عندما يجاوز الظالمون المدى!

المنشاوي الورداني

يبدو أنَّ الأنظمة الظَّالِمة تُكرِّر نفسَها، وتَسْتنسخ مَنهجَها في تكميم الأفواه بالقَمْع والتنكيل.
هل تَذْكرون مدينة "حماة" منذ ثلاثين عامًا، عندما شَهِدَت مجزرةً بشريَّة، ليست على أيدي قُوَّات الاحتلال، بل بأيدي جَلاَّدين عرَب؟
فهُناك، وفي حماة، كانت المأساة، مأساةُ مدينة استيقظ أهلُها في الثاني من شباط عام 1982 على أصوات المَدافع والقنابل، وأزيز الدبَّابات والمدرَّعات، عندما اجتاحها الجيشُ النِّظاميُّ السُّوري آنذاك بقيادة "رفعت الأسد"، شقيق الأسد الأب، حينما كان رئيسًا للبلاد.
 أكثر من أربعين ألفَ قتيل، فضلاً عن تَهْجير عشرات الآلاف من سُكَّان المدينة؛ هرَبًا مِمَّا حلَّ بالمدينة، حسب تقرير اللَّجنة السُّورية لِحُقوق الإنسان، وتقارير عالميَّة أخرى.
سبعة وعشرون يومًا نزفَتْ فيها الدِّماء، وما زالت تَنْزف إلى اليوم، وأُبِيدت فيها عائلاتٌ بِأَسْرها؛ لِتَعكس تلك الاضطِراباتُ تحوُّلاً واضحًا في السِّياسة التي اتَّبعها النِّظام السوريُّ في حينه، تَمثَّل في الاستعانة بالجيش والقوَّات المسلَّحة على نطاقٍ واسع؛ لإخماد العنف السياسيِّ الذي اندلعَ بين عامَيْ 1979م و1982م، والزَّج بالمدنيِّين في مُعترَك الصِّراع مع المعارضة، وقد كان هؤلاء المدنيُّون هم الضحيَّةَ الأبرز في هذه المَجْزرة المروِّعة، حتَّى إنَّ سوريا بعد تلك الوحشيَّة التي استخدمَها النِّظام لَم تَشْهد أيَّ احتجاجات شعبيَّة على السِّياسات التي ينتَهِجها النِّظام إلى عام 2011م، عندما اندلعَت الاحتجاجات السُّورية.
إنَّها أكبَرُ مجزَرة في العصر الحديث؛ كما وصفَتْها وسائل الإعلام العالميَّة، حسب تقرير منظَّمة العفو الدوليَّة؛ فقد قُمع الشَّعب بقساوةٍ نادرة في التَّاريخ، ولقد غزا "حافظ ورفعت الأسد" مدينةَ حماة بِمثل ما استعاد به السوفييت والأمريكان برلين، هذا ما ذكرَتْه صحيفة النوفيل أوبزرفاتور الفرنسيَّة في ذلك الوقت.
وفي سوريا الإرهابِيُّ رقم واحد هو الدَّولة، هذا ما وصفَتْه صحيفة لوماتان الفرنسيَّة أيضًا في الوقت نفسه.
فقد انْهالت الصُّحف آنذاك تتحدَّث عن هذه المأساة، وتَصِفُها وتَصِف من قام بها بأبشَعِ وصفٍ حتَّى وصل الأمر إلى أن تُسمَّى مَجْزرة القرن في وقتٍ لَم يكن مشهد هذه المَجْزرة أمام أنظار الجميع، فلم تكن التِّكنولوجيا الإعلاميَّة قد دخلَت الإعلامَ بَعْد.
لله دَرُّكِ يا حَماة! وأنت تَحْملين الجرح إلى الآن، فما سَلِمَ مِن مأساتك أخضَر ولا يابس، وتحوَّلَت سماؤُكِ الصَّافية إلى سحُب سودٍ مُحمَّلة بِدُخان الحرائق التي الْتهمَتْ كلَّ شيء، وامتلأَتْ طُرقاتُك بالحجارة والحديد، ولله دَرُّ مآذنك التي لَم تَسْلَم مِن الهدم، فبكَتْ نحوُ تسعين مئذنةً هدَمَت ما يقوم به الظَّالِمون الذين تجاوَزُوا المدى.
مَشاهد وأحداث تتكرَّر كلَّ حين، وكأنَّ التاريخ يُعِيد نفسه، يُعِيد المأساة، ويَنْكأ الجِراح، جِراح لَم يَحِنْ وقتُ اندِمالِها بَعْد.
فإذا غابَتْ عنك صُوَر مجزرة حَماة في ذلك الوقت، فلعلَّك تراها في صورتِها اليوم وهي تعيش المأساةَ نَفْسَها، ولكنَّها اليوم ليست بِمُفردها، بل تُشارِكُها أخَواتُها من المُدن؛ لِيتَّسِع الجرح، ويَعمَّ الأنينُ كلَّ أرجاء سوريا.
وإنْ كان مشهد اليوم أكبَر، لكنَّه يُعيد إلى الأذهانِ تلك المذبحةَ الشهيرة كما تقول صحيفةُ الإندبندنت البريطانيَّة، وهي تُقارن بين تلك المَجْزرة ومَجازر النِّظام اليوم في عموم سوريا، ومنها حماة.
ولكن يَبْدو أنَّ الأمر سيَخْتلف كما يقول أهل سوريا، فلن ينتَظِروا ثلاثين عامًا حتَّى يُغيِّروا مجرى التَّاريخ

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين