كلمات في الوسطية ـ 6 ـ

التفريط والغلو في الأحكام التشريعية

الشيخ : مجد مكي

الأحكام التشريعية هي حدود الله تعالى :
إنّ الأحكامَ التشريعيَّة الدينية حقائق ذات حدود ربانية، غايتها امتحان الطاعة لله والرسول، فلا يجوز النقص فيها، ولا الزيادة عليها.
والأحكام التَّشريعية منها محرَّمات دينية، وهي أمور واضحات لا يجوز انتهاكها، ومنها فرائض دينية لا يجوز تضييعها.
عن أبي ثعلبة الخُشَني رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ الله فرض فرائض فلا تُضيِّعوها، وحدَّ حدوداً فلا تعتدوها، وحرَّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمةً بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها)، أورده الإمام النووي في الأربعين وقال: حديث حسن رواه الدار قطني وغيره.
وقد وصف القرآن الكريم أحكام الشريعة بأنها حدود الله تعالى.
قال في سورة البقرة بعد بيان أحكام جناية القتل، والوصية، وأحكام الصيام والاعتكاف: [تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ] {البقرة:187}.
وفي نفس السورة بعد بيان عدد من الأحكام: [تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] {البقرة:229}.
وفي أول سورة الطلاق: [وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ] {الطَّلاق:1}.
وقد أثنى الله تعالى على المؤمنين الذين يلازمون المحافظة على حدود الله وبشرهم بالجنة فقال عزَّ وجل في شأنهم: [التَّائِبُونَ العَابِدُونَ الحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآَمِرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ المُنْكَرِ وَالحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ] {التوبة:112} .
المحافظة على حدود الله عزَّ وجل :
فالمحافظة على حدود الله بعدم الاقتراب منها بالبعد عن مزالق الخطر، وهو مستوى الورع والكمال الإيماني:[ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا] {البقرة:187}.
وبعدم تجاوزها، ومن دخل الحدَّ تجازوه، لأنه لا يدخل فيه إلا بأن يمسَّ منطقة الحرام: [وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ] {الطَّلاق:1}. والنهي عن تجاوز حدود الله نهيٌّ تحريميٌّ.
تعدي حدود الله بالتحريم والتحليل:
ومن تعدِّي حدود الله: تحريم ما أحلَّ الله أو تحليل ما حرَّم الله، أو إيجاب ما لم يوجبه الله، أو استباحة ترك ما أوجبه الله.
فالتَّحليل والتَّحريم بغير دليل شرعيّ، افتراءٌ على الله، وكذبٌ عليه:[وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ] {النحل:116} .
استباحة فعل ما حرَّم الله:
والتفريط في الأحكام التشريعية باستباحة فعل ما حرَّم الله، والتلاعب بدلالات النصوص للتخفيف من الحكم الشرعي اتِّباعاً للأهواء والشهوات، أو إرضاءً لأهواء ذوي النفوذ أو الجاه أو المال... كتحليل الربا، وإباحة بعض المسكرات، أو كتهوين أمر أكل أموال الناس بالباطل، أو تهوين أنواع الظلم والاحتكارات والغبن الفاحش تأثُّراً بمنهج الرأسمالية...
من التفريط في الأحكام التشريعية: إنزال مرتبة المحرَّمات الكبائر إلى مستوى المحرَّمات الصغائر، وإنزال المحرَّمات الصغائر إلى مستوى المكروهات، وإنزال مرتبة الفرائض إلى مستوى الواجبات العادية...
ومن التفريط في الأحكام التشريعيَّة: تتبُّع الآراء الاجتهادية الضعيفة التي تخالف جمهور علماء المسلمين.
الحقائق الشرعيَّة بين التفريط والغلو:
إنَّ الحقائق الشرعية، حلالها وحرامها، وواجبها ومندوبها ومكروهها، ذوات حدود:
فالنقص عن هذه الحدود: تفريط، والزيادة عن هذه الحدود: غلو، والانحراف عنها في العمل: معصية، والتغيير في هذه الحدود الدينية، أو إدخال مفاهيم ما أنزل الله بها من سلطان: ابتداع وتحريف، وتشريع بما لم يأذن به الله.
من صور التفريط والغلو:
أ ـ الإسراف في الأكل والشرب غُلوٌّ يجلب الداء، وقد يقتل، والإسراف في الجوع والعطش تفريط قد يوقع في السَّقم الشنيع وقد يقتل.
والاعتدال هنا ذو مراتب: عليا ـ وسطى ـ ودنيا.
فالعليا هو قوله صلى الله عليه وسلم: «بحسب ابن آدم لُقيمات يُقمْنَ صُلْبَه».
والوسطى: ما زاد على لُقيمات التي يقمن صلبه حتى المرتبة الدنيا.
 والدنيا هي التي بيَّنها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: « فإن كان لامحالة، فَثُلُثٌ لطعامه، وثُلُثٌ لشرابه، وثُلُثٌ لنَفَسه» رواه الترمذي (2302) عن المقدام بن معدي كرب ، وقال : حسن صحيح.
ب ـ الإسراف في الكدِّ والعمل من دون راحةٍ غلوٌّ مسقم أو مُهلك، والإسراف في الراحة والكسل وترك العمل تفريط بحقِّ الجسم، مُضْنٍ ضار، قد يهلك صاحبه.
والوسط النافع هو: الاعتدال من غير إسراف في بذل الجهد، ولا إسراف في الإخلاد إلى الراحة وترك العمل.
والاعتدال هنا ذو مراتب: أدناها: مرتبة العمل الواجب، وأوسطها: مرتبة العمل المبرور الزائد على الواجب، وأعلاها: مرتبة الإحسان في العمل، وهو العمل الكامل الذي لا لهو فيه ولا لعب، مع أخذ الواجب من الراحة والترويح عن النفس.
ج ـ الإسراف في الحبِّ والكره غلوٌّ ضارٌّ، قد يُهلك صاحبه، والإسراف في ضبط العاطفة تفريط قد يوقع صاحبه في جفاف العاطفة، فالأنانية الشنيعة، فالكراهية الكئيبة، والبغض المقيت الضار، فالوحشية التي تبغض كلَّ شيء، وتخشى من كلِّ شيء.
والوسط هو: الاعتدال من غير إسراف في الحب ولا إسراف في ضبط العاطفة كما قال صلى الله عليه وسلم: «أَحْبِبْ حبيبك هَوْناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هَوْناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما» رواه الترمذي (1920) وضعفه وصحَّح وقفه على عليٍّ رضي الله عنه .
والاعتدال هنا ذو مراتب، أدناها: مرتبة الحب الواجب، وأوسطها: مرتبة الحب المبرور، وأعلاها: كمال الحب في الحب في الله. وما هو دون المرتبة الدنيا: تفريط، وما هو بعد المرتبة العليا: منحدر الغلو.
فالحقائق لها ضمن حدودها ومقاديرها مراتب دنيا ووسطى وعليا.
فالنزول عن هذه المراتب تفريط، وتجاوز هذه الحقائق غلو.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين