عبد الستار الخائب

د. صلاح الدين سليم أرقه دان

 
(عبد الستار الخائب) جندي بسيط في جيش (الأمة الواحدة ذات الرسالة الخالدة)، فتح عينيه على الحياة في عهد السيد الرئيس الأب، وورثه السيد الرئيس الابن في جملة ما ورثه.
و(الخائب) ليست الكنية التي ورثها من أسرته، بل حصل عليه بجدارته الشخصية، ويكاد يكون الإنجاز الوحيد الذي حققه في حياته، فقد كان فاشلاً منذ نعومة أظافره، لم يسمع في بيته ولا في مدرسته؛ إن صح أن تسمى مدرسة؛ كلمة تشجيع، كانت جوارحه وإتقان أي عمل في خصام مستحكم، لم يتقن إمساك القلم ولا تمييز الأحرف فما قولكم بالكلمات وبالحركات!! وما قولكم بالحساب وعبد الستار لا يميز بين الألف والواحد والعصا!! طلب منه معلم الحساب يوماً أن يكتب الرقم (11)، فكتب (1) بعد جهد جهيد ثم تريث والمعلم وزملاء الصف بانتظاره، وطال انتظارهم، وسأله المعلم لم لا تتابع؟ قال: لأنني محتار.. أأكتب الواحد الآخر قبل الواحد الذي على اللوح أم بعده؟ قد تجدون كلامه فلسفة جديرة بالاهتمام، وهي كذلك، ولكنها فلسفة الخائبين.
كان (عبد الستار) مثار تندر رفاق الصف وارتقى ليصبح ألعوبة المدرسة كلها، وطار صيته إلى ضفتي الشارع الضيق الذي يجتازه يومياً من البيت إلى المدرسة، ولكم أن تتخيلوا فرحته العارمة وابتسامته العريضة وهو يسمع قرار والده بإخراجه من المدرسة ليتعلم (صنعة) يعتاش من ورائها، وبعد ألف واسطة وواسطة قبل جارهم أبو إبراهيم النجار أن يدربه في الورشة (المنجرة) الذي يعمل فيها، وما هي إلا سويعات قليلة حتى أعاده إلى أهله متمنياً عليهم الاحتفاظ به، فلقد كاد أن يتسبب بمأساة بل بكارثة عندما بادر إلى تشغيل المنشار الكهربائي دون اتخاذ أسباب الوقاية المطلوبة والمتبعة في (المنجرة).. الله ستر، وقرر رب العمل؛ كرمى للجار الطيب؛ ألا يقاضيه وألا يختلق مشكلة لأهله، واكفتى بطرده وطلب من أبي إبراهيم بمرافقته إلى البيت ليتأكد من وصوله بالسلامة وليبين لأهله السبب وأنه ليس سبباً شخصياً، ففي نهاية الأمر أبو إبراهيم وأبو عبد الستار جيران والباب بالباب والجار قبل الدار..
قبع عبد الستار في وجه أمه وأبيه، يأكل ويشرب ويلهو، ولا عمل له، فلا هو فالح في المدرسة ولا في العمل، وامتدت السنون حتى أشار أحد المعارف أن يلتحق بالجيش، فالجيش واسع يأوي كل من يلجأ إليه، وفيه عمل لأي جندي أو مجند، وللأمي فيه مكان بحسب إمكانياته وقدراته، وفيه انضباط شديد، ومهما كانت التجربة قاسية فهو وظيفة تؤوي وتستر ولها في نهاية كل شهر راتب، وهكذا كان.. التحق عبد الستار بالجيش وهناك ذاق الأمرّين، فهو في أدنى درجات الخدمة العسكرية، لا يوكل إليه إلا أخس الأعمال، وهو تسلية رفاقه ومن دونهم ومن هم أعلى منهم، وأبدله البعض لقب (الخائب) بـ(الحمار) وأفهموه أنه نشيط مثابر في العمل كالحمار.. من جهته لمْ يضره (الخائب) فلِمَ يضيره (الحمار) طالما أنه يلبس البزة الرسمية وتحت حماية الدولة وله في كل آخر شهر راتب أهله ليتزوج وينجب، لقد بدأ بتكوين أسرة هو في نظرها الأب والمعيل والحامي من ذئاب الشوارع، صحيح أنه (خائب) و(حمار) ولكنه تحت حماية (المعلمين)، وما أكثرهم، يقود سياراتهم، ويحمل أثقالهم، ويتحمل أذاهم وأذى أبنائهم، ويسكت عما يراه من شذوذهم وبلاويهم.
كانت حياة عبد الستار روتينية، إلى أن بدأ (الحراك)، ولم يفهم ماذا يجري ولِمَ يجري، ولم يحاول أن يفهم، اعتبر الأمر أكبر من أن يستوعبه، ويكفيه أن (المعلمين) يجتمعون ويعالجون الموضوع، وكل ما رسخ في ذهنه أن هناك عصابات مسلحة تعيث فساداً في الوطن، وأنها تستقوي بالغريب، وأنها تريد القضاء على لقمة عيشه، وتم استنفار الجميع وتغير روتين حياته فبات أكثر الأوقات مستنفراً مع (معلمه) عليه أن يكون يقظاً وأن يكتفي بتنفيذ الأوامر التي تلقى إليه، وكل ما قيل له: "افتح عينيك"، ففتحهما وغالب نعاسه حتى أحس بهما تحترقان.
كان يسمع نكات زملائه البذيئة، وسبابهم القميء الموجه للإرهابيين من العصابات المسلحة، وكان يسمع تفاخرهم بعدد القتلى الذين أسقطوهم من المتظاهرين الخارجين على السيد (الرئيس).. وأراد لمرة واحدة أن يكون بطلاً، وأراد لمرة واحدة أن تكون له قصته التي يرويها عن بطولته وإقدامه وتفانيه في خدمة الوطن والسيد (الرئيس)، وكان يتحين الفرصة، إلى أن عرض عليه أحدهم؛ ولعله كان مستهزئاً؛ أن يشارك في خدمة وطنه والدفاع عنه ضد هؤلاء (الزعران).. وبلا تردد وافق على الاقتراح.. فقد حسِب أن الوقت قد حان ليكون كبقية الرفاق، بطلاً مغواراً يده على الزناد، وقد سمع أن هناك مكافأة على رأس كل (أزعر) يسقط، فالضرب لا يكون إلا على الرأس أو القلب، هذه هي الأوامر العليا.
اتخذ موقعه فوق سطح عمارة عالية مشرفة وسدد بندقيته نحو مجموعة متجمهرة تتحدى (الدولة) التي شرفته بلبس بزتها وخدمة علمها، لم يستطع من موقعه أن يميز وجوه المتجمهرين، ولم يستطع أن يسدد إلى شخص بعينه، ولكنه اعتمد على حظه في أن يصيب أحدهم، سدد سلاحه وشدد قبضته وأطلق رصاصة واحدة هوى على أثرها (أحد ما)، أدرك ذلك من الهرج والمرج الذي حصل للمتجمهرين، الآن يستطيع أن يرفع رأسه بين رفاق السلاح، فهو لا يقل عنهم في خدمة البلد وها هو يقلل عدد (الأعداء) واحداً، كادت فرحته تطير به، لا يصطبر على إخبار والديه وزوجته وأولاده بإنجازه، فهو لم يعد (عبد الستار الخائب) ولا (عبد الستار الحمار) إنه اليوم (عبد الستار المغوار)، وطلب إذناً استثنائياً لزيارة أهله لساعة واحدة فقط، وجاء الإذن تشجيعاً له ومكافأة على عمله البطولي، وهُرع إلى أهله ليبشرهم بما قام به، وهو يحلم بالنياشين تترى عليه وبترقيته وبزيادة راتبه، ويحلم بـ.. وبــ.. وبـ..
ووصل إلى حارتهم، وجمهور من الناس كباراً وشباباً وصغاراً أمام باب أهله.. "يا لطيف كم أصبحت الدنيا صغيرة!! لقد وصل خبر بطولته قبل أن يصل هو نفسه.. وقبل أن تنوه به وسائل الإعلام.. وهاهم جيرانه وأحبابه يتجمعون ليقدموا أحر التهاني لعائلته بهذا البطل الصنديد".. ولكن.. ما باله يسمع آيات من الذكر الحكيم ولا يسمع أهازيج النصر!! ويرى وجوهاً مقطبة ولا يرى ابتسامات زاهية!! ما بال هؤلاء المتجمهرين ينظرون إليه بازدراء!! لم لا يصافحونه بحرارة ويهنؤونه على ما فعل من أجل بلده ورئيسه!!
اخترق (عبد الستار) الجموع ودخل البيت ليرى جسداً مسجى والوجوم يسيطر على الوجوه، تقدمت منه أمه برِجْلين متخاذلتين.. أمسكت بيده وقالت بصوت متهدج: "عظم الله أجركم، لقد استشهد أخوك برصاصة قناص من كلاب السلطة، أدخل عليه وودعه الوداع الأخير، إنا لله وإنا إليه راجعون".
(عبد الستار) تخلص من كل ألقابه السابقة، لم يعد (الخائب) ولا (الحمار) إنه الآن (كلب السلطة) تطلقه ينهش في جسد أهله.
***

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين