويرسلها الى الإعلام موثقا جريمة من جرائم النظام.
- ما أظن ذلك ياسيدي..
- إذن فما فائدة كل هذا العويل الالكتروني المتكرر الى حد الملل؟
- سيدي ،يقولون إن عامل الكثرة هنا هو المهم ،أقصد عندما يحتج مليون محتج في صفحة ما فهذا يعني للنظام شيئا.
- هذه الكثرة الالكترونية ليست قادرة على أن تُحرك حصى صغيرة فكيف بشجرة خبيثة ضربت جذورها العفنة في الأرض سنين طويلة ،أنا لا أقول أن كل مساهمة على النت لا قيمة لها ،ولكنني أنعي على من يرى أن كل الجهاد هو في (الكوبي )و (البست ) أو (النسخ )و اللصق.
- سيدي ماالعمل إذن ؟
- أن يكون كل منكم صوتا متميزا في الثورة على النظام ،دون ضجيج ، ودون مراءاة ،ودون عنتريات ، وألا تخدِّروا أنفسكم بالحرب الالكترونية الباردة والتي هي أبرد من الصقيع ، هل تعرف أنني اليوم من كثرة ما أتلقَّى من ايميلات متكررة بدأت أحذف قسما كبيرا منها حتى دون قراءة .. أرجوكم ياشباب ،الوقت لم يعد يتَّسع للمقاومة بالأصابع الناعمة على أزرار الكمبيوتر ،وفي الوقت نفسه لا تلقوا بأيديكم الى التهلكة بالمجان .
أبو عبيدة

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين