خالد بن الوليد بطولة فذة وقيادة ملهمة - سيف الله المسلول
خالد بن الوليد
بطولة فذة وقيادة ملهمة
للدكتور محمد علي الهاشمي
 
قمم شوامخ من البطولات:
في تاريخ العرب قمم شوامخ من البطولات بلغها أسلافنا بشجاعتهم الفذة وبسالتهم النادرة وتدبيرهم الحازم الحكيم.
 وبطلنا خالد بن الوليد أحد هذه القمم الشوامخ، بل هو أضخمها وأعلاها، لما آتاه الله من شجاعة، ونشاط، وجلد، ويقظة، وحضور بديهة، وسرعة ملاحظة، وقوة تأثير.
طرف من بطولته العظيمة وقيادته المظفرة:
ولست أبغي في هذه السطور أن أكتب سيرة كاملة لهذا البطل الكبير، وإنما غرضي أن أكشف بإيجاز عن بعض الجوانب في هذه البطولة العظيمة، وأعرض طرفاً من السمات في هذه القيادة المظفرة الحكيمة التي عرف بها خالد، وتبوأ بها مكان الصدارة في تاريخنا العسكري وبطولاتنا الخالدة.
نشأته في بني مخزوم
عرف خالد البطولة وعرفتْه منذ صباه، فلقد نشأ في أعرق بيوتات بني مخزوم. وبنو مخزوم من أكبر بطون قريش. كان لهم في الجاهلية أمر القبة والأعنة.
 أما القبة فهي خيمة عظيمة يضربونها ليجمعوا فيها عدة القتال. وأما الأعنّة فهي الخيل وفرسانها.
قائد فرسان قريش في معركة أحد:
وكان طبيعياً أن تبدو ملامح الفروسية على الشاب الناشئ في هذه البيئة المكافحة المجاهدة فيرشحه أبوه لقيادة الخيل، لنراه على قيادة فرسان قريش في وقعة أحد.
ولا ريب أن ولاية خالد –في هذه السن المبكرة- القيادة الموكولة إلى قبيلته بين بطون قريش جميعاً هي آية استعداده للرئاسة والقيادة منذ صباه.
ولا غرو، فقد غشي خالد البادية وإنه لشاب يافع، وراضَ نفسه على الخشونة فيها ليتعود الصبر على مضانك الحرب، وشدائد الجوع والظمأ، ووعورة الطرق، ولفحات الرمضاء. فكان له من ذلك كله قوة وضخامة في الجسم، ودراية وخبرة بفنون الصراع والكفاح.
ومن هنا استطاع أن يقلب هزيمة قومه في أحد إلى نصر. فلقد تجلى في ذلك اليوم ما يتمتع به خالد من يقظة وثبات، فلم تذهله الهزيمة المطبقة بقومه، بل اهتبل الغِرَّة التي بدرت من الرماة المسلمين حين خالفوا وصيَّة النبي عليه السلام، وتركوا أماكنهم سعياً وراء الغنيمة، فكرّ عليهم من الوراء بما بقي معه من خيل، فأخذهم أخذة قاضية وإنهم لفي سدرتهم يغنمون، فشتت منهم الصفوف، وزلزل بهم الأقدام، فاستدارت رحاهم وهزموا دهشين مروعين.
في وقعة الأحزاب:
واشترك خالد في جاهليته في وقعة أخرى هي وقعة الأحزاب أو الخندق، فكانت هي أيضاً من أهول الغزوات على المسلمين، وأوشكت أن تحيق بهم دوائرها لولا يقظة علي بن أبي طالب ووقيعة بعض الدهاة بين أحزاب قريش وهبوب الريح التي عصفت ببيوتهم وقدورهم وزادتهم يأساً من اقتحام الخندق على المسلمين.
في هذه الوقعة طوَّف خالد بخيله حول الخندق يلتمس مضيقاً يقحم من الخيل فأعياه،  وكان هو الموكل بالنبي عليه السلام في كتيبة غليظة من خيل قريش والأحزاب، فاندفع يقاتل سحابة النهار وهزيعاً من الليل إلى أن تحاجز الفريقان وعادا إلى مواقعهما، فارتد خالد بعد هنيهة يطلب الغِرَّة وإنه بالفوز لطامع، وكاد أن يظفر لولا يقظة حرس المسلمين.
وانقطع القتال وهو لا يزال على الطلب والطواف، وكان آخر من ترك الحومة بعد يأس الأحزاب من عبور الخندق ودخول المدينة، فلبث هو وعمرو بن العاص ردءاً للجيش كله مخافة أن يتعقبه المسلمون.
لَددَ خالد للإسلام :
وظل خالد على لدده للإسلام ومعاندة نبيه سنوات. كانت خصومته فيها للإسلام ونبيه خصومة شريفة نبيلة، هي أقرب إلى المبارزة والمناجزة منها إلى المقت والضغينة، فهي تأبى عليه أن يغدر بالنبي يوم الحديبية وهو يصلي بأصحابه صلاة الخوف، وإنه لقادر على الإغارة عليه لولا نخوة من الفروسية أبت عليه العدوان على المسالمين.
ولمَّا صالح النبي [صلى الله عليه وسلم] قريشاً، ودخل وأصحابُه مكة معتمرين، كره خالد أن يشهد دخول المسلمين دون أن يخلى بينه وبين حربهم، فتغيَّب من جوار البيت ريثما يعتمر المسلمون ويرجعون من حيث أتوا.
إعلان خالد الإسلام:
ولكن الدعوة الإسلامية التي وقف في وجهها فترة من زمان سرعان ما ملكت عليه شعوره، ولامست كوامن الإيمان في نفسه، فإذا هو يمشي إلى النبي عليه السلام، يعلن إسلامه، وإذا به اليوم يرمي مع المسلمين عن قوس واحدة مَن كانوا أنصاره بالأمس.
سيف الله:
وتنظر عينُ الرسول الخبيرة بالنفوس والطاقات النفَّاذة، إلى أغوار الطبائع والمواهب، تنظر إلى خالد فترى فيه العبقرية العسكرية النادرة، والقيادة الحكيمة الملهمة، والشجاعة العنيدة الجسور، فتلقبه بسيف الله قبل أن يشرع هذا السيف ليدحر المرتدين ، وقبل أن يصون للإسلام جزيرة العرب ويضم إليها العراق والشام... وهي الأعمال الجسام التي من أجلها يُدعى اليوم سيف الإسلام.
وإنما هي النظرة النافذة، والبصر العلوي الخبير السابر، الذي يلمح القدرة في معدنها حيث لا يراها الآخرون.
غزوة مؤتة أول معركة مع الدولة الرومانية الكبرى:
وتبدأ أعمال خالد التي اشترك فيها متطوعاً بعد إسلامه بشهرين أو ثلاثة أشهر بغزوة مؤتة التي التقى فيها المسلمون وعددهم ثلاثة آلاف بطل يصاولون في ميدان مكشوف فيالق الروم التي تربو عليهم سبعين ضعفاً.
في هذه الغزوة قاتل زيد بن حارثة رافعاً راية رسول الله [صلى الله عليه وسلم] حتى شاط في رماح القوم. وتلقَّف الراية جعفر بن أبي طالب، وأقبل على الروم يجالدهم بعنف وصبر شديدين، فأنْحَوْا عليه بالضرب الدراك حتى قطعت يمينه، فأخذ الراية بشماله، فقطعت، فاحتضن الراية بعضديه، ولبث ينافح عنها حتى قتل.
وتقدم ابن رواحة إلى حمل الراية في الساحة المضطرمة وهو يهدر بالشعر، وطفق يصول بين الصفوف حتى قتل، وإن المعركة لفي أشدها.
قيادة جديدة تنقذ الموقف:
في هذه اللحظة الرهيبة المزلزلة، تطلَّعت العيون إلى قيادة جديدة تنقذ الموقف وتحفظ للمسلمين هيبتهم، وتنقذ سمعتهم في أول معركة لهم مع الدولة الرومانية الكبرى.
وما هي إلا لحظة حتى اهتدى المسلمون بوحي البديهة ونور العقيدة وهداية الفداء إلى القائد المنقذ، وإذا بثابت بن أقرم يأخذ الراية ويصيح: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم. قالوا: أنت، قال: لا، ما أنا بفاعل. واتفقت الكلمة على خالد بن الوليد، فإذا هو يصنع لساعته خير ما يصنع في ذلك الحين، وهو الارتداد المأمون.
الارتداد المأمون:
والارتداد المأمون أصعب من النصر في هذا المأزق الرهيب، خصوصاً وخالد لا يريد إشعار الروم بالانسحاب. بل كان يريد أن يوقع في روع عدوه أنه ينوي الهجوم أو يقصد إلى الحيلة.
صمد خالد

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين