ما بين حرية التعبير وحدود الله

 فضيلة الشيخ قيس المبارك*

    جعل الله الحرية وصفا لجميع البشر الأسود منهم والأبيض، الذكر منهم والأنثى، قال تعالى (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) أي بيَّنا له وعرَّفناه طريق الخير وطريق الشر، وتركنا له الحرِّيَّة التامَّة في الاختيار، قال القرطبي: (وهو كما تقول: قد نصحت لك، إن شئت فاقبل، وإن شئت فاترك) فمن ترك الحق فلا يلومنَّ إلا نفسه وقال سبحانه فيمن سلك بإرادته الطوعية سبيل الفسوق بعدما أُمِرَ بالطاعة: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا).
فأعلنت حقوق الإنسان في ذلك آيات كثيرة في كتاب الله تعالى كقوله سبحانه: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا) وقوله: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) فلا يُكره على الدخول في الإسلام، فدخوله يكون بحالٍ لا تشوبه شائبة إكراه وقسر، ليكون الحساب على اختياره الطوعي.
فكانت الحرية محلا لظهور فضائل الأعمال في الإنسان، كالصدق والحلم والسخاء، وهي داعية إلى عموم مكارم الأخلاق وطيب الشيم، والبُعدِ عن كلِّ معيب، كما قال مُخَيْسُ بن أرطاةَ التميمي:
فقلتُ له تجنَّبْ كلَّ شيءٍ يُعابُ عليكَ إنَّ الحرَّ حُرُّ
أي أن الْحُرَّ باقٍ على ما عُهِد في الأحرار من عُلُوِّ الهمَّة وزكاة الأخلاق واجتناب مواطن الرِّيَبْ، وترك كلِّ ما يُعابُ به المرء، وعن كلِّ ما يُحْوِج إلى الاعتذار عنه.
بل إن الدِّين كلَّه قائم على حرية القول بالنصح والإرشاد ففي الحديث (الدِّيْنُ النَّصِيْحَةُ)، وهذا النصح يعني الدَّلالة على الخير والصواب مع تَرْك الاختيار للمنصوح، ولا يعني القسر ولا الإكراه.
ونقيض النُّصح الاستهزاء والسخرية، لأن قوامهما تضييق الحريات، بإشاعة المناكر والمفاسد والبغي والاعتداء على حدود الآخرين، كما في الحديث (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى أن تلقونه) فالاعتداء على الأنفس والأعراض والأموال من تضييق الخناق على الحريَّات.
فيُقيِّد الله تعالى الحرية إذا أفضت إلى ضرر عام أو خاص، أو أدَّت إلى تقييد حرية الآخرين، قال تعالى (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ).
وإذا كان الأصل في النفس البشرية هو الاستقامة، حين جبلها الله تعالى على السلامة من الأذى للآخرين، ومن الاعتداء والإفساد في الأرض، كما جاء في التنزيل (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) فإن ما تُقْدِمُ عليه النفوس من هذه الأعمال المذمومة، والأخلاق المشينة، التي تتنافى مع الحرية، إن كان مما لا يطَّلع عليه أحد غيره، فإنه ينزجر عنه بزاجر نفساني، كما قال أبو نواس:
لن ترجع الأنفس عن غيها مالم يكن منها لها زاجر
وأعظم هذه الزواجر الوازع الديني، إذا غُرِسَ في النفوس وهذَّبها غاية التهذيب.
وأما ما يُطَّلع عليه مِن الأخلاق المذمومة، فالناس فيه قسمان:
القسم الأول: أصحاب الهيئات والمروءات، وهؤلاء يَستحْيي أحدُهم من اطِّلاع الناس عليه، فالحياء زاجر يمنعه من الوقوع في الأعمال المشينة، وقد قال حبيبنا صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناسُ من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)
غير أن مِن هؤلاء مَن يرى الأشياء على حقيقتها، ظاهرةً جليَّة في قُبْحِها وسوئها، فيتركها ترفُّعاً عنها وحفظا لمروءته، وقد قيل للأحنف بن قيس: بم بلغْت ما بلغْت؟ فقال: لو عابَ الناسُ الماءَ ما شَرِبْتُه.
ومنهم من يراها وقد تدثَّرت برداءٍ سَتَرَ عوارَها وأخفى عيوبها، فلا يرى ما في هذه الأعمال من سوءٍ وقُبْح، وهذا شأن كثير من العرب حين يستحسنون سَلْبَ أموال الناس وإتلاف الأنفس، ويرونها من موجبات الشجاعة والبطولة،كما قال لبيد بن ربيعة :
وَمُقَسِّمٌ يُعْطِي العَشيرةَ حَقَّها، وَمُغَذْمِرٌ لِحُقُوقِها، هَضَّامُهَا
فافتخر بوصف (المُغَذْمِر) وهو الذي يأخذ حقوق الناس ويسلبهم أموالَهم، فيعطي هذا ما يأخذه من هذا.
وربَّما رأى بعضُهم في السُّكْر ما يُحرِّك في النفس دواعي السماحة ومكارم الأخلاق، فتدفعهم إلى أن يجودوا بالنَّجائب من الإبل والخيل كما قال عنترة :
فإذا انتشيت فإنني مُسْتهلِكٌ مالي، وعرضي: وَافِرٌ لَمْ يُكْلَمِ
القسم الآخر: أصحاب الموبقات المجاهرون، وهم الذين لسوء أخلاقهم لا يَتنزَّهون عن فعلِ كلِّ عملٍ مَشِين، ولا يأبهون لأحد، ويظنُّون أنهم بهذه المجاهرة يحصِّلون الظهور والشهرة.
وهذا القسم ليس له من نفسه زاجر، بل يجب أن يُزجر بالتخويف وإنزال العقاب، وهذا حال من ينتقص الآخرين، فبالعقاب يعلمون أنّ ازدراء الناس واحتقارهم والطعن فيهم ليس من الشجاعة في شيء، وأنّ أعراض الناس ليست كلأً مباحاً، فالاستهزاءُ والسخرية ناشئ عن اعتقاد المستهزِئ أنه عاجز عن إدراك مقام المستهزَأ به، فيمتلئ حقدا عليه، ثم يتمنَّى زوال هذه المرتبة العالية عنه، وهذا هو الحسد في أجلى صُوَرِه.
فالانتقاص والسب لدين الله تعالى أو لنبي من الأنبياء إذا صدرا من مسلم فهو دليل ردَّة عن الإسلام، والمرتدُّ يُقتل كما في الحديث الشريف (من بدَّل دينه فاقتلوه) فلم يُجبَر المرتدُّ على الدخول في الإسلام ابتداءً، بل دخل بإرادته واختياره طواعيةً منه، فلا معنى لردَّته إلا التخذيل، وأما مَن ولد في الإسلام من أبوين مسلمين، فقد عرف الإسلام وذاق حلاوته ورأى صفاءه ونقاء عقيدته، فرفْضُه لهذا الدين رفضٌ للحقائق التي تجلَّت له، فهل يُصدَّق مسلمٌ رأى نضارة هذا الدين، حين يزعم بأنه رأى في اليهودية أو النصرانية دينا قويماً! وأن فيهما نظاماً وتشريعاً يَحسن الأخذ به! فضلاً عن الهندوسية أو البوذية، هذا الزعم لا يصدر إلا من أحد رجلين، من فاقد عقل والتمييز بين الأشياء، أو من مكابر، ثم إن في الردَّة تمرُّدا على نظام الأمَّة، فما أيسر على المسلم أن يقع في الموبقات، من الزنا والخمر وغيرها، ويحمي نفسه بدعوى أنه ارتد، فيُشيع الفاحشة في أهله وأقاربه وجيرانه من المسلمين، فهذا يُجبر على التزام نظام الأمَّة، فيُستتاب فإن تاب وإلا قُتل .
وأما السب لنبي من الأنبياء عليهم السلام، فإنه إنْ تاب فأمْرُه إلى الله، ورحمة الله واسعة (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) لكن اختلف الفقهاء في قبول توبته في الدنيا، أي في سقوط عقوبة القتل عنه، فجمهور العلماء يرون أنَّ حدَّ قاذف الرسول صلى الله عليه وسلم أنْ يُقتل وإن تاب، ذلك أنه تعدَّى على حق الله وحق النبي وحق المسلمين بالإساءة لنبيهم، والتنازلُ يكون من صاحب الحق، فليس لأحد من المسلمين التنازل عن حق النبي، ولا عن حق جميع المسلمين، وفي ذلك زجرٌ لغيره عن الاجتراء على الأنبياء عليهم السلام، وذهب الشافعية وغيرهم إلى قبول توبته، وأنه لا يُقتل إذا تاب، لعموم آيات المغفرة كقوله تعالى (قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ) ولحديث (إن الإسلام يَجُبُّ ما كان قبله) فقالوا بأن حدَّ القتل مغمور في الكفر، فإذا تاب مِن كُفْره وأسلم سقط الحدُّ بدخوله في الإسلام، وقد بسط التقي السبكي القول في ذلك، ودلَّل عليه بما لا مزيد عليه .
ويُخيَّر الإمام فيه، فقد يرى المصلحة في قتله، زجراً لأمثاله، وقد يرى المصلحة في الأخذ بمذهب الإمام الشافعي، فيُؤدِّبه ولا يقتله من باب درء الفتنة والتأليف، فقد عقد البخاري رحمه الله في صحيحه باباً سمَّاه: ( باب مَن تَرَك قتال الخوارج للتأليف، ولئلا يَنْفِر الناس عنه) قال ابن بطال: (فلا يجب التألُّف إلا أن ينزل بالناس ضرورة يحتاج فيه إلى التألُّف)
هذا ما يتعلُّق بمن ألحَدَ أو سبَّ أو استهزأ، غير أن الأمر الذي يجب التنبُّه له، والذي يجب أن يكون محور اهتمامنا، وهو الذي يُرضي رسولَنا صلوات الله وسلامه عليه، هو الوقوف على أسباب وقوع التشكيك، ولماذا ظهر الإلحاد في أولادنا، ثم السعي إلى بناء العقيدة في العقول والقلوب بناءً محكماً، وإلى بثِّ معانيها في النفوس، بحيث تنعكس على حياة المسلم فتكوِّن سلوكاً عملياً، ثمَّ نحوطها بسياج منيع بإثباتها بالحجج البينات والبراهين الواضحات، فما أعظم أن تكون غيرتُنا على حبيبنا بالاقتداء به والسير على هديه الكريم وأخلاقه العالية، فيكون مقصودُنا هداية الخلق، وإبراز حقائق هذا الدين، فلنتَّخذ من مثل هذه الحوادث والوقائع التي تسيء إلى نبيِّنا عليه الصلاة والسلام، أو إلى ديننا وشعائره العظيمة، سبيلاً لدعوة الخلق إلى الله، فالمؤمن أبعد الناس من التشفِّي من الفجَّار.
* عضو هيئة كبار العلماء

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين