من مواقف المنافقين

بقلم: محمد عادل فارس

 
في هذه الأيام التي نرى فيها ظهوراً لمنافقين يقفون إلى جانب الطغاة ضد شعوبهم، وكان بعضهم قبل فترة وجيزة يُظهرون أنفسهم أصحاب غَيرة على الاستقامة والشهامة والسماحة والشرف، ومحاربة للفساد والرشوة والتمييز الطائفي... بل كان بعضهم محسوباً على علماء الدين... ما أحوجنا أن نستكشف سمات النفاق والمنافقين، ولقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في شأن المنافقين: ﴿ولو نشاء لأريناكهم فَلَعَرَفتهم بسيماهم، ولتعرفنهم في لحن القول﴾ سورة محمد: 30
كان الناس جميعاً يعلمون أن دعوة الإسلام حق، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم حقّ... لكن منهم من آمن وأعلن إيمانه وتحمّل مسؤولية ذلك أمام المجتمع، وهؤلاء هم المؤمنون.
ومنهم من أبى الإيمان، وآثر التمسّك بما كان عليه الآباء والأجداد، ورأى في ذلك عزّه ومصلحته... وهؤلاء هم الكفار.
ومنهم من أراد أن يُمسك العصا من الوسط: يعلن أمام المسلمين أنه مسلم، فينال مزايا المؤمنين في الدنيا، ويتجسّس لحساب الكافرين، ويلتمس عندهم يداً، ويتلقّى منهم الأوامر... وهذا الصنف أسوأ من صنف الكافرين المجاهرين، يندسّ في صفوف المسلمين يُخَذّل، وينشر الشائعات، ويُبلبل الصفوف بالمواقف المخزية، ويتخلّى عن نصرة الإسلام والمسلمين في أحرج الأوقات.
قال الله تعالى في شأن هؤلاء: }بَشِّرِ المنافقين بأنَّ لهم عَذاباً أليماً. الذين يَتّخذون الكافرين أولياءَ من دونِ المؤمنين أيَبْتَغون عندهمُ العزّةَ فإن العزّة لله جميعاً{ النساء: 138- 139.
وقال تعالى: }الذين يتربَّصون بكمُ فإنْ كان لكم فتحٌ من الله قالوا: ألمْ نكنْ معكم وإن كان للكافرين نصيبٌ قالوا: ألم نستحوذْ عليكم ونمنعْكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً{ النساء: 141.
وقال سبحانه: }مذبذبين بين ذلك. لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء. ومن يضللِ الله فلن تجد له سبيلاً{ النساء: 143.
من مواقف المنافقين في غزوة أحد
استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه قبل المعركة فكان رأي عبد الله بن أبيّ بن سلول [وهو رأس النفاق، لكنّه في الظاهر مسلمٌ وصحابي] التحصّن في المدينة، بدل الخروج لمواجهة المشركين. وكان هذا رأي النبي صلى الله عليه وسلم كذلك. لكن الشباب والمتحمسين، لا سيما الذين فاتهم حضور غزوة بدر، كانوا يرون الخروج للقتال. فنزل النبي صلى الله عليه وسلم على رأيهم، وخرج في ألف رجل.
قال ابن إسحاق: حتى إذا كان المسلمون بين المدينة وأحُد، انخذل ابن أبي سلول بثُلث الناس، وقال: أطاعهم وعصاني! ما ندري علامَ نقتُلُ أنفسنا ههنا أيها الناس؟!
وهكذا انسحب ثلاثمئة من المنافقين وممن كان مخدوعاً بابن سلول، في ذلك الموقف الحرج، وصار المسلمون في خطر داهم، فإن معنويات بقية الجيش ضعفت بانسحاب من انسحب، وقلّ عدد الجيش من ألف إلى سبعمئة، وصارت المدينة المنورة مهددة بأن يجتاحها المشركون وينهبوا خيراتها ويَسْبوا نساءها.
وقام بعض المسلمين الخُلَّص يعِظون هؤلاء المنسحبين، ويذكّزونهم بالله، ويحرّكون مشاعرهم تجاه روابط القربى... فقد قام عبد الله بن حرام الأنصاري يُخاطبهم: يا قوم أُذكّركم بالله، لا تخذلوا قومكم ونبيَّكم عند ما حضر من عدوّكم. فقالوا: لو نعلم أنكم تُقاتلون لما أسلمناكم. ولكنّا لا نرى أنه يكون قتال. فلما استعصوا عليه وأبَوا إلا الانصراف عنهم قال: أبْعَدَكم الله، أعداءَ الله، فسيُغني الله عنكم نبيّه!.
وقد بيّن موقفُ المنافقين يوم أُحد ما هم عليه من جُبنٍ وتخاذل واختلاق للأعذار الواهية، مما كشف نواياهم وأسقط مكانتهم، وأزال هيبتهم في قومهم. من ذلك أنّ عبد الله بن أبي سلول كان يقوم كلّ جمعة إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول: أيّها الناس هذا رسول الله بين أظهركم أكرمكم الله به فانصروه وعزِّروه، واسمعوا له وأطيعوا. ثم يجلس. حتى إذا صنع يوم أحد ما صنع، قام يفعل ذلك كما كان يفعله، فأخذ المسلمون بثيابه من نواحيه وقالوا: اجلس يا عدوَّ الله لستَ لذلك بأهل، وقد صنعتَ ما صنعتَ! فخرج يتخطى رقاب الناس، فلقيه رجل من الأنصار فقال: ويلَكَ ارْجِعْ يستغفرْ لك رسولُ الله، قال: والله ما أبغي أن يستغفر لي.
المنافقون في غزوة الخندق
كان من أبرز ما عبّر به المنافقون عن مواقفهم المتخاذلة في غزوة الخندق هو النكوص عن المشاركة في حفر الخندق، وقلّة انضباطهم في صفّ المسلمين، وكثرة تردّدهم إلى بيوتهم بهدف تفتيت الصف، ونشر التخاذل بين المجاهدين، يقول تعالى: }قد يعلمُ اللهُ المُعَوِّقينَ منكم والقائلين لإخوانِهِمْ هَلُمَّ إلينا ولا يأْتون البأسَ إلا قليلاً{ الأحزاب: 18.
وأخذ المنافقون ينفثون مكنون نفوسهم، ويعملون على نشر الوهن والخذلان في صفوف المؤمنين، ويُكذِّبون وعد الله ورسوله بالفتح، يقول تعالى: }وإذْ قالت طائفةٌ منهم يا أهل يَثرب لا مقامَ لكمُ فارجعوا{ الأحزاب: 13، وأخذوا يتندّرون بأحاديث الفتح ويَسخرون منها، وقالوا عن رسول الله r: يُخبركم أنه يُبْصِر قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنتم تحفرون الخندق لا تستطيعون أن تبرزوا. قال تعالى: }وإذْ يقولُ المنافقون والذين في قلوبهم مرضٌ ما وَعَدنَا الله ورسولُه إلا غروراً{ الأحزاب: 12.
وكانوا يحرّضون أهل المدينة على ترك الصفوف والعودة إلى بيوتهم، ويتعذّرون بأن بيوتهم عورة، وقد فضحهم الله تعالى في قوله: }ويستأذن فريقٌ منهمُ النبيّ يقولون إن بيوتنا عورةٌ وما هي بعورةٍ إن يريدون إلا فراراً{ الأحزاب: 13.
ومع كلّ هذا لم يستطع المنافقون أن يفُتّوا في عضد المسلمين الصادقين فثبتوا عند الخندق حتى أرسل الله تعالى الريح على الأحزاب فانقلبوا خاسرين، وفرح المؤمنون بنصر الله.
المنافقون في غزوة بني المصطلق
بعد الفراغ من شأن بني المصطلق وردت واردة المسلمين على ماء المُرَيْسيع، فازدحم جهجاه بن مسعود الغفاري أجير عمر بن الخطاب، وسنان بن وَبْر الجُهَنيُّ حليف بني عوف بن الخزرج على الماء، فاقتتلا، فصرخ الجهني: يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين، فغضب عبد الله بن أبيّ بن سلول، وعنده رهط من قومه، فيهم زيد بن أرقم الأنصاري (وكان صغير السن) فقال عبد الله بن أبيّ: أوَقد فعلوها؟ قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما أعُدُّنا وجلابيب قريش إلا كما قال القائل: سمّن كلبك يأكلْك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجنَّ الأعزُّ منها الأذلّ.
فسمع ذلك زيد بن أرقم فمشى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر عليه السلام بالمسير، فلقيه أُسيد بن حضير، فقال: يا نبيَّ الله، والله لقد رُحْتَ في ساعة منكرة ما كنت تروح في مثلها، فأعلمه النبيّ صلى الله عليه وسلم بقول ابن أبيّ فقال أسيد: والله يا رسول الله أنتَ العزيز وهو ذليل فأنت يا رسول الله تخرجه إن شئت.
وقال عبد الله بن عبد الله بن أبيّ: يا رسول الله بلغني أنك تريد قتل أبي فيما بلغكَ عنه، فإن كنتَ لابدّ فاعلاً فمُرْني فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد عَلِمَتِ الخزرج ما كان لها من رجل أبرّ بوالد منّي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل نترفّق به ونُحْسن صحبتَه ما بقي معنا".
قال تعالى: }يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرِجنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ ولله العزّة ولرسوله وللمؤمنين ولكنّ المنافقين لا يعلمون{ المنافقون:8.
المنافقون في غزوة تبوك
إن من الطبيعي أن يتخلّف المنافقون عن غزوة تبوك لما فيها من شدة وعسرة، حتى سمّيت (غزوة العسرة)، وهكذا بدأ المنافقون يختلقون الأعذار الواهية والحُجج الواهنة، فهذا يعتذر من الافتتان بنساء بني الأصفر، وآخر يعتذر بشدّة الحرّ. قال تعالى: }ومنهم مَن يقول ائذَنْ لي ولا تفتنّي ألا في الفتنة سقطوا{ التوبة: 49. وقال تعالى: }وقالوا لا تنفروا في الحرّ. قل: نارُ جهنّم أشدّ حراً. لو كانوا يفقهون{ التوبة:81.
وتجاوز بعض المنافقين حد الاعتذار، بل أخذوا يبثّون الشائعات المثبّطة عن الجهاد، فكان عبد الله بن أبيّ يقول: يغزو محمد بني الأصفر مع جهد الحال، والبعد البعيد إلى ما لا طاقة له به، يحسب أن قتال بني الأصفر معه اللعب، والله لكأنّي أنظر إلى أصحابه مقرّنين في الحبال.
إلا أن بعض المنافقين خرجوا في الغزوة، ووجدوا أن تحمل المشقّة والتعرّض لخطر القتال أهون من انكشاف أمرهم. فقد خرجوا وبيّتوا النيّة على أن يغدروا بالنبي صلى الله عليه وسلم بأن يطرحوه من عقبةٍ في الطريق، فلما بلغ عليه السلام تلك العَقَبة أُخبِرَ خَبَرَهم، فبينما حذيفة بن اليمان يقود ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمار بن ياسر يسوقها، إذ أقبل رهط متلثمون على الرواحل حتى غَشَوْا عمّاراً، فأقبل يضرب وجوه الرواحل، وقد قدّر عمار عددهم بأربعة عشر رجلاً، فلمّا علم أسيد بن الحضير بمكيدة المنافقين قال: يا رسول الله مُرْ كلّ بطن أن يقتل الرجل الذي همّ بهذا فيكون الرجل من عشيرته هو الذي يقتله، وإن أحببت والذي بعثكَ بالحق فنبِّئني بهم فلا تبرح حتى آتيك برؤوسهم... حتى متى نُداهِنُهم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "إني أكره أن يقول الناس: إن محمداً لما انقضت الحرب بينه وبينه المشركين وضع يده في قتل أصحابه".
وكان ممّا تفتّقت عنه أذهان بعض المنافقين أنهم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتّجه إلى تبوك، فقالوا: يا رسول الله إنّا بَنَيْنا مسجداً لذي العلّة والحاجة والليلة الممطرة.. وإنا نحبّ أن تأتينا فتصلي لنا فيه! فقال: إني على جَناح سفر، وحال شُغل.. ولو قدمنا إن شاء الله لأتيناكم.. فلما شارف على دخول المدينة عائداً من الغزوة نزل الوحي يخبره صلى الله عليه وسلم أنّ الذين بَنَوا هذا المسجد إنما أرادوه مكاناً للتآمر واستقبال الجواسيس، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم اثنين من أصحابه فسارعا إلى ذلك المسجد وحرّقاه وهدّماه. وهو الذي سُمّي مسجد الضّرار.
واستمرت معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم للمنافقين متّصفة بالتسامح، ولم يشهّر بهم ولم يعاقبهم وترك أمرهم لله تعالى.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين