نفحات القرآن الكريم العدل والظلم

الشيخ عبد اللطيف محمد السبكي

من الألفاظ البارزة في القرآن الكريم: لفظا: عدل وظلم... في صيغ مختلفة... وهما متقابلان... إذا جرى أحدهما على لسانك خطر الثاني ببالك... وذلك هو الشأن فيما بينهما التضاد: مثل خير وشر، وحسن وقبيح، ونافع وضار... هكذا عرفنا من الكتب، ولكن الأمر فيما نحن بسبيله فوق الضوابط المسطورة، فللوجدان إدراك، وللفطرة مذاق، وللشعور تقدير، وللإحساس تصوير.
وخصائص القرآن ـ كما عهدنا إليك من قبل ـ تنطوي عليها ألفاظه، وتمتزج بها معانيه، ويقترن بها سياقه، فلا يمكنك أن تراها شيئاً غيره، ولا تستطيع أن تباعد فيها بين شيء وشيء... والسمع يتلقف من ألفاظ القرآن ما يقابل بعضه بعضاً: كالعدل والظلم، والهدى والضلال، والرحمة والعذاب... فتجنح الحساسية القلبية إلى جانب، وتزور عن جانب: تجنح إلى لفظ كلفظ العدل... حيث يدرك الوجدان حنوه، وتتذوق الفطرة عذوبته، ويقدر الشعور فيه رفاهيته، ويتصوره الوعي الإنساني كالظل الظليل، يأوي إليه اللاهث المحرور فيطرح عناءه، ويسترد راحته، ويتخيله الوعي كالماء القراح: ينحدر إليه الظامئ الكدود فيروي صداه، و يبرد به الكبد الحرى... وهل ترى لفظ العدل الذي توجنا به حديثنا إلا أماناً شاملاً من المخاوف عامة؟ هو أمان تنادي به الفطرة الاجتماعية، وتهتف به الإنسانية، وترنو إليه الدنيا لتسلم الحياة على طولها من كل ما يلويها عن السير قدماً إلى الأمام.
العدل!!وما العدل ؟ وفيم يكون؟ العدل: اعتدال بين جانبين: لا إلى اليمين ولا إلى الشمال، فهو كميزان قائم لا يميله عن الجادة مساس، ولا تقربه النسمات فتتأرجح كفتاه... و لقد أغنانا القرآن الكريم عن الإسهاب في تشخيصه، فضرب له الأمثال، وعنى من بينها بذكر الميزان ... واشترط فيه أن يكون بالقسطاس المستقيم ـ العلامة الوسطى التي يضبط بها التساوي ـ وعلمنا ـ سبحانه أنه آخذ في شأنه معنا بنحو ذلك ، وأنه سيقيم الميزان بينه وبيننا يوم الفصل : [وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ] {الأنبياء:47} .
[وَالوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] {الأعراف:8} .
وليس بعد ذلك تمثيل أوضح في التعليم ، ولا توجيه أقوى إلى العدل ، إلا ما في علم الله ثم يكون العدل منك فيما لك أو عليك ، وفيما يصدر عن جوارحك من قول أو عمل ، وفيما يجري تحت سلطانك من شؤون الناس ، وفيما يقع تحت عينك وتستطيع أن تطول إليه يدك ، أو ينطق فيه لسانك : بل يكون فيما تنطوي عليه سريرتك مما يخفي على الناس ولا يخفى على رب الناس ، [وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا] {الإسراء:36} .
والعدل كالقوة الجاذبة تتآخى به النفوس ، وتشتد به العلائق وتستقيم عليه الجماعة.
وسطوة العدل تقوِّم المعوج ، وتروع الجائر، وتمهِّد للحضارة أن تسير وللدنيا أن تزدهر .
أما الظلم : فلفظه بغيض ، ومعناه موحش ، وحوله مكاره ، وهو على الإيجاز مسخوط يقضُّ المضاجع اللينة ، ويشرد الخواطر الساكنة ، ويزعج النفوس الآمنة ، ليس للدنيا حظ فيه ، ولا للحياة نصيب منه ، ولا للإنسانية رغبة إليه ، ولا تجنح إليه النفس إلا نفساً خالطتها وحشية ، أو طغت عليها البهيمية فأفسدت عليها فطرتها ، ونأت بها عن الهدى ، فكانت آفة من آفات المجتمع ، وشوكة في جنب الحضارة ، وقذى في عين الحياة.
الظلم!! وما الظلم؟ وفيم يكون؟؟ الظلم انحراف عن الجادة أو ميل من جانب إلى جانب ، ويمثله لك ميزان مضطرب يعطيك مرة أكثر أو أقل ممَّا لك ، ويأخذ منك مرة فوق أو أقل ممَّا عليك ، وهو في جملته وتفصيله شذوذ عن سنن الفطرة.
ويكون الظلم كذلك فيما بينك وبين الناس من كافة الشؤون ، ويكون فيما يقع تحت عينك ، وتملك أن تطوله يدك ، أو ينطق فيه لسانك ...و الظلم في حساب الفطرة كاللهب مساسة تهلكة ، وللقرب منه مخافة ، وعاقبته خسار وبوار ، ومهما هان وقع الظلم فهو قبيح مشؤوم ، تنقبض لذكره المشاعر ، ولا تستقيم عليه الحياة بحال ، لذلك حرَّمه الله على نفسه ، ونهانا في تأكيد من الآيات عن التظالم إبقاء على مصالحنا في دنيانا ، واحتفاظاً بعمارة الكون كما شاء مبدعه سبحانه... واستبقاء لهناءة الفرد في محيطه الذي يعيش فيه.
حفلت آيات الكتاب بذكر العدل والظلم، ولكن لماذا يقف ذكر العدل عند العشرين مرة مع أنه محبَّب للقلوب ؟ ولماذا يتردد ذكر الظلم خمس عشرة وثلاثمائة مرة مع أنه مرذول بغيض؟
أحسب ذلك لأمرين:
أحدهما: أن العدل نجى الفطرة البريئة من الشوائب، فهو شاخص لديها لا يغيب عنها، وإنما يذكر للتذكير، حتى لا تخيم عليه الشواغل، ولا يستشري في إغفاله الظلم والعدوان.
ثانيهما: أن الظلم دعوة الشيطان فهو دائماً يزيّنه، ويجتذب إليه، فكان الإكثار من ذكره للصد عنه، ولمقاومة المغريات التي يقدمها إلى كل نفس شيطانها من الجن أو الإنس... والمرء بحاجة إلى تبصيره بسوء ما يعرضه شيطانه، وتأمره به نفسه، ويدفعه إليه هواه على أنَّ كل نهي عن الظلم في طيِّه أمر بالعدل، وكل تشويه لآثار الظلم تزكية للعدل: ضرورة المقابلة بين المتضادين كما أسلفنا. فالإكثار من ذكر الظلم للتشويه والتقبيح.
وللقرآن في حديثه عن العدل مسلك حكيم، فهو يذكره أولاً: كمبدأ عام: يأخذنا به من غير تفصيل، وفي هذا توجيه إلى أن العدل في اعتبار الشريعة كما هو في حساب الفطرة الإنسانية: لا يتخصَّص بشأن دون شأن، ولا يختص به قوم دون آخرين، وفي هذا يقول الحكيم سبحانه: [إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ] {النحل:90}.فلم يقيد أمره بمعقول، بل ساقه بصيغة الإطلاق ليكون سلطان الأمر مبسوطاً على كل من يقع تحت التكليف أو يكون صالحاً لذلك، وكذلك أطلق العدل، فلم يحصره في شيء ولم يقرره بزمن، وعلى هذا يكون العدل كما قلنا مبدأً منشوداً على وجه التعميم والاطراد.
ثم تأتي آيات أخرى تؤكد ذلك، نحو قوله تعالى:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] {المائدة:8}.وهنا تنحسم الخصومات، فلا تنال من العدالة بل ولا تمتد إليها بالانتقاص مهما يكن سببها: فلا تشفّي، ولا حنق، ولا جَنَف، ولا انحراف، وإنما هو تخلق بأخلاق الرحمن، وأخذ بالكمال حتى مع من لا يكون موالياً، ولا مطيعاً:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ] {النساء:135} .
ومن مسلك القرآن ـ ثانياً ـ في ذكر العدل أن يتجاوز التعميم إلى التطبيق فيعرض لأمور يبرز فيها العدل أكثر، ويأتي على كثير منها بالتصريح: ومنها:[إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ] {النساء:58}. [وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ] {المائدة:44}. [ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ] {المائدة:47}. [وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] {المائدة:45}. فهل ترى تأكيداً آكد وتصريحاً أصرح من طلب العدل في الحكم على هذا النَّحو واعتبار الخروج عن العدل فيه كفراً: وظلماً، وفسوقاً ؟ وهل بعد هذه الثلاثة شناعة؟
 ومنها: [أَوْفُوا الكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ المُخْسِرِينَ وَزِنُوا بِالقِسْطَاسِ المُسْتَقِيمِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ] {الشعراء:183}. [وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ المِيزَانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي المِيزَانِ وَأَقِيمُوا الوَزْنَ بِالقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا المِيزَانَ] {الرَّحمن:9} [وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ] {المطَّففين:4}. وهكذا من مواطن العدل البارزة يسوقها الكتاب العزيز مساق التطبيق للمبدأ العام فيما يجري على ألسنتهم من أقوال ولو لم تكن عالقة بأحد، ومن باب الأولى إذا كانت عالقة: [وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ] {الأنعام:152}. وفي هذه الآيات وأمثالها تحصين للعدالة أن تذهب ضحية الهوى، أو تميل بها العصبية أو يلتقوى بها التأويل المغرض.
والمسلك الثالث للقرآن في ذكر العدل ـ بعد تركيزه كمبدأ، وبعد التمثيل في تطبيقه مسلك التصوير الدقيق لحقيقته، والكشف عن مداه ـ ولو تقريباً ـ ليتبصَّر العقل، ويتيقظ الوجدان... ومن ذلك أن الله يضرب لنا الأمثال عن شأنه وهو الحكم الأعلى غير مدافع ولا مسؤول: [إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا] {يونس:44}. [إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ] {النساء:40}. [فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ] {الزَّلزلة:8}.
[إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا] {الكهف:30}. [يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ] {لقمان:16}.
فذلك تصوير بارز: فيه تأكيد، وتقوية للعهد، يأخذه الله على عباده أن يستنُّوا بسنته ويتزلوا عند إرادته، ويقيموا شرائعهم على هذا الأساس من شريعته، حتى مع من خاصموا ربهم في دينه، ولم يستجيبوا لدعوة رسوله فإن الله قد عدل مع هؤلاء، ولم يطاردهم من ملكه، ولم يقطع أرزاقهم في ديناهم، ولم يأخذهم على غرة، فإنه خلقهم بقدرته، وأبقاهم بإرادته وحكمته، فكان حقاً لائقاً أن يعدل، وقد عدل، وطلب إلينا أن نأخذ بهديه ذلك.
[لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ] {الممتحنة:8} .
فالقرآن الكريم يطوف بنا حول العدل في أوضاعه البيِّنة: مبدأ وتطبيقاً، وتصويراً، ولمَ كل ذلك؟؟ لأن العدل للحياة الاجتماعية كأنفاس الحياة للكائنات الحية، وهو لنهضات الشعوب كالماء العذب في سقي الزروع، فإن لم يكن في القلوب متَّسع لهداية القرآن: فلتكن لنا هداية من تجارب الأزمان، وما شهدنا أمة جارت، ولا حاكماً ظلم، ولا أسرة طغت إلا ثأر الله بقوته ممَّن عبثوا بسنَّته، وغفلوا عن دعوته، وفي الآيات نُذر تُسمع من به صمم، وفي الكون دلائل مشهودة لمن بعينه قذى، وكلها تنادي: العدل... العدل...!!
فمن لم يعدل ـ ولو في خاصة نفسه ـ أو اجترأ ولو في شأن غير ذل بال... فقد ساهم في كبت العدالة، ومناصرة العدوان، ومن وراء ذلك اختناق الحياة وتعويق الحضارة ومحادة لله فيما رسم لنظام الكون... وربك بالمرصاد، ولن يهمل مهما أمهل.
وإنك لترى في بعض الآيات تخويفاً من الظلم أكثر مما ترى في جانب غيره من المآثم، فانظر ـ مثلاً ـ إلى قوله سبحانه:[وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ] {الأنعام:21}.[لَا يُحِبُّ اللهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا عَلِيمًا] {النساء:148}. وفي هذا الاستثناء إيذان بأن صوت المظلوم مسموع في كل ما يتجه به إلى الله... وقد أكدت أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك فأفادت في صراحة أن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب... وأفادت أن الله ينصر دعوة المظلوم ولو بعد حين...
وأفادت أن الظلم في الدنيا ظلمات يوم القيامة... أي: أنها ظلمات متكاثفة تكتنف بشاعتها الظالم، وتحدق به حتى يكون شأنه مفضوحاً، ويكون بين الخلائق في هول وضجر وآلام... بينما يكون لغير الظالمين في ذلك الموقف الرهيب نور يسعى بين أيديهم، وبأيمانهم، وعن شمائلهم، ثم هم يتزيدون فيقولون: [يَوْمَ لَا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] {التَّحريم:8}. ويقول الظالم:[أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ] {الزُّمر:56}.
ولديك من التخويف بالحق الذي يصدع رؤوس الجبابرة: أن الله تعالى حينما دعانا إلى الحكم بالعدل جعل الخروج عنه كفراً، ثم ظلماً، ثم فسوقاً، على هذا الترتيب في الآيات، فإذا كان الظلم قرين الكفر والفسوق، وكان بينهما في الذكر: صحَّ لك أن تقول في هذا السياق شر الثلاثة أوسطها، كما نقول في باب الثناء: خير الأمور أوسطها... وتوجيه ذلك ـ أن الكافر على ما به من شؤم واضح الشأن لا يتاح له أن يدلس على الناس مثل ما يدلس الظالم، وهو متستر وراء تسمية دينية يبتدعها ثم لا ينزل على حكمها ولا يراعي مقتضاها.
ولا أذهب بك بعيداً في التذكير والإقناع، فالقرآن الكريم نفسه يصارحك بما يؤكد لنا ما يفيده السياق أو ما أسميه في اصطلاحي الخاص بالنفحات ـ وإليك قول الله تعالى:[وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا العَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ] {يونس:54}.
فاتِّخاذ الظلم في هذا التهديد والإخبار عنه بأن ما في الأرض لو كان مملوكاً للظالم لقدَّمه فداء لنفسه يومذاك، مما يكشف لك في غير خفاء عما ينتظر الظالم هنالك من وبال. ولا تقل: إن المراد من الظلم خصوص الكفر... فقد عمَّم القرآن وقرن بينهما في قضية واحدة، وإذا لم تكن توبة مقبولة فربك لا يغفل عما يعمله الظالمون إنما يؤخِّرهم ليوم تشخص فيه الأبصار.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله و صحبه وسلم.
المصدر: مجلة الأزهر شوال 1372هـ، الجزء العاشر مجلد 24.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين