نساء الإسلام ـ 1 ـ - صور من جهاد نساء السلف
نساء الإسلام
-1-
للأستاذ سليمان الندوي
            إن الثقافة الغربية قد واجهت العالم بسيل غامر من أحاديث أبطالها رجالاً ونساءً، ونحن إذ نتحدث عن الفضيليات من نساء المسلمين قديماً وحديثاً، نجد أنفسنا في جو قد امتلأ بأسماء الغربيات، ففي مدارسنا الإسلامية تجري على ألسنة الأسانذة والطلاب أسماء فتيات كان لهن في الحروب والوقائع مواقف وجهود، كتبت لهم االرفعة والخلود، فيذكرون اسم «جان دارك»، أو يتحدثون عن بعض أولئك المتطوعات من إسبانيا في حرب نابليون.
 ولدينا في تاريخ الإسلام ذكريات حافلة بنجوم مشرقة من أولئك الخيرات المستبسلات اللواتي وقفن حياتهن لإعلاء كلمة الإسلام، ورفْع رايته، وناضلن إلى جانب الرجل في الحدود التي تسمح بها أنظمة الدين وتقاليد الآداب.
ونحن ذاكرون لك بعض هؤلاء المجاهدات من نساء الإسلام من العرب والترك والهند بقدر ما يتسع له المجال.
            إن تاريخ أمتنا الإسلامية مملوء بالعشرات، بل المئات من الوقائع الكبرى، ومن الأسماء المجيدة الخالدة التي تحيي في قلوبنا العزة والفخار، ولكن آذاننا –واحسرتاه- قد أصيبت بصمم عن هذا التاريخ، لأن أسماء أخرى قد تكدست بها أفكارنا وعقولنا، فأصبحنا لا نسمع طنيناً ولا دوياً ولا نصغي إلى صوت إلا إذا أقبل ذلك كله من ناحية الغرب.
            جرت عادة العرب قبل الإسلام، أن كان الأبطال من الرجال يتقدمون إلى المعارك ، ومن خلف صفوفهم النساء والأطفال. ولقد كان لأولئك المجاهدات يد عاملة في كسب المعركة، فهنَّ يواسين المرضى، ويسعفن الجرحى، ويتعهدن الخيول والأسلحة، ويراقبن الأسرى، ويحافظن على كل أمتعة الجيش، ويلقين الأراجيز والقصائد التي توقد نار الغيرة والحمية في قلوب الأبطال، ويذكرنهم بأسلافهم الماضين الذين عادوا من حروبهم منتصرين.
            لست في هذا القول متجنياً على التاريخ، مختلقاً تلك المفاخر والمناقب العليا التي مثلتها رسالة المرأة العربية، فإن كنتَ في ريب مما أقول، فإني أحيلك على عمرو بن كلثوم الشاعر صاحب المعلقة يسمعك بنفسه صدى هذه الحقيقة:
على آثارنا بيض حسان * نحاذر أن تقسم أو تهونا
أخذن على بعولتهن عهداً * إذا لاقوا كتائب معلمينا
لكي يسلبن أفراساً وبيضاً * وأسرى في الحبال مقرنينا
ظعائن من بني جشم بن بكر * خلطن بميسم حسباً ودينا
يفتن جيادنا ويقلن لستم * بعولتنا إذا لم تمنعونا
            وبقي هذا الأسلوب من الجهاد في الإسلام ، فكان للنساء نصيبهن من أعباء المسؤولية التي يقوم بها الرجل في الغزوات، ففي إحدى المواقع، كانت أم المؤمين عائشة الصديقة رضي الله عنها، تسقي الجرحى من جنود المسلمين بالقربة، ومع ذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكره أن يحمل الأزواجُ نساءَهم إلى الموقعة في غير حاجة.
 وقد سألت عائشةُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بمعناه: أن الرجال ينالون الأجر ويفوزون بالدرجات العالية عند الله لجهادهم في سبيل الله، فقال: «جهاد المرأة الحج».
            ويروي لنا أبو نُعيم صاحب «الحلية» أن جيش المسلمين لما توجه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة خيبر خرج من المدينة خلف الجيش ستُّ نساء، فلما علم بأمرهنَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم غضب لذلك، فقلن له: يا رسول الله، قد خرجنا ومعنا الدواء لنسعف الجرحى ونخرج من أجسامهم السهام ونعدّ للجيش الطعام، فأذن لهن صلى الله عليه وسلم.
 ولما انقضت غزوة خيبر وكتب فيها النصر والفلاح للمسلمين، جعل النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء النساء قسماً في الغنيمة وأسهمَ لهن فيها مع الغزاة من الرجال. (انتهى بالمعنى).
            ويروي لنا الطبري في  إحدى المواقع أن الرجال كانوا يخرجون قتلاهم إلى مكان خلف الصفوف، وكانوا يعمدون بالجرحى إلى النساء ليقوموا بتجهيز الشهداء.
في الأغواث والأرماث:
 وفي حرب الأغواث والأرماث من سلسلة حروب القادسية كانت النساء ومعهن الأطفال يقمن بالتجهيز وحفر المقابر للشهداء (راجع الجزء السادس صفحة 2317، طبع أروبا).
    وفي فتح القادسية أيضاً تقول بعض النساء اللاتي شهدن الحرب: لقد كنا نشمر عن سواعدنا ونمضي خلف الصفوف وإلى الأطرف وبأيدينا العصي، فمن وجدناه من الجرحى حملناه.      
            ويتبين مما رواه البخاري أن عمر بن الخطاب ـ وهو المعروف بشدته على النساء ـ لم يضن بفرض العطاء لأم سليط الصحابية، لأنها أبلت بلاء حسناً مع المسلمين في غزوة أحد، عندما تكاثر الرماة على المسلمين، وأحدقوا بهم، فكانت تضمد الجرحى، وتسقيهم الماء من قربة كانت معها.
            ومما سبق يتجلى ما كان للمرأة المسلمة من صدق اليقين، وكمال الغيرة على الدين، وحرصها أن لا تحرم من شرف الجهاد مع المسلمين لتنال فخر المجاهدين وأجر الصابرين، ويعلم مما سبق أيضاً أن المشروع من الجهاد كان ينحصر تقريباً في هذه الأمور:
1- سقي الجرحى وإطفاء ظمئهم في المعركة الحامية.
2- تنظيم الأطعمة للجنود.
3- حفر القبور للشهداء.
4- نقل المصابين من بين الصفوف، كيلا يحدث بقاؤهم على هذه الحالة إضعافاً للروح المعنوية أو إخلالاً بأنظمة الصفوف.
5- إمداد المصابين بوسائل الإسعاف الممكنة.
6- إمداد الجند وإثارة النخوة والغيرة، وبعث روح الهمة والاستبسال إذا دعت الضرورة إلى ذلك.
وإذا تتبعت سجل الجهاد في القرن الأول الهجري صحيفة صحيفة، وجدتَ أن المرأة المسلمة تؤدي فريضتها كاملة خلف صفوف الرجال، في حومة النضال، ولكن القارئ قد يستولي عليه العجب إذا علم أن ربات الحجال من الجنس اللطيف قد أُتيح لهنَّ أن يقاتلن أيضاً كما يقاتل الرجل في بعض الضرورات الحازبة فينتصرن كما ينتصر الرجال، وأتيح لليد الناعمة أن تضرب بشجاعة الإيمان رأس الكفر فترديه صريعاً.
    في غزوة الخندق تجمع أحزاب المشركين وغيرهم، وعسكرت قبائلهم قرب المدينة، وشغل النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون بأمر الخندق، ثم خان بنو قريظة في معاهدتهم، فأحدثوا بذلك ثغرة داخلية في قوة الإسلام إذ ذاك. وهنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً، وكان بنو قريظة يؤذون المسلمين من الخلف ويساعدون الأحزاب.
            ومن كان بالمدينة ، كان النساء بمعزل عن الجيش، ولم يكن لديهن من الجنود من يمنعهن غائلة اليهود من بني قريظة. وفي تلك الأثناء أقبل يهودي فاطلع على مكانهن، ورأته صفيةُ أم الزبير بن العوام وعمة رسول الله ، فطلبت  إلى حسان أن يقتل ذلك اليهودي خشية أن يُطلع بني قريظة على عورات المسلمين، ولكن حسان اعتذر وتخلف عن الإقدام، فتقدمت صفية رضي الله عنها وحملت عموداً من بعض الخيام، وضربت به رأس اليهودي فسقط على الثرى قتيلاً.
 وهنا يقول المؤرخ ابن الأثير الجرزي ما مؤداه: أن صفية هي التي ضربت المثل الرفيع في البطولة الأولى للمرأة المسلمة.
وفي «أسد الغابة» أن أم سليم والدة أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، شهدت المغازي كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
   لقد كان جهاد المرأة المسلمة في خدمة الإسلام واضحاً قوياً منذ فجر الدعوة. والتاريخ يحفظ لنا اسم تلك الصحابية الوفية أم عمارة، فقد اشتركت مع المسلمين في بيعة العقبة.
 ولما توجه رسول الله في السنة السادسة إلى الحج عام الحديبية وأرسل عثمان رضي الله عنه إلى مكة ثم شاع بعد ذلك نبأ قتل عثمان، أخذ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم البيعة من أصحابه على قتال المشركين، وكانت تسمى هذه بيعة الرضوان، وقد اشتركت فيها أم عمارة كما أنها شاركت زوجها زيد بن عاصم في غزوة أحد.
      وفي خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، ظهرت فتنة مسيلمة الكذاب، فوجه إليه جيشاً باليمامة، استشهد فيه كثيرون من المسلمين، وقُتل الكذاب اللعين. وفي تلك الواقعة كانت أم عمارة مع الجيش، وقد حاربت بنفسها حتى جرحت يدها، وأصيبت في هذه الموقعة اثني عشر إصابة.
    وفي عهد أمير المؤمنين عمر الفاروق، رضي الله عنه، كان لا بد للإسلام لكي يرفع علمه وثبت قدمه، من مواجهة أعظم قوتين تسيطران على ذلك العصر في الشرق، وهما الفرس والروم، وأعظم موقعة هدمت بنيان الدولة الرومانية إذ ذاك كانت موقعة اليرموك، كما أن القوة العظيمة التي لم يكن العرش الكياني في الدولة الفارسية يستطيع أن يعد أكثر منها، تتمثل في ذلك الجيش الكبير الذي ظهر عند فتح القادسية.
    هاتان المعركتان تتمثل فيهما البطولة العظمى والجهاد المجيد الذي مهد الطريق بعد ذلك لانتشار الإسلام بين ربوع الشرق والغرب فيما بعد ولا نستطيع أن ننسى أن نجاح الإسلام في هاتين الموقعتين كان يرجع الفضل في كثير من نواحيه إلى نساء الإسلام وكلماتهن النارية، فقد التقى المسلمون بالفرس عند القادسية سنة 14 هجرية في المحرم، وكان الجيش الفارسي في نحو مائة ألف أو يزيدون، ولم يكن جيش المسلمين يزيد على الثلاثين ألفاً، جرح كثيرون منهم، فكان النساء ومعهن الأطفال يقمن بحفر قبور الشهداء، ويرفعن الجرحى من الصفوف ليقدمن لهم ما يستطعن من العلاج والإسعاف.
    أما إيقاد الروح المعنوية وإمدادها بنار قدسية من الإيمان الصادق، فحدث عن ذلك، فما يستطيع تاريخ من العالم أن يحدثنا عن بلاغة نسوية كتلك الكلمات الخالدة التي تُروى لنا عن امرأة نخعية تقول لأولادها: «إنكم أسلمتم فلم تبدلوا، وهاجرتم فلم تثربوا، ولم تنب بكم البلاد، ولم تقحمكم السنة، ثم جئتم بأمكم عجوزاً كبيرة فوضعتموها بين أهل فارس، والله إنكم بنو رجل واحد كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم ولا فضحت خالكم، انطلقوا واشهدوا أول القتال وآخره.» (انظر: الطبري، جزء 6 ص2307).
      وقد مضى أولادها بعد وصيتها لهم وأقبلوا على الميدان شجعاناً مستبسلين، فلما اختفوا عن نظرها توجهت إلى الله داعية لهم بالسلامة والنصر. وبعد أن انتهت المعركة بفوز المسلمين عاد أولئك الأبناء سالمين مظفرين وألقوا بين يديها الغنائم والأسلاب.
      وليس في الناس من يجهل الخنساء التي كانت مضرب المثل في شعر الدموع والرثاء، رفع الإسلامُ نفسها، وأنار قلبها، ودفع بها الإيمان إلى حرب القادسية، اشتركت بأبنائها الأربعة، وقبل أن ينزلوا ساحة الوغى جمعتْهم وزودتهم بنار من الإيمان ونور من اليقين في تلك الكلمات الخالدة: «يا بني، إنكم أسلمتم وهاجرتم مختارين، واللهِ الذي لا إله غيره إنكم بنو رجل واحد كما إنكم بنو امرأة واحدة. ما خنتُ أباكم ولا فضحتُ خالكم ولاهجنت حسبكم ولا غيرت نسبكم، وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية، يقول الله عزوجل: (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون) [آل عمران:200]، فإذا أصبحتم غداً  إن شاء الله سالمين فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائكم مستنصرين. وإذا رأيتم الحرب شمرت عن ساقها واضطرمت، فتيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها عند احتدام خميسها، تظفروا بالغنم والكرامة، في دار الخلد والمقامة» (أسد الغابة).
   ولما كان الصباح، احتدم وطيس الحرب، فتقدم أبناؤها الأربعة، واشتدوا على عدوهم غير مبالين بالموت، حتى قضوا نحبهم جميعاً.ولما بلغ خبر استشهادهم إلى الخنساء لم تجزع بل قالت: الحمد لله الذي شرفني بهم. وقد فرض لها عمر رضي الله عنه من بيت المال ما كانت تحصل عليه من أبنائها، أيك ثمانمائة دينار.
    وبعد وقعة الجسر التي اشتد فيها ضغط الفرس على المسلمين، حدثت معركة عنيفة تسمى «حرب البويب»، وهي التي كانت مقدمة لحرب القادسية، وفيها فاز المسلمون بنصر مبين، ونالوا من الفرس غنائم وفيرة لا تحصى. وإذ ذاك كان نساء المسلمين قد ضربت لهم الخيام بعيداً عن الموقعة.
     ولما كان أمر تدبير الطعام والمؤونة قد وكل إليهن، فقد أرسل المثنى قائد الجيش ما وقع له من الغنائم الوفيرة إلى خيام النساء في حراسة بعض الجنود.
ولما رأى النساء سواد القافلة عن بعد خيِّل إليهن أن القادمين إنما هم فرقة من الأعداء جاءوا للإغارة عليهن، ولم يكن معهن في ذلك الوقت سلاح يدفعن به هجوم المغيرين، فلم يقفن عاجزات مستسلمات- بل ألقين بأطفالهن وفلذات أكبادهن وأقبلن على أعمدة الخيام وأوتادها يقتلعنها ليتخذن منها أسلحة يقمن بها في وجوه الأعداء. ولما رآهن كبير القافلة على هذه الحال صاح صيحة الإعجاب والتمجيد لبطولة جيش الإسلام، تلك البطولة التي غمرت الرجال والنساء والكبار والصغار، ثم بشرهن بنصر المسلمين وأدى إليهن الغنائم
مجلة حضارة الإسلام، المجلد الخامس 
 العدد الثاني ، 1964-1965.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين