في المولد النبوي الكريم

الأستاذ عبد الفتاح القاضي

إن مقياس نهوض الأمة ودليل رقيها، هو معرفة قدر عظمائها، والإشادة بذكر أبطالها، تقديساً لهؤلاء العظماء، وفخراً ببطولة هؤلاء الأمجاد، الذين خلَّد لهم التاريخ في صحائف العظمة أعمالاً جليلة مبرورة، فكانت حياتهم مثلاً أعلى لأممهم، تطلب منهم التأسي بهم. وتتبع آثارهم، وليس في العالم أمة أعظم ثروة في ميدان العظمة وساحة البطولة من الأمة الإسلامية.
ومَن أعظم من محمد وهو المؤسس الأعظم لهذه الأمة الكريمة؟ أجل: لا أحد أجلّ قدراً، ولا أعظم أثراً، في العالم شرقه وغربه، أرضه وسمائه، من محمد صلى الله عليه وسلم ابن عبد الله.
لقد أكرمه الله تعالى ـ وهو في عالم الغيب ـ فصان أرومته من رجس الجاهلية، وطهر عنصره من دنس السفاح، ونظمه في سلك من النسب كسلسلة من الذهب، لا تجد فيه إلا لؤلؤة يتيمة، أو جوهرة كريمة.
وما زال صلى الله عليه وسلم تتهاداه الأصلاب المباركة، والأرحام النقية الطاهرة، فينتقل فيها تنقل البدر في منازل السعود حتى أفضى إلى أنجب بني عبد المطلب وزهراء بني زهرة، فياطيب الآباء، ويا كرم الأمهات!
وقد تخيَّر الله تعالى لإبراز هذه الجوهرة الكريمة وإشراق هذا الضياء على الأرض، شهر ربيع الأول، فولد صلى في اليوم الثاني عشر مع الفجر منه إيذاناً بانقضاء ليل الشرك والجهالة، وبزوغ فجر العلم والهداية، فأشرقت الأرض بنور ربها، وطلع محمد صلى الله عليه وسلم على هذا الوجود مشرقَ الوجه، أغرَّ الجبين، مليحَ الطلعة جميلَ المحيى.
وما زال صلى الله عليه وسلم ينمو ويترعرع، محفوفاً بعناية ربه، ومحفوظاً من دنس الجاهلية ورجس الوثنية، حتى شبَّ مطهَّراً مما كان يقع فيه شباب هذا العصر، معروفاً بمكارم الأخلاق، حتى سمّوه الصادق الأمين.
ولما أراد الله تعالى إنقاذ العالم مما هو فيه من أسباب الدمار والهلاك، أرسله الله تعالى رحمة للعالمين، فاستجاب لنداء ربه، وصدع بأمره غير هياب ولا وجل.
وهنا يتجلى أروع صراع سجله التاريخ بين الحق والباطل، والنور والظلام، فقد كان العالم قبيل بعثته صلى الله عليه وسلم مصاباً بالفوضى في جميع شؤونه وأحواله ، فوضى في عقائده وأخلاقه، فوضى في آدابه وعاداته، فلم يكن للأسرة نظام، ولا للقبيلة قانون، ولا للأمة دستور، ولا للعقيدة شريعة. إنما هي أحجار ينحتونها بأيديهم ثم يعبدونها، وأشجار تأكلها النار أمامهم ثم يؤلهونها، ونيران يوقدونها بأيديهم ثم تخمد وتصير تراباً يدسونه بأقدامهم ثم هم أنفسهم يمجدونها، وكواكب يصيبها الكسوف والأفول، ثم يقدسونها، ومنهم من كان يعبد الملائكة أو الجن أو بعض المخلوقين...
أما أهل الكتاب فلم يكونوا أحسن حالاً من العرب إذ ذاك، فإنهم قد ضلوا وأضلوا وخرجوا عن أصل التوحيد، واعتقدوا التعدد في الإله، وغفلوا عن واجب التنزيه لله وشبهوا به بعض خلقه، فقالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى، المسيح ابن الله، ثم تطاعن الطائفتان وتلاعنوا، فقالت اليهود: ليست النصارى على شيء، وقالت النصارى: ليست اليهود على شيء، وهم يتلون الكتاب.
ولكن كتاب الله صار ألعوبة في أيديهم، يخفون منه كثيراً، ويزيدون عليه كثيراً، ويحرفون فيه كثيراً، يطلبون بذلك عرض هذه الحياة الدنيا، ويرجون من وراء هذا التغيير والتبديل حاجة في أنفسهم من رياسة أو شهرة، أو مال أو حظوة، [فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ] {البقرة:79}.
فالعالم ضلال في عقيدته، لا فرق بين أمة وأمة، ولا بين طائفة وطائفة، إلا من عصم ربك، وقليل ما هم...
أما الأخلاق فلم تكن يومئذ إلا ملكات مهلكة تملأ الدنيا شراً وفتنة، فكبر وضعة، واستبداد وخنوع، وأثرة وذلة، وحقد واحتقار. أخلاق متناقضة متباينة، لكنها كانت فيما بينهم موزعة. فحكام يستعبدون الشعوب، وعلماء يستبدون بالجهال، وطبقات أشراف يسخِّرون العامة ويسخَرون منهم. ورؤساء أديان يحتكرون وحي الله وشرعه، ويمنعون العامة أن يتفهموه، ولا يظهرونه لهم إلا بعد أن يغيروه ويحرفوه.
أما المرأة فما كان أسوأ موقفهم منها، وما كان أشقاها بهم، لم يكن لها عندهم أدنى احترام، ولا أقل كرامة، بل كانت عندهم كالسلعة تباع وتشترى.
وتوهب وتورث، وأكرهوا فتياتهم على البغاء يتجرن في أعراضهن ويأتين لهم بالمال وهن يردن العفاف، بل أمعنوا في ظلم هذا الجنس فاعتبروه مجرداً من خصائص الإنسانية، ووصلت الوحشية ببعض الناس إلى حد أنهم كانوا يدفنون بناتهم وفلذات أكبادهم، على قيد الحياة خوفاً في زعمهم من الفقر أو العار.
تلك صورة مصغرة من حياة الجاهلية الجهلاء التي تركت الدنيا قبل نبي الإسلام ظلاماً، وملأت العالم كله شراً وفتنة، لا تفرق بين عرب وعجم، ولا بين شرق وغرب، وإن اختلفت المظاهر وتفاوتت المناكر، ولكن الله تعالى أرحم بعباده من أن يتركهم فريسة لهذه الاضطرابات والفتن. وضحية لتلك العوادي والمحن، فبينما الكون كذلك في ظلماته الحالكة، ومظالمه المهلكة، إذا بالنور المحمدي لاح في العالمين فلاحه، وتنفس بعد طول الليل في الخافقين صباحه، ونادى منادي السلام والحرية أن قد آن أوان المبعوث برحمة الإنسانية، يملأ العالم عدلاً وفضلاً، ويكسو الكون خلقاً ونبلاً، ويأسو جراح الإنسانية المعذبة برحمته، ويعالج أمراض النفوس السقيمة بحكمته، ويطبب قلوب الناس بتعليمه وتهذيبه، ويداوي شذوذهم بسياسته وتأديبه، ويجاهد ويجالد حتى تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الكفر هي السفلى، فكان مبعثه الفصل بين ماض زاخر بالمآثم، وآت حافل بالعظائم.
أطلق العقول من عقالها، وبعث الحرية من قبرها، ورفع النفوس البشرية إلى سماء العزة والكرامة، وقضى على الوثنية القضاء المبرم، ووضع للناس مبادئ التوحيد والعبادة، ثم وصل بين القلوب بالمؤاخاة وعدل بين الحقوق بالمساواة.
ودخل بين الناس بالمحبة، حتى شعر الضعيف أن جند الله قوته، وأحس الفقير أن بيت المال ثروته، وعرف الوحيد أن المؤمنين جميعاً إخوته، ثم محا الفروق بين أجناس الإنسان، وأزال الحدود بين مختلف الأوطان.
فأصبحوا غداة غد يدينون بعقيدة واحدة، وملة واحدة، يخضعون لإله واحد، ويتجهون لقبلة واحدة. فتحولت الأمة العربية في أقل من ربع قرن من ذل إلى عز، ومن ضعف إلى قوة، ومن عبودية مرذولة إلى حرية معقولة، ومن وثنية بغيضة إلى توحيد خالص، ومن انحلال وتخاذل إلى تعاون وتناصر.
فإذا كان المسلمون جميعاً في مشارق الأرض ومغاربها يحتفلون بذكرى مولد هذا النبي الكريم، فإنما يحتفلون بذكرى مولد كرائم الأخلاق ونبائل الخلال، من إباء وشمم، ووفاء وكرم، وقوة إيمان وإرادة، يحتفلون بذكرى العدالة، والمساواة، ذكرى الصدق والأمانة، والعفة والشجاعة، يحتفلون بذكرى البطولة الخالدة، والعظمة الباقية على مر الدهور والأعوام.
ونحن أحق من يحتفل بهذه الليلة العظيمة، إذ كانت منة الله علينا ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم أوفر، ونعمته أتم، فقد أخرجنا من الظلمات إلى النور، وبه أورثنا الله القرآن الذي نقرؤه، وعلمنا الآيات والحكمة، ونسأل الله الذي منَّ علينا بحفظ كتابه أن يمنَّ بفهمه والعمل بما فيه، وأن يهدي الأمة إلى إقامة حدود وإتباع نوره.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر: مجلة كنوز الفرقان

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين